Alef Logo
يوميات
              

البيضة الأقوى.!.

الياس توفيق حميصي

خاص ألف

2011-10-18

لم تكنْ تخلُو حارةٌ منْ ديكٍ، وبضعِ دجاجاتٍ بلديَّةٍ، تقتاتُ منَ الفُتاتِ، تزرعُ المكانَ جيئةً وذهاباً، تضعُ البيضَ، يفقسُ، ويزدادُ القطيعُ؛ ثمَّ عندَما يحينُ موعدُ الأعيادِ، تُباعُ على الأرصفةِ قريباً منْ سينما "أوغاريت".
في كلِّ عيدٍ، كنَّا نذبحُ دجاجةً بلديةً، تحشُوها أمِّي بالأرزِّ واللحمةِ المفرومةِ، والصَّنوبرِ. وكانَتِ الطَّنجرةُ الَّتي تُطْبَخُ فيها تطفحُ بماءٍ دَسِمٍ، يتحوَّلُ إلى حساءِ دجاجٍ لذيذٍ، بعدَ إضافةِ بعضِ الأرزِّ إليهِ.
أمَّا "الكُبَّةُ"، فقدْ كانَتْ تُجيدُ صُنْعَها، سواءٌ كانَتْ ممدودةً، أو مبرومَةً " مْكَبِكْبِه"، وكنَّا نأكلُ بنهمٍ، طيِّباً جدّاً كانَ طَهْوُ أمِّي؛ أمَّا أبي، فقدْ كانَ يبدأُ النَّهارَ في العيدِ بالمكوثِ في البيتِ، يمرُّ بعضُ الأقاربِ مِنَ العائلةِ شِبْهِ المُنقرضةِ الَّتي لمْ يبقَ منها إلاَّ أبي وأخَوَاه : "خليلُ" أكبرُهُمْ، و"إندراوسُ" الأصغرُ، وأولادُهُمْ وبناتُهُمْ.
يحتسي كأسَ العرقِ على مهلٍ، حتَّى موعدِ الغداءِ، يبدُو جميلاً بقميصِهِ الأبيضِ، وبنطالِهِ الكُحْلِيِّ، وحذائِهِ الأسودِ. حاجباهُ الكثَّانِ يحرسانِ بقسوةٍ حُجْرَتَيِّ عينَيْهِ الشَّهلاوَيْنِ، وخدَّاهُ يطفحانَ دوماً بلونِ الدَّمِ الَّذي يسيلُ تحتَ بشرتِهِ البيضاءِ المُلَوَّحةِ بالشَّمسِ. أمَّا شعرُهُ، فقدْ ذهبَ منْ زمنٍ، ولمْ يبقَ منْهُ إلاَّ خصلةٌ صغيرةٌ في مقدِّمةِ رأسِهِ، ويغطِّي الجانبَيْنِ شعرٌ أكثرُ غزارةً، يُرَمِّمُ ما فقدَتْ قرعتُهُ.
ننتظرُ مرورَ الوقتِ بشغفٍ، وتزقزقُ عصافيرُ بطونِنا مبكِّراً، فنُسْكِتُها ببِضعِ بيضاتٍ بلديَّةٍ، ممَّا فقشْناهُ في لعبةِ تكسيرِ البيضِ الدَّارجةِ في عيد الفِصْحِ؛ كنَّا نجمعُ أحياناً عَشْرَ بيضاتٍ أو أكثرَ، نوزِّعُ بعضَها على رفاقِنا في الحارةِ، مُشاركينَ إيَّانا بهجةَ العيدِ، ونأكلُ البيضاتِ الباقيةَ على دفعاتٍ، فلا يأتي موعدُ الغداءِ الشَّهِيِّ، حتَّى نكونَ قدِ ابتلعْنَا خمسَ بيضاتٍ، وربَّما عشراً أحياناً.!.
يبدأُ ذلكَ منذُ الصَّباحِ الباكرِ، كُنَّا ننتظرُ بزوغَ الفجرِ بلهفةٍ وشوقٍ عظيمَيْنِ؛ فإِذا تسرَّبَتْ أولى خيوطِ الشَّمسِ إلى البيتِ؛ نزعْنَا أغطيةَ الفراشَ عنَّا، وبدأْنَا نلبَسُ الثِّيابَ الجديدةَ الَّتي اشترَتْها أمِّي لنا ليومِ العيدِ. غالباً ما كانَ أخي الأكبرُ "جورجُ" يخيطُ - تساعدُه أمِّي - فساتينَ جميلةً موشَّحةً مزركشةً بألوانٍ جميلةٍ؛ تُلْبِسُ أمِّي أَخَوَاتي ثيابَهُنَّ، وتُسَرِّحُ لهُنَّ شُعورَهُنَّ، وتربطُ لهُنَّ الشَّرائطَ البيضاءَ أوِ الزَّرقاءَ أوِ الحمراءَ، كلٌّ منهُنَّ بما ينسجمُ معَ لونِ فستانِها. أمَّا أنا، فكنْتُ الولَدَ الوحيدَ، ألبَسُ بنطاليَ وقميصيَ الجديدَيْنِ؛ وحذائِيَ الجديدَ ذا اللونِ الأبيضِ في الغالبِ، ثمَّ أغسلُ وجهِيَ، وأركضُ إلى الحارةِ الَّتي يرينُ فيها السُّكونُ، كنْتُ أسبِقُ الجميعَ، أجوبُها جِيئةً وذهاباً منْ طَرَفِها إلى طَرَفِها، شَمالاً وغَرباً؛ إلى أَنْ يبدأَ الهدوءُ بالانسحابِ معَ خَطَواتِ الأطفالِ، وبعضِ الشُّيوخِ الذَّاهبينَ إلى المسجدِ المجاورِ لبيتِنا، أبتهجُ لرؤيتِهِمْ، ونتكاثرُ بعدَ دقائقَ، فنغدُو عَشْرَةً، أو خمسةَ عَشَرَ وَلَداً، كلٌّ منَّا يحملُ بيضاتِهِ بكِلْتَا كَفَّيْهِ، وتبدأُ عمليَّةُ الاستعدادِ للمبارزةِ، يتمُّ اختبارُ البيضِ بِنَقْرِ مُقَدِّمتِها ومُؤَخِّرتِها على مُقَدِّمةِ الأسنانِ، معَ وَضْعِ اليدِ الأٌخْرَى على الأُذُنِ، لِسَماعِ نقرتِها بشكلٍ جيِّدٍ، وتحسُّسِ مدَى قُوَّتِها في مُواجهةِ بيضاتِ الآخرينَ.!.
تبدأُ المُناوشاتُ والمُشاوراتُ حولَ مَنْ يشرعُ في المبارزةِ، أخيراً يبدأُ اثنانِ مِنَّا المعركةَ، بعدَ أنْ يتمَّ الاتِّفاقُ على مَنْ ينقرُ بيضةَ الآخَرِ أوَّلاً، يُمْسِكُ صاحِبُ البيضةِ المنقورةِ بيضتَهُ في باطِنِ كفِّهِ، مُفْرِجاً قليلاً ما بينَ الإِبهامِ والسَّبابةِ، بحيثُ يسمحُ لبيضةِ الخصمِ بمُلامستِها، فإِذا لمْ يُفْسِحْ مساحةً كافيةً، يعلُو الجدلُ والصُّراخُ، حتَّى يستجيبَ الأخيرُ لرَأْيِ الآخرينَ، فيُفْسِحُ ما يكفي مِنْ فَرْجَةٍ، ويقومُ الأوَّلُ بِنَقْرِ بيضَتِهِ، فإِذا انكسرَ رأسُها، أدارَها الخاسرُ منَ الجهةِ الأُخرَى، فإِذا انكسَرَتْ أيضاً، فازَ الأوَّلُ، وأخذَ بيضةَ المُنْهَزِمِ. يطفُو التَّشجيعُ، وتفوحُ الإِثارةُ، وتأخذُ المراهناتُ دورَها، وهكذا، حتَّى يخسرَ أحدُنا، ويربحَ آخَرٌ، ويتمُّ جَلْبُ الدَّعْمِ مِنَ البيتِ، بعدَ كلِّ خسارةٍ، للانتقامِ مِنَ الخَصْمِ الغالبِ، ويختلطُ الحابلُ بالنَّابلِ، ويتوزَّعُ البيضُ المُحَطَّمُ في الأَكُفِّ، وفي الجُيوبِ، وقدْ يتمكَّنُ أحدُنا أحياناً مِنْ كَسْبِ عشرينَ أوْ ثلاثينَ بيضةً، إذا أنعمَ اللهُ عليهِ ببيضةٍ قويَّةٍ شَرِسَةٍ، تقهرُ جميعَ بيضاتِ الآخرينَ، فيمشِي مَزْهُوّاً، مُتَفاخِراً كالدِّيكِ، مُعْلِناً تَفَوُّقَهُ على الآخرينَ ببيضتِهِ.!.
هنيئاً لِمَنْ يمتلِكُ البيضةُ الأقوَى.!؟. لعلَّها مُقَدِّمةٌ بسيطةٌ ومُيَسَّرَةٌ، لِنفهمَ مُذْ كُنَّا صِغاراً معنَى القُوَّةِ، وتفوُّقَ الأَقْوَى لأَنَّهُ الأفضَلُ. ففِي اللغةِ الفرنسيَّةِ مَثَلٌ يقولُ: "La raison du plus fort est toujours la meilleure.". ومعناهُ: "حُجَّةُ الأَقْوَى هِيَ دائماً الفُضلَى.".!.
نعمْ. مَنْ مِنْكُمْ يمتلِكُ البيضةَ الأَقْوَى!؟.
.......................................

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

حبيبتي

18-تموز-2015

(اِنْتِصَارُ البَرْدِ على النَّهارِ)

18-كانون الأول-2011

الَّلاذِقِيَّــــةُ ... هَلْ تَعُودُ.؟.

05-تشرين الثاني-2011

اللقــاءُ الأخيــرُ.

26-تشرين الأول-2011

البيضة الأقوى.!.

18-تشرين الأول-2011

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow