Alef Logo
يوميات
              

أيُّها البحرُ.!. أستميحُكَ عُذْراً.

الياس توفيق حميصي

خاص ألف

2010-10-30

لماذا البحرُ.؟. لماذا انتصرَتْ عقيدةُ البَرِّ، فأقحَمَتْ نفسَها في تُخومِ الشَّواطِئِ الَّتي وهبَتْ أبناءَها سَمَكاً، ومَحَاراً، وحيواناتٍ بحريَّةً، وأصدافاً، وثماراً بحريَّةً.؟. لماذا ذُبِحَ البحرُ مِنَ الوريدِ إِلى الوريدِ، حتَّى النُّقطةِ الأخيرةِ مِنْ مِلْحِ الحياةِ.؟. حياتِهِ تلكَ الَّتي عاشَها مليئةً بالزَّهْوِ والرَّقْصِ والغِناءِ والثَّورةِ والهِياجِ والغَضَبِ، والرُّواءِ والهدوءِ والسُّكونِ والأُلْفَةِ والاحتضانِ الرَّائعِ لَنا، نَحْنُ – الآدميِّينَ - الآتينَ مِنْ رَحِمِهِ إليهِ. المُعَمَّدينَ بِسِرِّ مائِهِ الأبديِّ.!.
منذُ الصَّباحِ الباكرِ، كانَ الصَّيادونَ يجولُونَ في أروقَةِ المدينةِ، يهتفونَ: "يَاللهْ يا سَمَكْ، طازَهْ السَّمَكْ، سِلطانِي السَّمَكْ، مَعْنا جربيدهْ، لُقُّسْ، غَرِيبهْ، سَرْدِيْنْ، عْصِيْفِرْ."؛ وما كانَ يُغادِرُ أحدُهُمُ الحارةَ إلاَّ وقد باعَ ما امتلأَتْ بِهِ قُفَّةُ القَصَبِ المَمْلُوءَةُ بالأسماكِ؛ كيلو، كيلو ونِصْفُ، كيلوانِ، أو رُبَّما أكثرُ، تشترِي سيِّدةُ المنزلِ، بِحَسَبِ عددِ أفرادِ العائلةِ. يُنَظَّفُ السَّمَكُ، ويُحَضَّرُ لِلْقَلْيِ، أوْ يُتَبَّلُ في صَيْنِيَّةٍ، وينتظِرُ دورَهُ في فُرْنِ الحارةِ، بعدَ الانتهاءِ مِنْ بَيْعِ الخُبْزِ؛ يأتي دورُ صُوَانِي المَأكولاتِ الَّتي تُشْوَى في الفُرْنِ بعدَ إطفائِهِ على اختلافِ أنواعِها، وما كانَ أحلَى مُرورَنا قُرْبَ الفُرْنِ، لِنَشُمَّ الرَّوائِحَ الطَّيِّبَةَ الَّتي تنبعِثُ مِنْ صَوَانِي الأَكْلِ والحَلْوَياتِ، فاتِحَةً شَهِيَّتَنا على آخرِها، فَنُقْبِلَ على الطَّعامِ بِنَهَمٍ ورغبةٍ لا تُقاوَمُ.!.
كُلَّ يومٍ يمرُّ بائِعُ سَمَكٍ، وهُمْ على كَثْرَتِهِمْ قليلونَ، وكانُوا معروفينَ بِالاسْمِ، هذا أبُو زَيْدٍ، وذاكَ أبو عَمْرٍو، وذلكَ أبو فُلانَ، وكانَتْ وجبةُ السَّمَكِ بِأنواعِهِ الكثيرةِ الطَّازَجَةِ الخارجَةِ لِلتَّوِّ مِنْ البحرِ لا تُكَلِّفُ كثيراً، فَسِعْرُ الكيلوغرامِ مِنَ السَّمَكِ يتراوحُ بينَ النِّصْفِ ليرةٍ والليرتَيْنِ، وكانَ يُمكِنُ لأَيَّةِ ربَّةِ بيتٍ أَنْ ترتاحَ مِنْ عنَاءِ طَبْخَةٍ صَعْبَةٍ أَوْ مُكْلِفَةٍ بِوَجْبَة سَمَكٍ. فليسَ أسهلَ مِنْ تنظيفِهِ، وتحضيرِهِ لِلْقَلْيِ، وتحضيرِ صَحْنِ سَلَطَةٍ، وطَبْخِ طنجرةِ بُرْغُلٍ بِالعَدَسِ؛ يأتي الأولادُ مِنَ المدرسةِ، والأبُ مِنْ عملِهِ، تَضَعُ الأمُّ المائدةَ، ويأكلُونَ هنيئَاً، ويقومُونَ وهُمْ يلعقونَ أصابعَهُمْ، مُثْنِيْنَ على الأُمِّ، شاكرينَها على الطَّعامِ اللذيذِ، وأَكْلٍ فاخِرٍ مَلَؤُوا بِهِ مَعِدَاتِهِمْ.
لَمْ يكُنْ يمرُّ أسبوعٌ واحِدٌ دونَ أَنْ تتناولَ العائلةُ أكلةَ سَمَكٍ. وإِذا ما حضرَ ضَيْفٌ، أو دُعِيَ إِلى الغداءِ أوِ العشاءِ مَدْعُوُّونَ، كانَ لا بُدَّ مِنْ وَجْبَةِ سَمَكٍ طازَجَةٍ لذيذةٍ، تُزَيِّنُ الأطباقَ والمازَوَاتِ الَّتي كانَتْ تزدحمُ بأنواعِها المَوائِدُ. هذا عَدَا المأكولاتِ البحريَّةَ الأُخرَى الَّتي كانَ يجودُ بِها البحرُ: الأَخْطَبُوطُ، الأصدافُ، الحَبَّارُ، الكِيْكُونُ، سُلَحْفاةُ البَحْرِ، وسِواها، وكانَتْ هُناكَ أطباقٌ خاصَّةٌ بِها، تُصْنَعُ وتُؤْكُلُ بِشَهِيَّةٍ عارِمَةٍ، لا بديلَ لِنَكْهَتِهَا وطَعْمِها، وكَمْ كُنْتُ أشعرُ بِالحُبورِ عندَما كانَ أبِي يُحْضِرُ مِثْلَ هذهِ الثِّمارِ البَحْرِيَّةِ، لِتُحَضِّرَها أُمِّي لَهُ معَ كَأْسِ العَرَقِ، فيقضِي ليلَتَهُ يُمَزْمِزُ عليها، حتَّى آخِرِ الليلِ؛ ننامُ ورائِحَتُها تُزْكِي أُنوفَنا، بعدَ أَنْ نكونَ قَدْ نِلْنَا حِصَّتَنا مِنْها.
ماذا حدثَ لِلْبَحْرِ.؟. كيفَ ارْتَضَى - وهُوَ المَهِيبُ الرَّهيبُ القَوِيُّ العنيفُ الغَضُوبُ الهائِجُ المائِجُ -، كيفَ ارْتَضَى أَنْ يحدُثَ ما حَدَثَ.!؟.
قَدْ أبعدُوهُ، أبعدُوهُ، ودَكُّوا حُدودَ خاصِرتِهِ الرَّائِعَةَ المُمْتَدَّةَ على طُوْلِ كُورنِيشِ اللاذقيَّةِ، مِنَ المَرْفَأِ القديمِ جَنُوباً، وشَمالاً حتَّى نِهايةِ الشَّاطئِ رائعِ الجمالِ الفاتِنِ المُعَمِّرِ العتيقِ الحَنُونِ الرَّفيقِ الأَنيسِ الوَفِيِّ المُخْلِصِ البَهِيِّ. أبعدُوهُ، ورُدَمُوا أجملَ شاطئٍ على طُوْلِ المُتوسِّطِ؛ لأَنَّه: " كانَ الشَّاطِئَ الوحيدَ الَّذي يُمْكِنُكَ أَنْ تجلِسَ على الكُرَسِيِّ في مَقْهَىً مِنَ المَقاهِي المُتَحاذِيَةِ على طُوْلِهِ، وأَنْتَ تَبُلُّ قَدَمَيْكَ بِماءِ البَحْرِ مُباشَرَةً. ". هذا ما قالَهُ لنا ذاتَ يومٍ المُفَكِّرُ السُّورِيُّ الكبيرُ "إِلياس مرقص" في مقهَى البُستانِ في اللاذقيَّةِ، رَحِمَهُ اللهُ.
حُفِرَ قَبْرُ البَحْرِ في اللاذقيَّةِ على مَدَى سِنِينَ منذُ بدايةِ الثَّمانيناتِ، وَاحْتَلَّ المَرْفَأُ الجديدُ مكانَ صَدارَتِهِ وعِزِّهِ وعُنفوانِهِ، غَزَتِ السُّفُنُ الكبيرةُ والصَّغيرةُ، والآلِيَّاتُ والرَّافعاتُ الثَّقيلةُ الضَّخمةُ مَرْبَضَهُ، وغارَ هُوَ في البعيدِ.!.
سقطَتِ المَسابِحُ الَّتي كانَتْ تمتدُّ مِنْ جِوارِ "نادِي الضُّباطِ": "مَسْبَحُ جورج"، و"العُمَّالِ" و"مَسْبَحُ اِنْدْرَاوُسْ"، و"مَسْبَحُ فارسَ"، وبعدَهَا "الكاسْخَانُمْ، والمَسَاطِرُ والفَرْشاتُ."، اِندثرَتْ كُلُّها، قُبِرَتْ على مَرْأَى وَمَسْمَعِ أَهْلِ اللاذقيَّةِ، ومُحِبِّي البَحْرِ مِنْ جميعِ أرجاءِ البِلادِ.!.
هذه هِيَ السَّنَةُ السَّابعةُ الَّتي لَمْ يَذُقْ فيها جِسْمِي طَعْمَ البَحْرِ. لَمْ أَعُدْ أَرْغَبُ في الذَّهابِ إِليهِ، ويُحْزِنُنِي أَنْ أَلْتَقِيَهُ، لأَنَّنِي أعلمُ يقيناً أَنَّني تَواطَأْتُ، وسَكَتُّ، وكُنْتُ شاهِداً على وَأْدِهِ، مِثْلَ جميعِ النَّاسِ الَّذينَ شَهِدُوا قَتْلَهُ، وإِعْدامَهُ.!.
بِبساطَةٍ، أنتَ اليومَ إِذا أردْتَ أَنْ تسبحَ، فما عليكَ إِلَّا أَنْ تذهبَ إِلى أحَدِ المَسابِحِ في فُنْدُقٍ مِنْ فِئَةِ خَمْسَةِ النًّجومِ، وتدفعَ ألفاً وأربَعَمِئَةِ ليرةٍ سوريَّةٍ عَنِ الشَّخْصِ الواحِدِ لِتَسْبَحَ فقطْ.!!!.
وأمَّا الأماكِنُ الرَّائعةُ الَّتي كُنَّا نرتادُها لِلسِّباحةِ في الشَّاطِئِ الأزرقِ، أوِ ابْنِ هَانِئَ، أوِ المدينةِ السِّياحيَّةِ، فقَدْ آلَتْ إِلى وَضْعٍ كارِثِيٍّ، إِلى أماكنَ لِـ"التَّشليحِ العَلَنِيِّ"، ومَنْ يرفُضُ، ما عليهِ إِلَّا الامتناعُ عَنْ رؤيةِ البَحْرِ، أوْ أَنْ يرَى نفسَهُ في مَنامِهِ يسبحُ فيهِ.!.
أَفْرَغَ البحرُ غَضَبَهُ هُوَ الآخَرُ، إِنِّي أراهُ يبصُقُ علينا، مُتَحَدِّياً أَنْ نستطيعَ إِيقافَ انتحارِهِ البَطِئِ، لَمْ يَعُدِ الماءُ صافِياً نقيَّاً كما كانَ، ومَا عادَتْ ثِمارُهُ وأسماكُهُ بِذاتِ الطَّعْمِ، ولا الرَّائحةِ، لَمْ يَعُدْ يجودُ علينا كمَا سبقَ وفعلَ في عُقودٍ سَلَفَتْ.!.
السَّلامُ عليكَ أيُّها البَحْرُ، سَلامٌ على مُروجِكَ الزَّرقاءِ الَّتي أهدَيْتَنا إِيَّاها ذاتَ زَمَنٍ، سَلامٌ على طَعْمِ المِلْحِ الَّذي كانَ يَقِينَا مِنْ تَفَسُّخِ أدمغتِنَا وجُلودِنَا تحتَ شَمْسِ حَزيرانَ وتمًّوزَ وآبَ وأيلولَ؛ لكَ كُلُّ الفُصولِ تنحنِي، لأَنَّكَ تبقَى في رُوْحِي وعقلِي كَريماً بِلا حُدودٍ، وأبيَّاً عزيزاً بِلا مِنَّةٍ مِنْ أَحَدٍ.
أستميحُكَ عُذْراً لأَنَّنِي شاهِدٌ على قَتْلِكَ.!؟.
أنتظرُ على حريقٍ وَعْدَ قيامَتِكَ المَجيدةِ.!.
...............................
اللاذقية في 6/10/2010.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

حبيبتي

18-تموز-2015

(اِنْتِصَارُ البَرْدِ على النَّهارِ)

18-كانون الأول-2011

الَّلاذِقِيَّــــةُ ... هَلْ تَعُودُ.؟.

05-تشرين الثاني-2011

اللقــاءُ الأخيــرُ.

26-تشرين الأول-2011

البيضة الأقوى.!.

18-تشرين الأول-2011

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow