العائلــةُ المقدَّسـة
خاص ألف
2010-05-26
زيتٌ، زعترٌ، بصلٌ يابسٌ، عَدَسٌ مجروشٌ، زيتونٌ، بُرغلٌ أسمرُ.!.
هذه هيَ العائلةُ المُقدَّسةُ.!. عذراً من "ماركس وأنجلز".!؟.
الزَّيتُ في دمِي سراجٌ أبديٌّ، والزَّعترُ في فمِي قامةٌ لا تقبلُ النِّسيانَ؛ عَلَّمانِي الوفاءَ: زعترٌ .. بُطْمٌ .. حِمِّصٌ .. بِزْرٌ أسودُ، توابلُ .!.
كانَتْ أمِّي تُحَمِّصُهُمْ، وتطحنُهُمْ؛ وتنامُ مطمئنَّةً. ضمِنَتْ أنَّ الصَّباحَ سيمرُّ على خيرٍ، دونَ جوعٍ: "شُوربَةُ العَدَسِ المجروشِ: المخلوطةُ". لا أعرفُ لماذا كانوا يسمُّونَها: "مخلوطة".!، إنَّها ليسَتْ مخلوطةً بِشيءٍ أبداً؛ ها هي الأخرى تستعدُّ، لِتقومَ بمَهَمَّتِها المُقدَّسَةِ في إسكاتِ جُوعِ خمسةِ أطفالٍ وأُمِّهِمْ.!.
على العشاءِ، كُنَّا نكتفي بِالزَّيتونِ، والزَّيتِ والزَّعترِ مع البَصَلِ اليابسِ؛ أمَّا أبي، فلمْ نكُنْ نعرفُ ما يتناول على الفطورِ أوِ الغداءِ أوِ العَشاءِ إلا نادراً؛ عندما كانَ يشتهِي أَكْلَةً، تُحَضِّرُها لهُ معَ كأسِ العَرَقِ؛ بعدَ أنْ نَنامَ؛ وكانَتِ الروائحُ الشهيَّةُ تَغْزُونا في أسرَّتِنا: " نقانِقُ مَقليَّةٌ - جُبْنُ قشقوانَ- سردين- كُبَّة نَيَّة - تُونْ و .. و ... و ".!. وكانَ الُّلعابُ يسيلُ بِغزارَةٍ فوقَ مِخَدَّاتِنا المُهترئةِ؛ يخترقُها، نُفيقُ فنراها مُبَلَّلَةً.!.
نَبَتَ في رأسِي فُضولٌ كبيرٌ: أَنْ أعرِفَ ما يفعلُهُ هذا الخِنزيرُ البَرَّيُّ الَّذي يفترسُ كُلَّ شيءٍ وحدَهُ بعيداً عن أعيننا. كانَ يُحِبُّ أَنْ يأكلَ وحدَهُ كي يرتاحَ مِنْ رُؤيتِنا، ونحنُ نُحَدِّقُ فيه. في الصَّباحِ، كُنَّا نستيقظُ على صُراخِهِ المُزمجِرِ، يَسُبُّ ويشتُمُ أُمِّي، وأهلَها، ومَنْ أنجبَها، والسَّاعةَ الَّتي رآها فيها؛ وكانَتْ تبكي، تبكي بصمْتٍ فاجِرٍ؛ وكُنَّا ننالُ نصيبَنا مِنَ الصُّراخِ والسِّبابِ والشَّتائِمِ، كُلَّ ظُهْرٍ، وكُلَّ مساءٍ، وحتَّى في مُنتصِفِ الَّليلِ؛ وكانَتْ تبكي، ونبكي، نُصِمُّ آذانَنا، نُدْخِلُ أصابعَنا فيها؛ لِيخفُتَ صوتُهُ الجبَّارُ المُزَلزِلُ في المكانِ .!.
لم يكُنْ يتركُ لنا إلا بِضْعَةَ فرنكاتٍ يوميَّاً؛ " دبّري حالِكْ، ما مَعِي، مِنْ وِيْنْ بَدِّي لَحّقِلْكُنْ!.". ويمضِي صافِقاً البابَ وراءَهُ؛ أمَّا باقي الرَّاتبِ الَّذي كانَ يتقاضَاهُ مِنْ عملِهِ في "الرِّيجي"؛ فكانَ يتنعَّمُ بِهِ وحدَهُ، وحده.!؛ لا أحدَ سِواهُ.!.
زَيْتٌ وزعترُ..!. كُلُوا، يا أولادَ القّحْبَةِ، كُلُوا؛ أَلا تَشْبَعُون.؟. أطعِمِيهِمْ بُرغلاً، شوربةَ عَدِس؛ ماذا أفعلُ لكُمْ .؟. مِنْ أَيْنَ.؟.
لذلكَ كُلِّهِ: "أُعلِنُ انتمائِيَ إلى العائلةِ المُقدَّسةِ، عائلتِي المُحترمةِ؛ كُنَّا نأكلُ عائِلتَنا بشهيَّةٍ عارمةٍ، نلتهِمُها حتَّى الُّلقمةِ الأخيرةِ، حتَّى النُّقطةِ الأخيرةِ؛ علَّنا نشبعُ، ولمْ نشبَعْ.؟!.
لا يزالُ في داخلِنا جُوعٌ مُقيمٌ، وأسئِلةٌ، ونارٌ هُنا في قَعْرِ أرواحِنا؛ مُنذُ سنواتٍ طويلةٍ مرَّتْ، وإلى الَّلحظةِ أشعرُ بِنِعْمَةِ لُقمةِ الزَّيتِ والزَّعترِ؛ بِفَضْلِهِما عليَّ، وأُكِنُّ احتراماً خاصَّاً لـ"شوربةِ العَدَسِ، والبَصَلِ، والزَّيتونِ، والبُرغُلِ.".
هذهِ هِيَ عائلتِي الَّتي أُحِبُّها جِدّاً؛ وأعترفُ أنِّي لولاها، لَمِتُّ أنا وأَخواتِي الأربعِ مِنْ مَرَضٍ مُزْمِنٍ، أو مِنْ سُوءِ التَّغذيةِ.!.
شكراً أيَّتُها البَصلةُ الزَّكيَّةُ.!. شكراً أيُّها الزَّيتُ الوَفِيُّ.!. شكراً لِلعَدَسِ والزَّعترِ والبُرغلِ؛ شكراً لأنَّكُمْ صَمَدْتُمْ سنينَ طويلةً، وشَكَّلْتُمْ فريقَ طوارئٍ رائعٍ؛ وأنقذتُمونِي وأخواتِي مِنْ قَدَرٍ فاجرٍ عاهرٍ، شَكَّلَ مِنَّا فريقاً ممتازاً، يعبَثُ ويتسلَّى بِهِ على هواه؛ ليكونَ بِحَقٍّ " قدراً همجياً " كما ينبغي.!.؟.
القِصَّةُ لمْ تنتَهِ بَعْدُ .!؟. اِنتظرُونِي ...!.
...................................
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف
08-أيار-2021
18-تموز-2015 | |
18-كانون الأول-2011 | |
05-تشرين الثاني-2011 | |
26-تشرين الأول-2011 | |
18-تشرين الأول-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |