نص / مُبَلَّــلٌّ بِالمَطَــرِ
خاص ألف
2010-08-07
من أعمال الياس حميصي
هل تذكرُ حينَ التقيتُ بكَ صُدفةً في ذلك المقهى.؟؛ كنت مُبلَّلاً كياسمينةٍ خرجَتْ لِتَوِّها مِنْ حَمَّام المطرِ، ناديتُكَ بصمتٍ أنْ تأتيَ؛ لِتجلسَ قربي، فقدْ كنْتُ وحيدةً مثلَ سُلَحْفاةٍ في بَيَاتِها الشَّتَويِّ، لمْ تنتبهْ، داعبَتْ عينايَ شعرَكَ الفوضويَّ، قميصَكَ المُبْتَلَّ، نَفَضْتَ يَدَيْكَ مِنَ الماءِ، فطافَتْ حَوْلِي أمواجٌ مِنْ رَذاذِ الُّلؤلُؤِ، عَبقَتْ بِرائحتِكَ جُزُري الَّتي امتدَّتْ؛ لِتحضنَ قامتَكَ، اِجتاحَنِي طُوفانُ رَغْبَةٍ في أَنْ أفيضَ على شَطَّيْكَ كحُوريَّةِ بحرٍ، أشعلْتُ نيرانَ أنفاسِي؛ لأقومَ إليكَ، أُجفِّفَ شعرَكَ، وجهَكَ، لمْ تكترِثْ بي، كنْتَ غارقاً في سَحابِ الدُّخانِ، يرسُمُ لوحةً ضبابيَّةً على وجهِكَ الحزينِ، أشعلْتُ سيجارةً أُخرى؛ لأرسُمَ معكَ أجملَ ضَبابٍ في الكونِ، لمْ تنظُرْ إِليَّ، نفثْتُ الدُّخانَ، كَمِدْخَنَةِ قِطارٍ قديمٍ بِاتِّجاهِكَ، لمْ تعبَأْ...!؛ لمْ تلتفِتْ...!؛ جُنِنْتُ، قرَّرْتُ مُهاجمَتَكَ بِكُلِّ أسلحتِي، أَزَحْتُ كُرْسِيَّ قليلاً بعيداً عنِ الطَّاولةِ، وضعْتُ ساقاً فوقَ أُخرى، لِترَى فَخْذَيَّ المَشْوِيَّيْنِ بِجَوْرَبَيْنِ قِرمِزِيَّيْنِ تحتَ تَنُّورتِي السَّوداءِ؛ كُنْتَ ساهِماً، تنظرُ إلى الخارجِ، عَبْرَ الواجهةِ الزُّجاجيَّةِ يَدُبُّ الضَّوءُ على صفحةِ وجهِكَ اليُمْنَى وَئِيداً، حتَّى مُنتصَفِ المسافةِ بينَنا، قلْتُ في نفسِي: " لا فائدةَ.! اِترُكيهِ وَشَأْنَهُ..! هذا البليدُ الباردُ المُتعجرِفُ.". أطرَقْتُ، هاجمَنِي إِحباطٌ شديدٌ؛ مَجَجْتُ سِيجارتي بِنَهَمٍ وغضَبٍ حتَّى النَّفَسِ الأخيرِ، أطفأْتُها بعصبيَّةٍ، وتنهَّدْتُ بِصوتٍ عالٍ؛ نَظَرْتَ أخيراً إِلَيَّ بِطَرَفِ عَيْنِيكَ، خَشِيْتُ أَنْ أتنفَّسَ وَلَعِي الطازجَ ورغبتِي الخارجةِ عاريةً مِنَ الفُرنِ المُتأجِّجِ في داخلِي؛ فَكَكْتُ حذائِيَ مِنْ أَسْرِ قَدَمَيَّ، وتركْتُهُ أسفلَهُما على الأرضِ تحتَ الطَّاولةِ، بَرَقَتْ عُيونُنا كَغَمامَتَيْنِ كَثيفتَيْنِ، اِبتسَمْتَ لِي، اِبتسَمْتُ، دوَّى في المكانِ انفجارٌ خاطفٌ شجيٌّ يقولُ : تَعَالِي!. قُومِي.!؛ نَهَضْتُ مَفتُونةً مُنْبَهِرَةً، وكَمجنونةٍ اِندفعْتُ خارجةً مِنَ المَقهى؛ بعدَ أَنْ تَرَكْتُ على الطَّاولةِ ثَمَنَ فنجانِ القهوةِ، سِرْتُ هائِمةً على وجهِي صُعوداً بِاتِّجاهِ "بنايةِ الأوقافِ"؛ في شارعِ الثَّامنِ مِنْ آذارَ، كنْتُ أطيرُ، لا أشعرُ بِقَدَمَيَّ تَطَآَنِ الأرضَ، شَعَرْتُ بأنفاسِكَ تُطاردُنِي، وبعَيْنَيْكَ تغرِسانِ سِهاماً في ظَهرِي ومُؤَخِّرتِي، توقَّفْتُ عندَ النَّاصيةِ أعلى الشارعِ، اِلتفَتُّ إلى الوراءِ، كُنْتَ ورائِي مُباشرةً، ألقيْتُ عليكَ القبضَ بِالجُرْمِ المَشهودِ، فردتا حِذائِي في يدِكَ، غَرَسْتَ عينيكَ في عَيْنَيَّ، ضَحِكْتُ، ضَحِكْتَ، ضَحِكَ الشَّارعُ، المارَّةُ، البناياتُ، ضَحِكَ الهواءُ، الشَّجَرُ، ضَحِكَتِ العصافيرُ.
حافِيَةً مُبَلَّلَةَ القدمَيْنِ عَبَرْتُ ما تَبقَّى مِنْ مَسافةٍ بينَنا، ناوَلْتَنِي الحِذاءَ، أَخَذْتُهُ منكَ، حَضَنْتُهُ، رَمَيْتهُ على الأرضِ لألبَسَهُ، مَدَدْتَ يدَكَ لِتُصافحَنِي، أَبْعَدْتُ يَدِي، لمْ أجرُؤْ على لَمْسِ يدِكَ.!.
أَوْقَفْتَ سيَّارةَ أُجْرَةٍ، فتَحْتَ البابَ الخَلْفِيَّ لِي، صَعَدْتُ، وجلسْتَ أنتَ قربَ السَّائقِ، صَدَحَتْ فيروزُ تُغَنِّي مِنْ راديو السَّيارةِ: " في قهوة عا المفرقْْ.. في مَوْقَدِة وفي نار.".
اِختَرْنَا مقعدَنا هناكَ تحتَ الشَّجَرةِ الوارفةِ العتيقةِ، في المُتْحَفِ، بينَ أطلالِ التاريخِ الحديثِ والقديمِ، تحتَ بُرتقالِ القناديلِ الخافتةِ، غَنَّيْتَ لِي بصوتٍ هامسٍ، وانتشَيْتُ، أمَّا البقيَّةُ، فتعرفُها المقاعدُ والأشجارُ، جُدرانُ المُتْحَفِ، شَطُّ البحرِ، العصافيرُ المُهاجرةُ، النَّوارسُ، الموجُ، المراكبُ، يعرفُها القمرُ، تعرفُها الأزهارُ.
هل تستطيعُ أنْ ترسُمَ لَوْحَةً - يا صديقي - تليقُ بِنا؛ بِمَشْهَدِنا، لَوْحَةً تليقُ بمشاعرِي، هُناك في المَقهى طاولةٌ وكُرَسِيٌّ، وفِنْجانُ قهوةٍ، ومطرٌ وعاشقانِ مجنونانِ، وأنتَ لا تزالُ في أعماقِ رُوحِي مارِداً مُبَلََّلاً، جِنِّيّاً، أو فارساً أَحْبَبْتُهُ؛ وسأُحِبُّهُ حتَّى الرَّمَقِ الأخيرِ.!.
......................................
اللاذقية في 11/4/2009
08-أيار-2021
18-تموز-2015 | |
18-كانون الأول-2011 | |
05-تشرين الثاني-2011 | |
26-تشرين الأول-2011 | |
18-تشرين الأول-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |