ازداد ألم عينيها، أخذت تفركهما فازدادتا إحراقا و تدميعا، و الظهيرة حارة جدا، الربيع قادر على الحرارة إذن و على الغبار و العرق، "جو زبالة" تفكر ثم تبتسم و هي تتذكر أباها الذي كلما ذكر أحدهم الجو السيئ أمامه صاح بعلو صوته "حكومة وسخة".
مازالت صور الشيخ ثقيلة على ذراعها، و تملأ حقيبتها، بعض الصور تظهره بجلباب أبيض و عمامة مسدلة على كتفيه، و بعضها بالبدلة و الكرافتة، تتأمل صوره بعينيها الحمراوين، تتمهل عند لحيته الهائلة المغرية بالتمليس, الموحية بالنعومة و النظافة الشديدة، تقرأ بتعتعة البنود التي سوف ينفذها للشعب، تعليم، علاج، سكن، صحة، عمل، تبلع ريقها عند الألفي جنيه كحد أدنى للأجور، تسرح و عيناها مفتوحتان على السيارات المتوقفة في إشارة المرور، (السيارات مغلقة النوافذ تعني أنها مكيفة.) و على ملابس النساء الراكبات فيها, على لفة طرحهن، أحمر شفاههن، نظاراتهن، أصابعهن. أيقظها أصبع ممدود من يد ممدودة من ذراع ممدود من نافذة سيارة، لكنه لم يكن أصبعا نسائيا، كان أصبع الشيخ المشرف يشير لها بمتابعة العمل، اندفعت بين السيارات تلقي إلى من بها الصور "صوتك أمانة إدّيه لمولانا".
اضطرت أن تغامر بالتحويد على المستشفى الأميري لتكشف، فعيناها تؤلمانها حقا، لا تستطيع أن تواصل التوزيع بهاتين العينين، الدموع فيهما تموّج المشاهد أمامها، و الشيخ المشرف بالتأكيد لن يمر ثانية قبل ساعتين.
تأملها الطبيب أكثر بقليل مما يفعل عادة مع المريضات قليلات الجمال، و أخذ ينظر إلى صور الشيخ بضيق، وهو يجري الكشف على عينيها الملتهبتين ببطء و تردد انتابته فكرة أن يعطيها قطرة توسيع قاع العين فتظل لا ترى سوى خيالات لبقية اليوم فيحرم ذلك الشيخ إحدى أدواته، ثم تردد لأنه سيحرمها كذلك ما قد يعطوه لها آخر اليوم، أخيرا أعطاها الروشتة و تركها لتنصرف ، استدار فرآها قد تركت على مكتبه صورة للشيخ وهو يبتسم بثقة، فاستوقفها قبل أن تبلغ الباب "عاوز أشوف قاع العين".
عندما كانت الممرضة تقطر في عينيها قطرة التوسيع فكرت أن الطبيب لابد يريد أن يكرمها لأنها تعمل للشيخ، فوجهه بدا لها مضيئا بنور الإيمان ، و قد رأته ينظر إلى صور الشيخ باحترام كبير، كما أنه يعلق في رقبته سلسة تحمل صورة صغيرة لشيخ لم تره من قبل، شيخ طويل الشعر و منكوش اللحية، و يرتدي كاسكتة حمراء على مقدمتها نجمة، ثم تساءلت كيف يكون الطبيب ملتزما و يرتدي سلسلة؟، لكن فكرت: من أنا لأعرف كل الإجابات؟