اللقــاءُ الأخيــرُ.
خاص ألف
2011-10-26
اِستعدَّ جيِّداً لِلِّقاءِ اليومَ. سنواتٌ طويلةٌ مرَّتْ، وهيَ هُناكَ، يُفَرِّقُ بينَهُمَا بَحْرٌ ومٌحيطٌ، اِشتاقَ إِليها كثيراً، أخذَ حمَّاماً ساخِناً، فَرَكَ جِلْدَهُ بِالِّليفةِ حتَّى كادَ يَكْشُطُهُ؛ أكثرَ مِنَ الصَّابونِ، غسلَ شعرَهُ عدَّةَ مَرَّاتٍ. أخذ المنشفةَ، نَشَّفَ جِسْمَهُ بِتُؤَدَةٍ، خرجَ مِنَ الحمَّامِ كالدِّيكِ الخارجِ لِلتَّوِّ مِنَ الفُرْنِ. "نعيماً"، ردَّدَتْها زوجتُهُ وابنتاهُ معاً، " اللهْ ينعِمْ عليكُمْ ". ردَّ وهُوَ يفرُكُ شعرَهُ بِالمِنْشَفَةِ.!.
لَبِسَ قميصَهُ المُقَلَّمَ بالأبيضِ والأزرقِ، وارتدى بِنطالَهُ الكُحْلِيَّ، صَفَّفَ شعرَهُ جيِّداً، رَشَّ العِطْرَ المُتَوَفِّرَ لَدَيْهِ، اِنتعلَ حذاءَهُ، وَضَعَ ساعتَهُ في مِعْصَمِهِ، نظرَ فيها، إِنَّها السَّاعةُ الرَّابعةُ والنِّصْفُ بعدَ الظُّهْرِ، بِقِيَتْ نِصْفُ ساعةٍ على الِّلقاءِ.
خرجَ مِنَ البيتِ، لَمْ تسأَلْهُ زوجتُهُ شيئاً، فقَدِ اعتادَتْ على أَنْ يخرُجَ في أوقاتٍ مُتفاوِتَةٍ بِحُكْمِ ارتباطاتِهِ الأدبيَّةِ الكثيرةِ معَ أُدباءَ وشُعراءَ، بالنَّظَرِ إلى مَوْقِعِهِ في مُؤَسَّسةٍ ثقافيَّةٍ رسميَّةٍ.!.
كانَ الهواءُ رطيباً، اِستقلَّ سيَّارةَ الأُجرةِ، وصلَ إِلى بيتِ الصَّديقِ الَّذي يَسِّرَ لَهُ مَهَمَّةَ الِّلقاءِ بِحبيبتِهِ الغاليةِ، فأعطاهُ مِفتاحَ البيتِ المَهْجُورِ، لِيلتقِيَ فيهِ بِحبيبتِهِ، هو بسيطٌ، لَكِنَّه مُجَهَّزٌ بِما يلزمُ مِنْ أثاثٍ بسيطٍ يفِي بِالغَرَضِ.!.
دخلَ على مَهَلٍ مُتَلَفِّتاً خلفَهُ، ثُمَّ فتحَ البابَ، ودخلَ مُباشرَةً إِلى الصَّالونِ. جلسَ على أريكةٍ مُقابِلَ البابِ ينتظرُها، فَهِيَ تعرفُ البيتَ، وكانَتْ قدِ التقَتْ بِهِ فيهِ منذُ بِدايةِ علاقتِهِمَا، يومَ لمْ يكنْ مِنْ مكاٍن يُؤْوِيهِما لِيلتقيا؛ مَضَى على ذلكَ ما يُقارِبُ الأربعَ والعشرينَ سَنَةً.
سَمِعَ صوتَ خَطَواتِها في مَدْخَلِ البِنايةِ، شَنَّفَ أُذُنَيْهِ، شَمَّ رائِحتَها الَّتي سَبَقَتْها، وصلَتْ إِلى البابِ، نَقَرَتْ عليهِ نقرتَيْنِ خفيفَتَيْنِ، عرفَ أَنَّها هِيَ، فَقَدِ اتَّفقَا على ذلكَ كإشارةٍ مِنْها.!.
فتحَ لها البابَ بِتُؤَدَةٍ، وَلَجَتْ، وَانْسَلَّتْ إِلى الدَّاخِلِ بِخِفَّةٍ على رُؤُوْسِ أصابِعِهَا؛ طَمْأَنَها أَنَّ الوَضْعَ مُمْتازٌ، وأَلاَّ داعِيَ لِلْحَذَرِ أَوِ الخَوْفِ، وَأَنَّ المكانَ آَمِنٌ تماماً. جلسَتْ بِقُرْبِهِ على الأريكةِ، عانَقَتْهُ عِناقاً طويلاً، ضَمَّها إِلى صَدْرِهِ، شَمَّها، تَنَهَّدَا، تَأَوَّهَا كثيراً، نَظَرَ في عينَيْهَا، وَرَدَّ خِصْلَةً مِنْ شَعْرِهَا الهَفْهَافِ عَنْ جَبِيْنِها، كانَ وجهُها مَطْلِياً بِمساحيقَ لَمْ يَعْهَدْها مِنْ قَبْلُ، الحُمْرَةُ الإِلهيَّةُ لَمْ تَعُدْ هِيَ ذاتَها، بِطانَةُ جَفْنَيْها انسدلَتْ حتَّى كادتْ تغطِّي فَتْحَتَيْ عَيْنَيْها، جَبِيْنُها بَدَا مُتَغَضِّناً، لَمْ يَعُدْ وَجْهُهَا نَضِراً كَمَا كانَ، وَجْنتاهَا لَمْ تَبْدُوَا مَشْدودَتَيْنِ كالسَّابقِ.!.
هِيَ أيضاً نظرَتْ مَلِيَّاً في وَجْهِهِ، تفحَّصَتْ عَيْنَيْهِ، شَعْرَهُ، رَقْبَتَهُ، قَسَماتِهِ الَّتي تغيَّرَتْ، يبدُو أَنَّ الزَّمنَ قَدْ فعلَ فِعْلَتَهُ.!. وفي الَّلحْظَةِ ذاتِها، شَعَرَ كِلاهُما أَنَّ الوَضْعَ يستدعِي أَنْ يقومَا بِحَرَكَةٍ ما، بِفِعْلِ ما يُلْغِي هذهِ الَّلحَظاتِ مِنْ تَأَمًّلِ فِعْلِ الزَّمَنِ فيهِمَا، قالَ لها: لا تزالينَ جميلةً. أجابَتْ: وأنتَ كذلكَ.
خلعَتْ قميصَها، ثُمَّ حَمَّالَةَ نَهْدَيْهَا، نظرَ فيهِما، فَانْشَدَهَ، لا يُعْقَلُ أَنْ يكونَ ذَانَكُمُا النَّهْدانِ هُما ذاتُهُمَا الَّلذانِ أراهُما الآنَ.!؛ كانَا حَجَلَيْنِ مُكْتَنِزَيْنِ بارِقَيْنِ رائِعَيْنِ، كانَا يُغَرِّدانِ؛ اِعْتَراهُ إِحباطٌ شديدٌ، وشعرَ بِطَعْنَةً تنغرِزُ في حَلْقِهِ تَشُقُّ طريقَها إِلى صَدْرِهِ، وتستقِرُّ في ضُلُوعِهِ.
اِستمرَّتْ، عانقَها بِقُوَّةٍ، ورجَاها أَنْ تلبَسَ ثِيابَها، رَمَقَتْهُ بِعُنْفٍ، وَابْتَلَعَتْ بِرِيْقِها كَلْماتٍ وَصَلَتْ إِلى فُوْهَةِ شَفَتَيْهَا، ثُمَّ خَرَّتْ، وسقطَتْ في هاويةِ الجحيمِ الَّذي باتَ يُدَوِّي في أعماقِها.!.
ماذا كُنْتَ تتوقَّعُ أَيُّها المَعْتُوهُ، أنتَ أنانيٌّ، نَعَمْ، أنتَ سافلٌ، تتفرَّجُ عَلَيَّ، وتقطعُ مَوْعِداً مَعِي لِتُهِينَنِي، أنا لَسْتُ دُمْيَةً أيُّها الأَبْلَهُ.!. هَلْ نَسِيْتَ مَنْ أكونُ.؟. ها.! قُلْ لِي، هَلْ نَسِيْتَ مَنْ أنا.؟؛ أنا حبيبتُكَ الَّتي أَحَبَّتْكَ، وَمَنَحَتْكَ أَغْلَى ما لَدَيْها، مُنْذُ كُنْتُ شابَّةً يافِعَةً في عِزِّ فُتُوَّتِي وشبابِي، أنا الَّتي جَعَلَتْكَ تَعْرِفُ الأُنْثَى، وكيفَ تكونُ على حقيقتِها، أنا الَّتي أَطْلَقَتْكَ في رِحابِ الحياةِ، حينَ كُنْتَ بَائِساً وَيَائِساً ولا تُساوِي شيئاً، كُلُّ ما كانَ لديكَ كَلِمَاتٌ، ومَعَ ذلكَ قَبِلْتُ بِكَ حبيباً، وكَتَبْتَ لِي شِعْراً، قَدْ تحلُمُ أَيَّةُ أُنْثَى في هذا العالَمِ أَنْ يُكْتَبَ لَهَا وَحْدِها، وَلَكِنَّهُ في المُحَصِّلَةِ لا يُساوِي شيئاً، ها أنتَ الآنَ تَتَحَدَّى أُنُوثَتِي وَجَمالِي الَّلذَيْنِ تَعِبَا، فَلَمْ تَعُدْ تَرَى فِيَّ تلكَ الحبيبةِ الَّتي أَخْلَصَتْ لكَ، وَبَقِيَتْ تُحِبُّكَ حتَّى هذهِ الَّلحظةِ، وَأَعْطَتْكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِهَا ما طَلَبْتَ، فَمَنْ أنتَ الآنَ، قُلْ لِي مَنْ أنتَ.؟.!.
خَرِسَ، وَجَمَ، شَحُبَ لَوْنُهُ، شَعَرَ بِدناءَتِهِ، وَصَغَارِهِ أمامَ الأُنْثَى الَّتي أرادَها أَنْ تبقَى كما كانَتْ، تلكَ الصَّبِيَّةَ المجنونةَ بِهِ، لا لِشَيْءٍ سِوَى أَنْ يَمْتَصَّ مِنْ رَحِيقِهَا مَا تعجزُ عَنْ إِشباعِهِ حُورِيَّاتُ الكَوْنِ.!.
أَخَذَتْ حقيبَتَها، فَتَحَتْها، تناولَتْ مِنْها دَسْتَةً مِنَ الدُّولاراتِ، رَمَتْها بِقُرْبِهِ على الأريكةِ، وقالَتْ لَهُ: خُذْها، هذا ما تبقَّى مِنِّي، قَدْ دَفَعْتُ لكَ الكثيرَ، ولَكِنْ آَنَ لكَ أَنْ تفهمَ أَنَّني أفهمُكَ جيِّداً جِدَّاً. رَمَقَتْهُ بِقُوَّةٍ، أَخْفَضَ جَبْهَتَهُ، وعيناهُ تطرقانِ الأرضَ. خرجَتْ على مَهَلٍ؛ حاولَ أَنْ يُناديها، فَتَيَبَّسَ لِسَانُهُ، وَاستحالَتِ الكلماتُ طِيْناً سَدَّ بَوابةَ فَمِهِ.!.
ذهبَتْ تلكَ الحبيبةُ، ما أحقرَنِي، ما أدنانِي، ذَهَبَتْ، لَمْ يَبْقَ مِنْها إِلاَّ بقايا مِنْ رائحةِ عِطْرٍ، كانَ يُغادِرُ بِدَوْرِهِ المَكانَ بهدوءٍ، يبدُو أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ مُسْتَعْجِلاً على المُغادَرَةِ.
بَقِيَ وَحِيداً، مَعَ دُمُوعِهِ، وَلَوْحاتِ صديقِهِ الَّتي عُلِّقَتْ على الجُدْرانِ، هِيَ وَحْدَها كانَتِ الشَّاهِدَ الوَحيدَ على سُقوطِهِ المُريعِ في هُوَّةٍ سَحيقةٍ، لا قَرارَ لَهَا.!.
................................
16/8/2010
08-أيار-2021
18-تموز-2015 | |
18-كانون الأول-2011 | |
05-تشرين الثاني-2011 | |
26-تشرين الأول-2011 | |
18-تشرين الأول-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |