رسالةٌ في هواءِ دمشقَ.
خاص ألف
2010-12-06
سيِّدتي.!. في دمشقَ جميلاتٌ كثيراتٌ، شقراواتٌ وسمراواتٌ، بيضاواتٌ وحنطيَّاتٌ، سوداواتٌ وحمراواتٌ.
وفي دمشقَ، سيَّاراتٌ فارهةٌ كثيرةٌ، تنتخمُ بها الشَّوارعُ والأزقَّةُ، وشققٌ فخمةٌ كثيرةٌ، تُطِلُّ على كلِّ زاويةٍ في دمشقَ القديمةِ والجديدةِ.
في دمشقَ، فنادقُ منْ فئةِ خمسِ النُّجومِ، وسبعِ النُّجومِ وعَشْرِها ، لذلكَ رأيتُ النُّجومَ كيفَ تتزاحمُ في ليلِ دمشقَ، لتتسوَّلَ فندقاً آخرَ يصطفُّ في مشاريعِ استثمارٍ سياحيٍّ، لتجدَ لها مكاناً في مقهىً أو فندقٍ أو مطعمٍ.!.
في دمشقَ، كلُّ شيءٍ يُباعُ ويُشرَى، كلُّ شيءٍ مُتاحٌ ومُباحٌ، الوحيدُ الَّذي خرسَ إلى الأبدِ، "بردَى"، استحالَ مصرِفاً للمياهِ الآسنةِ، تصدرُ منهُ روائحُ كريهةٌ، وتنطلقُ غازاتٌ سامَّةٌ وقاتلةٌ.!.
في دمشقَ، أشربُ فنجانَ القهوةِ ( اسبريسًّو)، في مقهى (كوسْتا)، فقطْ بمئةٍ وخمسةٍ وعشرينَ ليرةً، وأشربُ كأسَ ماءٍ بخمسٍ وثلاثينَ ليرةً.
اللَّهجةُ العراقيَّةُ غزَتْ دمشقَ، يا سيِّدتي، بقربِ طاولتِنا المركونةِ في زاويةٍ منَ المقهَى، وتحتَ سماءٍ صافيةٍ، وشمسٍ لمْ تَمَلَّ الصَّيفَ والخريفَ، كنْتُ وصديقيَ الجميلَ، وكانَ قربَنا على الطاولةِ المُجاورةِ ثلاثةُ أغنياءَ عراقيُّونَ، يتحدَّثُونَ عنِ المالِ والمشاريعِ، والبنوكِ والحوالاتِ، وعنْ مئاتِ آلافِ الدُّولاراتِ؛ وكنْتُ وصديقيَ نتحدَّثُ عنْ موقعٍ إلكترونيٍّ، يُحاولُ أنْ يتنفَّسَ بنقاءٍ في رِئَةِ دمشقَ، وأنْ يقدِّمَ وجباتٍ ثقافيَّةً طيِّبةً لأُناسٍ باتُوا مُهْمَلينَ ومُهَمَّشينَ، يجوبُونَ أروقةَ دمشقَ، للبحثِ عنٍ سريرٍ لينامُوا، بعدَ ليلةِ سُكْرٍ عاهرةٍ، فلا يجدونَهُ، لا في فندقٍ، ولا في بيتِ صديقٍ، فتحنُّ عليهِمْ كُرَسِيُّ الحديقةِ الفارغةُ، لينامُوا حتَّى يُشرِقَ الصُّبحُ، وتوقِظُهُمْ سِياطُ شمسِ نهارٍ جديدٍ.
سيِّدتي.!. في دمشقَ، لمٍ يتبقَّ الكثيرُ منَ الأصدقاءِ، لقدٍ خلعَ النَّاسُ هنا جميعاً ثوبَ هذهِ الصِّفةِ الغريبةِ الباليةِ، لمْ تعُدِ تَجِدُ الصَّداقةُ لها مكاناً آمِناً في دمشقَ، بَلْ إِنَّ النَّاسَ باتَتْ تهربُ مِنَ الأصدقاءِ، وتحتمِي بمكاتِبَ أو شققٍ أو سيَّاراتٍ، تشقُّ طريقَها إلى قِمَّةِ "قاسَيونَ" بسرعةٍ مُذهلةٍ.!.
هناكَ، حيثُ توجدُ لوحاتٌ بارزةٌ، قرأْتُها وحدِي:
(ممنوعٌ مرورُ الفقراءِ.).
(ممنوعٌ استعمالُ زمُّورِ الصِّدقِ.).
(يُمْنَعُ تجاوزُ القِيَمِ السِّياحيَّةِ.).
(طريقٌ سالكةٌ للأثرياءِ فقطْ.).
(لا تقترِبْ منَ السَّياراتِ الفارهةِ.).
(ممنوعٌ التَّصويرُ، منطقةٌ سياحيَّةٌ مقدَّسةٌ.)
وغيرُها وغيرُها...
بعدَ أربعةِ وعشرينَ عاماً مضَتْ على تقديمِ استقالتِي إلى الهيئةِ العامَّةِ لرابطةِ مُحِبِّي دمشقَ، جئْتُ إليها معَ زوجتِي وحبيبتِي" سَحَرَ "، وقبلَ أربعةٍ وعشرينَ عاماً، عُدْتُ منها إلى اللاذقيَّةِ، معَ زوجتِي وحبيبتِي " سَمَرَ " الرَّاقدةِ في سيَّارةِ إسعافٍ، لِتموتَ في اليومِ التَّالي، وترحلَ إلى الأبدِ.!.
كَمْ كنْتِ قاسيةً يا دمشقُ.!.
وكَمْ كنْتِ صَلِفَةً، كَمْ كنْتِ متعجرفةً، ومتسلِّطةً وقاتلةً.!
لمْ تُسْعِفي حبيبتي ببعضِ ما تُهْدِينَ الأغنياءَ، مِنْ حياةٍ أخرَى يدفعونَ ثمنَها، لِيعيشُوا أطولَ مِمَّا نعيشُ نحنُ، نعمْ، تُهدينَها الأغنياءَ فقطْ.
لذلكَ، قرَّرْتُ أنْ أكرهَكِ بقوَّةٍ، لمْ أكرهْكِ فقطْ بمشاعرِي وأحاسيسِي، بَلْ كرهتُكِ بوَعْيٍ وإدراكٍ تامَّيْنِ.
لا أعرفُ كيفَ حدثَ أَنْ زرتُكِ الآنَ، ولا أعرفُ كيفَ وجدْتُ نفسِي مُتسامِحاً معكِ.!.
نعمْ. أغفِرُ لكِ، لأنَّني أعرفُ أنَّكِ بريئةٌ مِنْ كلِّ ما يُنْسَبُ إليكِ، كما بَرَدَى، أنتِ الضَّحيَّةُ.
قدْ رأيْتُ ذلكَ جيِّداً في عينَيْكِ الدَّامعتَيْنِ، وفي شَعْرِكِ المُغْبَرِّ، في شرايينِكِ الباهتةِ، وحضنِكِ الرَّحْبِ النَّازفِ الَّذي يتَّسِعُ لِكُلِّ هذا الخرابِ.!.
كنْتُ سمعتُكِ تهمسينَ لي بصوتٍ مُنْكَسِرٍ:
" أهلاً بكَ يا حبيبِي.!.".
فارتبَكْتُ كأيِّ عاشقٍ بعدَ طولِ غيابٍ، وكادَتْ تدهسُنِي سيَّاراتُ المارقينَ المُسرعةُ.!.
في دمشقَ نَحْلٌ كثيرٌ، وعسلٌ كثيرٌ، وزنابيرُ لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى.!.
كيفَ اجتمعَ ذلكَ كلُّهُ فيكِ، يا سيِّدتي، دفعةً واحدةً.؟.
تغيَّرْتِ كثيراً يا دمشقُ، ولكنَّني أُطَمْئِنُكِ، إلى أَنِّي لمْ آتِ إليكِ طامِعاً في شيءٍ؛
جئْتُ إليكِ فقطْ كي أراكِ كما أنتِ، فلَمْ أجِدْكِ.
صديقُ البارحةِ الَّذي جمعَني وإيَّاهُ عِشْقُ المسرحِ، منذُ ثلاثينَ عاماً، أصبحَ الآنَ مسؤولاً ثقافيَّاً كبيراً، ولمْ يسمحْ لي بمقابلتِهِ، لمْ أكُنْ طامِعاً في شيءٍ، كلُّ ما في الأمرِ، أنَّني أردْتُ أنْ أسَلِّمَ عليهِ، وأُبارِكَ لهُ؛ فقدْ أحبَبْتُهُ واحترَمْتُهُ دائماً، لكنَّني كعادتِي، كنْتُ غبيَّاً، عندَما تخيَّلْتُ أنَّ مقابلتِي معَهُ ستمتدُّ إلى ساعةٍ؛ وأنَّهُ سيأخذُني بينَ أحضانِهِ، عندَما سيرانِي، ويدعُونِي في مكتبِهِ الفاخرِ إلى شُرْبِ فنجانِ قهوةٍ.!.
ها أنذَا أعودُ مِنْ دمشقَ، إلى مدينتِي الَّتي أُحِبُّ، إلى اللاذقيَّةِ، أكثرَ حُبَّاً لها، وعِشْقاً لِبحرِها والنَّاسِ فيها، كأنَّني سافرْتُ إلى مكانٍ آخرَ في طَرَفِ المَجَرَّةِ، أجِدُ نفسِيَ الآنَ غريباً، مُوْحَشَاً، وحزيناً.
لكنَّني سأعودُ إلى دمشقَ ذاتَ يومٍ، مَنْ يدري، رُبَّما تنفضُ عنْ شعرِها ذاكَ الغُبارَ،
وتمتشقُ قامتَها، ويُفيقُ بَرَدَى مِنْ سُباتِهِ، عندَها رُبَّما لا أكونُ موجوداً.
لذلكَ، تركْتُ رسالةً في بريدِ هواءِ دمشقَ؛ سيجدُها أحدٌ ما، ذاتَ يومٍ، ويقرؤُها، سأشعرُ بذلكَ حتَّى لوْ طوانِيَ التُّرابُ.
بَقِيَ أنْ أقولَ:
وجدْتُ في دمشقَ صديقَيْنِ رائعَيْنِ، أُكِنُّ لهُما وحبيبتي كُلَّ المحبَّةِ والاحترامِ، إنَّهما " مديحةُ وسحبانُ ". وأحبَبْتُ ابنَيْهِما " عَمْرَواً وَعَزَّةَ ".
هذا يكفينِي وحبيبتِي، لِنُفَكِّرَ غداً في رحلةٍ قادمةٍ إلى دمشقَ.!.
شكراً لهُما لأنَّهما مَكَّننانِي مِنْ كتابةِ رسالتِي في هواءِ دمشقَ.
إلى لقاءٍ، سيِّدتي.!!!.
......................................
اللاذقية في 29/11/2010.
08-أيار-2021
18-تموز-2015 | |
18-كانون الأول-2011 | |
05-تشرين الثاني-2011 | |
26-تشرين الأول-2011 | |
18-تشرين الأول-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |