Alef Logo
يوميات
              

وداعــاً. نلتقــي.

الياس توفيق حميصي

خاص ألف

2010-12-21

التقيتُ بهما صُدْفَةً، وكالعادةِ عرفْتُ أنَّهما فرنسيَّانِ، فحاسَّتي السَّابعةُ أوِ الثَّامنةُ - إذا صحَّ ادِّعائِي - تُعينُني على معرفةِ جنسيَّةِ الأجانبِ، وبِخاصَّةٍ الفرنسيِّينَ منهُمْ، ربَّما لأنَّني عبرَ سنواتِ عمرِي المنصرمةِ، تعرَّفْتُ إلى الكثيرينَ منهُمْ، منذُ كنْتُ طالباً في المرحلةِ الثَّانويَّةِ، وذلكَ لأتحدَّثَ معهُمْ بالفرنسيَّةِ، أتحدَّثُ بها معَ أهلِها لأُتقِنَها، وكمْ كنْتُ أُخْطِئُ، ويُصَحِّحُونَ لي، أوْ أطلبُ منهُمُ التَّصويبَ إذا مرَّرُوا لِيَ خَطَأً، لأعرفَ الصَّوابَ فلا أُكَرِّرُهُ.
عرفْتُ أنَّهما يبحثانِ عنْ " فُندقِ اللاذقيَّةِ " الَّذي يرتادُهُ الأجانبُ بِشكلٍ خاصٍّ في مدينتِي؛ تفاجأَا كالعادةِ أوَّلَ الأمرِ، لِسماعِهِمْ شخصاً يُبادرُ الحديثَ معهُمْ بالفرنسيَّةِ. دَلَلْتُهُمْ على الفندقِ، وقلْتُ لهُما إِنَّني باق ٍهُنا في ذاتِ المكانِ ساعةً أخرَى، قُدَّامَ محلِّ " أبي النُّورِ "، في "ساحةِ الشِّيخضاهرِ"، وإِنَّهُ يسرُّني أنْ يعودَا بعدَ أَنْ يحجزَا ويرتاحَا قليلاً، إذا رغِبا بذلكَ.
مضَتْ نصفُ ساعةٍ تقريباً، فإذا بهِما أمامِي، رحَّبْتُ بهِما، وسألْتُهُما عنِ الفندقِ، فأبديَا ارتياحاً لِكَوْنِهِ ليسَ غالياً ونظيفاً ومناسباً جدَّاً لهُمَا.
سألْتُهُما عمَّا يُريدانِ أنْ يفعَلا، أجابَا ألاَّ شيءَ مُحَدَّداً في نِيَّتِهِمَا عَمَلُهُ، فاقترَحْتُ عليهِما أَنْ يذهبَا معي إلى بيتِي، لأُعَرِّفُهُما بزوجتِي وبابنِي، ودعَوْتُهما إلى العشاءِ، نظرَ كُلٌّ منهُمَا في الآخرِ مُسْتَغْرِباً، اعتَدْتُ على رُدودِ أفعالِ كلِّ مَنْ قابلْتُهُمْ مِنْ قَبْلُ، فأكَّدْتُ لهُما فوراً أّنَّني سأكونُ سعيداً باستضافَتِهِما، وبتناولِ العشاءِ معاً.
قَبِلا شاكرَيْنِ، مَرَرْتُ إلى دُكَّانِ "أبي طوني"، أخذْتُ لِتراً مِنَ العَرَقِ، وسأَلْتُهُما عمَّا يَوَدَّانِ أَنْ يشربَا، فأجابَ " أوليفيير" بِأَنَّهُ لا يشربُ، ثُمَّ أقنعْتُهُ بِالبيرةِ، أمَّا "ماريانُ" فاعتذرَتْ عنِ الشُّرْبِ، لأنَّها تشكُو مِنْ مشاكلَ هضميَّةٍ في مَعِدَتِها.
أخذْتُ بعضَ الأغراضِ مِنَ الدكَّانِ، ركِبْنَا سيَّارةَ أُجرةٍ، وتوجَّهْنَا إلى البيتِ.
لم تكنْ زوجتِي "سَحَرُ" تعرفُ بِأّنَّ ضيوفاً بِرِفْقَتِي، و"طارقُ" كانَ في مشوارِهِ اليوميِّ معَ أصدقائِهِ، لمَّا يكُنْ عادَ إلى المنزلِ؛ رَنَنْتُ الجرسَ، فتحَتْ "سحرُ" البابَ، دَعَوْتُهُما لِلدُّخولِ، دخَلا، سلَّمَا عليها، أجابَتْهُما بِاللغةِ الإنكليزيَّةِ الَّتي تتحدَّثُها بِشكلٍ مقبولٍ؛ جلسْنا قليلاً في الصَّالونِ، تأمَّلا المنزلَ، شدَّتْهُما اللوحاتُ الزَّيتيَّةُ الَّتي أُزَيِّنُ بها جدرانَ الصَّالونِ، أبْدَيَا إعجاباً بها. شكرْتُهُما، ودَعَوْتُهُما لِلخروجِ إلى الشُّرفةِ، فالجَوُّ حارٌّ، والجلوسُ في الشُّرفةِ أكثرُ إِنعاشاً، فبينَ الحينِ والآخَرِ تهبُّ نسائِمُ الخريفِ في أيلولَ، لِتُزيحَ الكثيرَ مِنْ حرارةِ صيفٍ لمْ تَشْهَدْهُ البِلادُ منذُ ثمانيةِ عقودٍ، بشهادةِ المُعَمِّرينَ الَّذينَ أكَّدُوا أَنَّ هذا الحَرَّ لمْ يشهدُوا مثيلَهُ في حياتِهِمْ.!.
على طاولةٍ صغيرةٍ وضعَتُ وسحرَ ما توفَّرَ لدينا مِنْ حاضِرِ الطَّعامِ، وما أحضرْتُهُ معي مِنَ الدكَّانِ، لمْ يكُنْ على الطَّاولةِ شيءٌ فاخرٌ ذو قيمةٍ كبيرةٍ، إِذْ لمْ تكُنِ الزِّيارةُ مُسبَقَةَ الإعدادٍ، ولمْ تستطِعْ سحرُ في وقتٍ قصيرٍ أَنْ تصنعَ شيئاً خاصَّاً، وقد نوَّهَتْ إلى ذلكَ لَهُما، فشكرا، وأكلا هنيئاً مِمَّا توفَّرَ.
تحدَّثْنا، وتناقَشْنَا في أمورَ كثيرةٍ، وحضَرَتْ أختُ سَحَرَ وزوجةُ أخِيها، جارتِنا في البنايةِ ذاتِها؛ جلسَتَا بعضَ الوقتِ، ثمَّ انسحَبَتَا.
جالا في البلادِ مِنْ شمالِها إلى جنوبِها، ومِنْ شرقِها إلى غربِها، لمْ يتركَا رُكْناً أوْ موقِعاً أثريَّاً إلاَّ وزارَاهُ، وأطلعانَا على خَطِّ سيرِ رحلتِهِما في سوريةَ.
اللاذقيَّةُ مَقْصَدُهُما الأخيرُ، بعدَها، سيُسافِرانِ إلى دمشقَ، لِلعودةِ بالطَّائرةِ إلى بلدَيْهِما، فهِيَ فرنسيَّةٌ تقطنُ في "باريسَ"، وهوَ بلجيكيٌّ يعيشُ في "بروكسيل"، هُمَا زَوْجانِ، يلتقيانِ كُلَّ أسبوعٍ، إِمَّا أَنْ تُسافرَ هيَ إليهِ، أوْ يُسافرُ هوَ إلى "باريسَ"، ليلتقِيا، ويَنْعَما معاً بالعطلةِ الأسبوعيَّةِ، ثمَّ يعودُ كلٌّ مِنْهُما إلى عملِهِ قبلَ انقضاءِ العطلةِ، لِيُعاوِدا عملَهُما، ويعيشا حياتَهُما، كلٌّ مِنْهُما كما يحلُو لَهُ، مُمارِساً اهتماماتِهِ ونشاطاتِهِ وهواياتِهِ.
لَفَتَنِي في حديثِهِما، أنَّهُما كانَا يحومانِ حولَ موضوعٍ معيَّنٍ، جاءَتِ الإشاراتُ في مُنْتَهى التَّهذيبِ، لَكِنَّنِي – كالعادةِ – فهمْتُ قَصْدَهُمَا. اِنبهَرَا بأنَّ هناكَ في سوريةَ مَنْ يشربُ الكُحولَ، ويدعُو الأجانبَ إلى بيتِهِ، وفي الأخصِّ أَنَّ هناكُ نساءٌ غيرُ مُحَجَّباتٍ أوْ مُنَقَّباتٍ، كما رَأَيَا في أكثرِ مِنْ مدينةٍ جالا بها في سوريةَ.
لمْ أبذُلْ جهداً كبيراً لإِفهامِهِما أنَّنا نعيشُ بينَ إِخوتِنا المسلمينَ الَّذينَ نحترمُ عاداتِهِمْ وتقاليدَهُمْ، وأَنَّهُمْ بِدَوْرِهِمْ يحترمُونَ عاداتِنا وتقاليدَنا، بلْ ويشاركُونُنا ونُشاركُهُمْ كُلَّ شيءٍ، مُوضِحاً لهُمْ أَنَّ سوريةَ مَوْطِنُ الأبجديَّةِ الأُولَى في التَّاريخِ، وحاضنةُ الإثنيَّاتِ المُتَعَدِّدةِ، والأديانِ السَّماويَّةِ والمَذاهبِ المُختلفةِ، مِثالٌ يُحْتَذَى في التَّعايُشِ بِسلامٍ ومحبَّةٍ نادِرَيْنِ في هذا العالَمِ.
وضرَبْتُ لهُما مِثالاً أنَّني أسكنُ في بنايةٍ، جميعُ جيرانِنا فيها مِنَ الإِخوةِ المُسلمينَ، عدا عائلتَيْنِ، عائلتِي وعائلةُ أخِي زوجتِي. وأنَّنا مُنسجمُونَ، ونتبادلُ الزِّياراتِ في المُناسباتِ وغيرِها، وأنَّ ما بينَنا مِنَ الوِدِّ والتَّحابِّ والمشاعرِ والاحترامِ كبيرٌ، ومحطُّ تقديرٍ وحِرْصٍ من الجميعِ.
حَدَّثْتُهُما عنْ "أوغاريتَ"، وعنْ برنامجِهِما في الغَدِ، وقرَّرَا زيارتَها، وزيارةَ "قلعةِ صلاحِ الدِّينِ"، ثمَّ "قلعةِ المَرْقِبِ" و"قلعةِ الحِصْنِ".
اِستمَعْنَا إلى بعضِ أغاني "فيروزَ"، أُعْجِبَا بِها كثيراً. وتَرْجَمْتُ لهُمَا بعضَ أبياتٍ مِنْ أُغنيَّةِ " أَعْطِني النَّايَ وَغَنِّ." لِجُبرانَ.
في الواحدةِ بعدَ منتصِفِ تلكَ الليلةِ، قرَّرَا العودةَ إلى الفندقِ لِيرتاحَا، ويقومَا بجولَتِهِما المُقَرَّرَةِ في الغَدِ.
وَدَّعَا زوجتِي وطارقَ الَّذي التحقَ بنا أثناءَ السَّهرةِ. أوصلْتُهُما إلى طرفِ الشَّارعِ، مرَّتْ سيَّارةُ أُجرةٍ، طَلَبْتُ مِنَ السَّائقِ أَنْ يُوصِلَهُمَا إلى الفندقِ، وأعطيتُهُ الأجرةَ سَلَفاً.
صعدَ كِلاهُما مِنَ الخلفِ، كادَتِ السيَّارةُ تنطلقُ، فَرَبَتَتْ "ماريانُ" على كَتِفِ السَّائقِ لِيتوقَّفَ، تَوَقَّفَ السَّائقُ مُندهِشاً؛ نزلَتْ مِنَ البابِ الأَيْسَرِ، ضَمَّتْنِي بقُوَّةٍ، قبَّلَتْنِي منْ خَدَّيَّ، فاندفَعِ "أوليفيير" هوَ الآخَرُ خارجاً مِنَ السيَّارةِ لِيُعانقَنِي، ويُقَبِّلَنِي.
شَكَرانِي بحرارةٍ، وشكرْتُهُما بِدَوْرِي، آمِلاً أنْ نحظَى باللقاءِ مرَّةً أُخْرَى.
ذَهَبَــا، رَحَلا، طــارَا إلى بَلَدَيْهِمَا.
هَــلْ أقــولُ: وَداعَــــاً.!
لا. لأَنَّني أثِقُ أَنَّنا نلتقِي في مكانٍ ما، في زمانٍ ما، في هذا العالمِ.
أيــنَ.؟، لا أدري، متَــى.؟، لا أدري.
لكِنَّنا نلتقـي، وسنلتقي حتَّى اللحظةِ الأخيرةِ مِنْ أعمارِنَا.!.
...............................
اللاذقية في 10/11/2010.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

حبيبتي

18-تموز-2015

(اِنْتِصَارُ البَرْدِ على النَّهارِ)

18-كانون الأول-2011

الَّلاذِقِيَّــــةُ ... هَلْ تَعُودُ.؟.

05-تشرين الثاني-2011

اللقــاءُ الأخيــرُ.

26-تشرين الأول-2011

البيضة الأقوى.!.

18-تشرين الأول-2011

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow