خَلْــجَات
خاص ألف
2010-10-09
نظرَ حولَهُ، لم يجدْ أحداً، سوى أشباحِ روحِهِ المُضطَّرِبةِ ، حاولَ أنْ يستحضرَ أكثرَها دِفْئاً وحناناً، فحضرَتْ إليهِ كالبرقِ، أحاطتْهُ بذراعَيْها، ضمَّتْهُ إلى صدرِها، قبَّلَتْ شعرَهُ ، قالَتْ لهُ بهمسٍ : " لا تحزنْ يا حبيبي، لا تحزنْ !، تماسَكْ.! كُلُّ شيءٍ سيكونُ على ما يُرامُ.!".
اِختفَتْ منْ جديدٍ في زِحامَ أعماقِهِ، حاولَ أنْ يلحقَ بها، أنْ يُمسكَ بطرفِ ثوبِها الأبيضِ، وهي تختفي في ضبابِ الرُّوحِ رُويداً رُويداً؛ حتَّى غابَتْ تماماً في الظلامِ.
دبَّتْ في أركانِهِ رعشةٌ باردةٌ، نغلَ كلُّ مفصلِ فيهِ، تراخَتْ أطرافهُ حتى وَطِئَتْ رُكبتاهُ الأرضَ، أجالَ بعينيهِ يميناً ويساراً، سُكونٌ صاخِبُ يلُفُّ أرجاءَ المكانِ، ومنْ بعيدٍ ألقَتْ غمامةٌ أثقالَ ظِلِّها على الأرضِ؛ فقطعَتْ دابرَ الشَّمسِ الَّتي كانَتْ تلملمُ جدائلَها المتناثرةَ ذهباً أحمرَ؛ يُزَنِّرُ الغمامةَ بوَهْجٍ صارخٍ، يرتَدُّ إلى أغوارِ السَّماءِ الرَّماديَّةِ.
حاولَ أنْ ينهضَ واقفاً، أحسَّ أنَّهُ ثقيلٌ، تكادُ قدماهُ تنغرسانِ في لَدْنِ الطِّينِ؛ رشقَتْ وجهَهُ شَلفَةٌ منْ مطرٍ ناعمٍ، وَخَزَتْ حبَّاتُهُ جبينَهُ ووجنتَيْهِ، أنفَهُ وشفتَيْهِ؛ مسحَ وجهَهُ بكفِّهِ، نظرَ أمامَهُ، لقد صمَّمَ هذهِ المرَّةَ أنْ يُتابعَ مهما كانَ الثَّمنُ؛ رغْمَ أنَّهُ منهوكُ القِوى، مضطرِبُ الحَواسِّ، مُشتَّتُ الأفكارِ، يشعرُ بِالضَّياعِ والوَحدةِ؛ إِلا أنَّ شيئاً غريباً بدأَ يشدُّهُ إلى الأمامِ كخيطٍ منَ الضَّوءِ؛ أحسَّ بهِ يخرجُ منْ أعماقِهِ، ويمتدُّ أمامَهُ كسهمٍ، شعرَ برغبةٍ عارمةٍ في السَّيرِ، تبعَ السَّهمَ، مشَى، نسِيَ جَسَدَهُ، ثِقَلَهُ، أحسَّ بِخِفَّةٍ كبيرةٍ، مشَى وهوَ يسمعُ أصداءَ أغنيَّةٍ يحبُّها، يتردَّدُ صداها في المكانِ؛ ويتبدَّدُ وئيداً في الفضاءِ، شعرَ بنشوةٍ عظيمةٍ، حثَّ خُطاهُ، فاحَ في صدرِهِ عَبَقُ الياسمينِ، فانطلقَ يعدُو، يخترقُ السَّهمُ بطنَهُ خارجاً من ظهرِهِ، نظرَ خلفَهُ، لم يجدْ أثراً لهُ، قالَ في نفسِهِ : "لا بُدَّ أنَّهُ يستقِرُّ في أحشائِي، لا بأسَ، سأحافظُ عليهِ، هذا أفضلُ، مَنْ يعلمُ ؟؛ قد أحتاجُهُ مرَّةً أُخرى؛ إنسَ ذلكَ الآنَ، وانطلقْ."؛ ركضَ، كأنَّهُ نبتَ له جَناحانِ، شعرَ بسعادةٍ تغلِّفُ قلبَهُ، انشرحَتْ أساريرُهُ، أغمضَ عينَيْهِ، ثمَّ صرخَ بكلِّ قوَّتِهِ : "إنِّي قادمٌ, إنِّي قادمٌ.!".
اِنطلقَ يعدُو كأنَّ جياداً أصيلةً جمحَتْ بِهِ؛ أحسَّ بوَقْعِ سنابِكِها يدكُّ الصَّخْرَ في صدرِهِ؛ تسبحُ بأجسادِها في فلاةِ رُوحِهِ، وشعرَ بقلبِهِ يدقُّ كالطَّبلِ في نفيرٍ، عبَّ الهواءَ بقوَّةٍ، فامتلأَتْ رئتاهُ بهواءٍ باردٍ، اِنتعشَ أكثرَ، زفرَ بقوَّةٍ، أحسَّ لهيباً يخرجُ من فمِهِ؛ تنفَّسَ مثلَ حيوانٍ هائجٍ، سَمِعَ ضرباتِ قلبهِ تقوَى أكثرَ، تتسارعُ حتَّى كادتْ أنْ تغيبَ، خفَّفَ العَدْوَ، غطَّتْ حبَّاتُ العَرَقِ المنهمرةُ على أجفانِهِ عينَيْهِ؛ أبطأَ حتَّى توقَّفَ، أزاحَ العرقَ السَّاخنَ عنْ جبينِهِ وعينَيْهِ ووجنتَيْهِ؛ نظرَ إلى الأُفْقِ، ردَّتِ الشمسُ وراءَها بابَ النَّهارِ، عمَّ السُّكونُ، وبدأَتْ ستائِرُ الَّليلِ تنسدِلُ بصمتٍ رهيبٍ؛ شعرَ برغبةٍ في البكاءِ، احتقنَتْ عيناهُ، طَفَرَتَا بالدَّمْعِ غزيراً، بلَّلَ شفتَيْهِ المرتعشتَيْنِ اليابستَيْنِ، أحسَّ بهِ ساخناً ومالِحاً، وسدَّتْ حنجرتَهُ غُصَّةٌ قاتِلةٌ، حاولَ أنْ يبلعَ ريقَهُ؛ كانَ باطِنُ فمِهِ جافَّاً، ولسانُهُ ملتصِقاً بقَعْرِهِ، استحضرَ بعضَ الُّلعابِ، بلعَ، فانغرسَتْ في بلعومِهِ سكِّينُ شقَّ نَصْلُها جَوْفَهُ.
تنفَّسَ الصُّعَداءَ، مشَى بخَطَواتٍ وئيدةٍ متعبَةٍ، أنهكَهُ العَدْوُ، وهدَّ قواهُ، بحثَ عنِ الخيطِ، لم يجدْ لهُ أثراً، تأمَّلَ في الأفقِ بعيداً، شعرَ بغُربةٍ ووحشةٍ قاتلتَيْنِ، ناحَ صوتٌ في داخلِهِ :" لمَ كلُّ هذا العَناءِ يا ربِّي؟؛ لمَ كلُّ هذا العَناءِ؟.".
بكَى، لم يعدْ قادراً على وَقْفِ النَّزيفِ المتفجِّرِ منْ عينَيْهِ وقلبِهِ .
حاولَ أنْ يستحضِرَ الوجهَ الَّذي أحبَّ مثلما لمْ يُحِبَّ منْ قبلُ أحداً؛ الوجهَ الدافئَ الحنونَ؛ فحضرَ على الفورِ، وهمسَ لهُ : "ما بكَ منْ جديدٍ يا حبيبِي.؟, لمَ كلُّ هذا الحُزْنِ يا وحيدِي؟. ألَمْ أوصِكَ ألاَّ تحزنَ، ألاَّ تهتمَّ كثيراً، أمَا أوصيتُكَ أنْ تعتنيَ بنفسِكَ.؟؛ ها أنتَ – كالعادةِ - تخذلُني، ولا تُصغِي لِنَصائِحي، هذا أنتَ!؛ كما عهدتُكَ دائماً. آهِ !، كمْ أتعبتَني!؛ منذُ كنتَ صغيراً، كنتَ شقيَّاً وذكيَّاً ومُتْعِبَاً، إهدأِ الآنَ، إهدأْ أيُّها الولدُ الشقيُّ، لقد كَبِرْتَ؛ ألمْ يحُنْ أنْ تستريحَ وتتعقَِّلَ.؟، إنِّي أشعرُ بكَ، وبكلِّ ما يجولُ في خاطرِكَ، بكلِّ ما تشعرُ بهِ وتكابدُهُ، لا بأسَ، لِكُلِّ شيءٍ نهايةٌ؛ وهذهِ ليسَتْ نهايةُ العالمِ، أرجوكَ يا حبيبِي، لا تعكِّرْ عليَّ صفوَ سَلامِي هُنَا؛ دَعْنِي أستريحُ يا وَلَدِي!.".
أصاخَ السَّمْعَ لِهَمْسِ رُوحِهِ، للصَّوتِ الَّذي فاحَ فيها مِنْ جديدٍ؛ اِبتسمَ، فتبدَّدَتْ سحابةُ الحزنِ منْ عينَيْهِ، ونادَتْ رُوحُهُ: " أينَ ذهبْتِ يا أنشودةَ الزَّمنِ الأليفِ، يا أصلَ حياتي، يا نافذةَ الضَّوءِ الفسيحِ، يا فجرَ الفرحِ.؟؛ أينَ ذهبْتِ يا كرمةَ التَّواضُعِ والبساطةِ والكبرياءِ، يا تِنَّوْرَ الحنانِ ونَبْعَ الدِّفْءِ، إنَّ رُوحي ممتلئةٌ بكِ كما امتلأَتْ بالنِّعمةِ رُوحُ مريمَ؛ إنِّي هُنا بينَ فَراغِ السَّماءِ وجليدِ الأرضِ، أصلِّي بقلبِي ورُوحي وعقلِي أنْ تستريحِي في أعماقِي، كما تستريحُ نبتةٌ على صفحةِ الغَديرِ؛ لكنَّهُ الطِّفلُ الشَّقِيُّ ذاتُهُ، يُؤرِّقُني، يعبثُ بي، يُشَتِّتُنِي، يُبعثِرُ أفكارِيَ، يُلملمُني، وينثرُني كيفَ يشاءُ، ومتى يشاءُ.".
بيننَا طِفْلٌ وهويَّةُ زمانٍ، لو تعلمينَ، سيِّدتي؟، لو تَرَيْنَ.؟؛ كلُّ شيءٍ هُنا يُلاحِقُني، يُلاحِقُ الطِّفْلَ الَّذي فِيَّ، كلُّ شيءٍ هنا فادِحٌ، غامِضٌ ومُظْلِمٌ ! .
غابَتِ الشَّمسُ؛ ستُشرِقُ منْ جديدٍ؛ وطفلُكِ الشَّقِيُّ سيبقَى شقيَّاً، مُتْعَبَاً، فسامحينِي، لأنَّكِ مِنْ حليبِ الشَّمسِ أرضَعْتِنِي، وفي شوكِ الألمِ عمَّدْتِنِي، عَلَّمْتِنِي كيفَ أزرعُ في بُستان الحياةِ محبَّتي؛ فسامحينِي.
اِرتمَى على الأرضِ منهوكاً، مُتهالكاً؛ وغفَا، غفَا بِسَلامٍ باهِتٍ لنْ يدُومَ.!.
.......................
اللاذقية في15/9/1998.
08-أيار-2021
18-تموز-2015 | |
18-كانون الأول-2011 | |
05-تشرين الثاني-2011 | |
26-تشرين الأول-2011 | |
18-تشرين الأول-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |