(كَعَيْنَيِّ لِصٍّ بَرِيْءٍ)
خاص ألف
2010-06-22
من أعمال الكاتب الفنان الياس حميصي
كنتُ أسرِقُ مِنْ جَيْبِهِ خمسَ ليراتٍ أو عَشْراً؛ وكانَ الأمرُ يمرُّ عليهِ أحياناً، دونَ أَنْ ينتبِهَ؛ لأنِّي كنتُ أفعلُها غالباً على صوتِ شَخيرِهِ، وكنتُ أشعُرُ بِلذَّةٍ عارمةٍ، وأنا أُدخِّنُ على حسابِ هذا الأَرْعَنِ البخيلِ إلا على نَفْسِهِ؛ كنْتُ أنفُثُ الدُّخانَ بِنَشْوةٍ، وأنا أُحْرِقُ أعصابَهُ ونقودَهُ الَّتي كانَ يُخفِيها؛ وَيُقَتِّرُ بها علينا. كانَتْ جُيوبُ بِنْطَالِهِ تَضْحَكُ، وتشكرُني، لأَنِّي أخذْتُ بِثأرِها مِنْهُ؛ أمَّا مِحْفَظَتُهُ القديمةُ الْمُهترِئَةُ، فكانَتْ تتشَفَّى مِنْهُ، وَتُوسوِسُ لِي أَنْ آخذَ أكثرَ؛ لكنَّنِي عندما فعلتُها ذاتَ مَرَّةٍ، عادَ إِلى البيتِ هائِجاً مُرغِياً مُزْبِداً صارِخاً مُهَدِّداً؛ يريدُ أَنْ يعرفَ مَنْ لَطَشَ مِنهُ عَشْرَ لَيْراتٍ؛ وكنْتُ أنا أنزوِي في رُكْنٍ، أتظاهَرُ بِأَنْ لا عَلاقَةَ لِيَ بِالأمرِ، لكنَّهُ كانَ يعرِفُ بِحِسِّهِ البَهيميِّ أَنِّي أنا فقط مَنْ فَعَلَها؛ وكانَ "يَفُشَّ خُلْقَهُ" بِأُمِّي، فتبكِي، وَتُوهِمُهُ بِأَنَّهُ رُبَّما أضاعَها؛ أو سَقطَتْ مِنهُ سَهْواً، وتَدعُو عليهِ في ذاتِ الوقتِ بِسِرِّها، لأَنَّهُ: كيفَ يمتلكُ عَشْرَ لَيْراتٍ ولمْ يترُكْ لَنا نَحْنُ – السِّتةَ: الأمَّ وأطفالَها- إِلا بِضْعَ فَرَنْكَاتٍ لِنأكلَ ونشربَ بها يوماً كاملاً ...!.
بَعدَها كانَ ضميرُهُ المَشْلولُ، وحَنانُهُ الفِطْرِيُّ يتحرَّكانِ؛ فَيُوخِزانِهِ؛ يضجَرُ مِنهُما، ولا يبقَى لَهُ إِلا العودةُ إلى المَقهى مِنْ جَديدٍ، لِيُكُمِلَ نَفَسَ الأَرِكيلةِ، و"َيَتَصَبَّبَ" على مُؤَخِّراتِ النِّساءِ الَّلواتي كُنَّ يَمْرُرْنَ مِنْ أمامِ المَقهى "مَقهى الحكيمِ" في "ساحةِ الشِّيخضاهِرِ"؛ أمَّا أنَا، فكانَ يملؤُنِي شُعورٌ مُفْعَمٌ بِالانتِصارِ على هذا الوَحْشِ.!.
خمسُ ليراتٍ أو عشرٌ كانَتْ مبلغاً جديراً بالتَّقديرِ في ذلكِ الزَّمنِ، في ستينات القرن الماضي، من الألفية الماضية.!. كانت تكفيني الخمس ليراتٍ أسبوعاً أو عشرةَ أيَّامٍ، أشتري ما أريدُ، أذهبُ إلى "مَسْبَحِ فارسَ"، أسبحُ في البِركةِ التي يبلغُ طولُها خمسينَ متراً، وعَرْضُها أكثرَ مِنْ عَشْرةِ أمتارٍ؛ آخُذُ حمَّاماً شمسيّاً. وأعودُ قبلَ المَغِيبِ، أو بعدَهُ بقليلٍ، مُسْتمتِعاً مُنتشِياً بماءِ البحرِ، وقدْ لَوَّحَتْ وجهِيَ وجسديَ الشَّمسُ؛ لمْ يكُنْ يَمضِي الصَّيفُ، حتى أغدُو أسمرَ قاتماً، مِنْ أَثَرِ أشِعَّةِ الشَّمسِ الصَّيفيَّةِ الَّتي كانَتْ تُكْسِبُ أبناءَ الَّلاذقيَّةِ لَوْناً بْرونزِيّاً، تشهَقُ لهُ الصَّبايا، وتتغزَّلُ بهِ البناتُ.!.
وكنْتُ لا أُفَوِّتُ فيلماً واحِداً، في كُلِّ يومٍ أحضَرُ فيلماً، في سينماتِ الَّلاذقيةِ جمعاء: "سينما اللاذقيةِ- "الأهرامِ"- "دُنْيَا"- "الأميرِ"( الكِنْدِيِّ اليومَ)- "الزَّهراءِ"- "شهرزادَ"، وأحدَثِها سينما "أوغاريتَ" الَّتي كانتِ الأكبرَ والأفخمَ.!.
أشترِي ما طابَ لِي، مِنْ سندويشٍ، وبوظةٍ، وبُزوراتٍ، وحاجتِي مِنَ السَّجائِرِ الَّتي كانَتْ تُباعُ بالعلبةِ أو بِالمُفَرَّقِ؛ خَمْسُ سجائرَ كانَتْ تُلَبِّي حاجَتِي، لأستمتِعَ بالتَّدخينِ يوميّاً، قَدْ تعلَّمْتُ ذلكَ مُبَكِّراً، واستمَرَّتْ عادَةً أُحِبُّها، ولازَمَتْنِي سِنِيَّ حياتِي.
كثيراً ما كانَ – بعدَ دروسٍٍ وأفلامٍ سابقةٍ – يُخفِي مِحْفَظَتَهُ في مكانٍ لا يعرفُهُ إِلا الشَّيطانُ، وأحياناً كُنْتُ أتغلَّبُ عليهِ، فأَحْظَى بها، آخذاً بِضْعَ ليراتٍ؛ وأحياناً كُنْتُ أفشلُ؛ وفي أحايينَ كثيرةٍ، كُنْتُ أكتفِي بِبِضْعِ فَرَنْكاتٍ، يُبْقِيها فَخّاً في جيبِهِ، لِيُثْبِتَ لأُمِّي أَنَّنِي لِصٌّ.!. وكُنْتُ أتجاسَرُ رَغْمَ ذلكَ؛ وأفعلُها. ينكشِفُ الأمرُ في صباحِ اليومِ التَّالي، يُرْغِي ويُزْبِدُ، يَسُبُّ ويشتُمُ، يعلُو صوتُهُ الفاجِرُ في أرجاءِ الحَيِّ؛ ولَكِنِّي ما عُدْتُ أُبالِي، فقَدْ تراكَمَتْ ديونُهُ الَّتي يَدِيْنُ بِهَا لَنَا، على مَرِّ الأَيَّامِ؛ وكُنْتُ أَعِي أَنَّ مِنْ حَقِّي كَوَلَدٍ مُجْتَهِدٍ، ومُتَفَوِّقٍ في المدرسةِ، وشَقِيٍّ في آَنٍ مَعاً، أَنَّ لِي حِصَّةً مِنْ دَخْلِهِ، أنا وأُمِّي وأَخَواتِي، يَبْخَلُ بِهَا علينا، ولا يُعْطِينَا حَقَّنَا مِنْها، ما يحتاجُهُ الطِّفْلُ، أَيُّ طِفْلٍ في هذهِ الدُّنيا، ولَوْ في الحَدِّ الأَدْنَى. كُنَّا نَبْكِي، لِنَشْحَذّ مِنْهُ ثَمَنَ القَلَمِ، أوِ المِسْطَرَةِ، أَوْ المِبراةِ.!. " يلعن أبوكُنْ عَرْصَة، بَدّكُنْ تِتْعَلّمًو كَمَان.!؟."
لذلكَ. كانَ السَّبيلُ الوحيدُ لِلانتقامِ مِنْهُ، وتحصِيلِ حُقُوقِنا المَهضُومَةِ، أَنْ أسرِقَهُ، فَعَلْتُها، نَعَمْ فَعَلْتُها، وَلَوْ عُدْتُ مَرَّةً أُخْرَى إِلى تلكَ السِّنينَ، فَسَأَفْعَلُها مَرَّةً أُخْرَى. قَدْ وَعَيْتُ مُبَكِّراً بِفِطْرَتِي، ما قالَهُ الشَّاعِرُ، فيما بعدُ، حينَ بَلَغْتُ سِنَّ الشَّبابِ:
وما نَيْلُ المَطالِبِ بِالتَّمَنِّي وَلَكِنْ تُؤْخَذُ الدُّنْيَا غِلابَا.!.
أَعْتَرِفُ بِأَنِّي فَعَلْتُها مَعَهُ أكثرَ مِنْ مَرَّةٍ، على مَدَى سَنَواتٍ مَريرةٍ مِنْ طُفولتِي؛ طُفولَتِي البَريئةِ كَعَيْنَيِّ لِصٍّ بَرِيْءٍ.؟!.
................................
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف
08-أيار-2021
18-تموز-2015 | |
18-كانون الأول-2011 | |
05-تشرين الثاني-2011 | |
26-تشرين الأول-2011 | |
18-تشرين الأول-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |