Alef Logo
يوميات
              

عمَّتي "أولغا"... والحذاءُ.!.

الياس توفيق حميصي

خاص ألف

2011-01-04

ذاتَ صباحٍ شتويٍّ باردٍ، أيقظَتْني أمِّي بإلحاحٍ وابتهاجٍ، أمسكَتْنِي منْ يدِي، وساقَتْنِي إلى الصَّالونِ، أجلسَتْنِي على الخوانِ الخشبيِّ العتيقِ. جلَسَتِ القُرفصاءَ مُقابلِي، مدَّتْ يدَها إلى حقيبةٍ بجانبِها، أخرجَتْ منها حذاءً بُنِّياً شتوياً بعُنُقٍ طويلٍ، وبخرزات فضيَّةٍ لامعةٍ مصطفَّةٍ على جانبَيِّ مقدِّمتِهِ، أرخَتِ الشَّريطَ بسرعةٍ فائقةٍ في كلتا الفردَتَيْنِ؛ ثمَّ أمسكَتْ بقدمِي اليُمنَى، ودسَّتْها فيها، شدَّتِ الرِّباطِ، عقَدَتْهُ، وقالَتْ لِي: " عا قياسَكْ تمامْ، مبروكْ.". كُنْتُ أفركُ عينَيَّ بأصابعِي، لمْ أكُنْ قدْ صحَوْتُ بَعْدُ تماماً، ألبَسَتْنِي الفردةَ الثَّانيةَ، وطلبَتْ منِّي أنْ أقفَ، وسألَتْنِي عمَّا أشعرُ بهِ، وأنا أحتذي هذا الحذاءَ الفَخْمَ الَّذي لمْ ينعَمْ عليَّ أحدٌ بمثلِهِ مِنْ قَبْلُ، تأمَّلْتُ الحذاءَ، شعرْتُ بالدِّفْءِ يدبُّ في قَدَمَيَّ الباردتَيْنِ، قلْتُ لها: " شو حلو يا أمي.!. من وين ها البوط.؟.".
"منْ أخوكْ سميرْ...!"، أجابتني باقتضابٍ، وأخذَتْ تُخْرِجُ مِنَ الحقيبةِ بناطيلَ وستراتٍ قماشيَّةً، تُلْبِسُنِي وتُخْلِعُني إيَّاها قطعةً تِلْوَ الأُخرَى بكلِّ خفَّةٍ وإعجابٍ، وهيَ تُرَدِّدُ : " شايفْ شُو حُلُو عليكْ، يا اللهْ ما أحلى هالكنزةْ عليكْ...."؛ تحوَّلْتُ إلى دُميةٍ تقعدُ، تقومُ، تدورُ بينَ يَدَيْها، وهِيَ تقومُ بذلكَ بفرحٍ وحبورٍ باديَيْنِ على قَسَماتِ وجهِها الباسمِ الجميلِ، وعينَيْها البارقتَيْنِ.!.
عدْتُ وسأَلْتُها: " مينْ أَخُوِّي سميرْ.؟.". نظرَتْ في عينَيَّ، وقالَتْ بحنوٍّ :" أخوكْ يا ماما، أخوكْ، هوِّي عايشْ بلبنانْ معْ عَمّتَكْ نَجْلا.!.". لمْ أفهمْ شيئاً، وتابعَتْ، كادَتْ تنتهي منْ تجربةِ القطعةِ الأخيرةِ، حينَ قُرِعَ البابُ بقُوَّةٍ، كانَ أبي غادرَ البيتَ - كعادتِهِ - مُبكِّراً لِيلتحقَ بعملِهِ في "الرِّيجي"، فتحَتْ أمِّي البابَ، فإِذا عمَّتِي "أولغا" الوسطى بينَ عمَّاتي الثَّلاثِ، المقيمةِ وحدَها في اللاذقيَّةِ، بينَما الأُخرَيانِ الكُبرى "كلثومُ" العانسُ فمُقيمةٌ معَ الصُّغرى المتزوجةِ العاقرِ "نجلاءَ" في "زحلةَ" في "لبنانَ"؛ وهيَ تتَّكِئُ بكفِّها اليُسرَى المرفوعةِ على درفةِ البابِ اليُسرَى، وتَثْنِي اليُمنى، لِتضغطَ بقبضتِها على خصرِها الأيمنِ، وهِيَ تهتزُّ رافعةً قدمَها اليُمنى على عتبةَ البابِ، مستندَةً بالأُخرَى على الأرضِ؛ كانَتْ عيناها الزَّرقاوانِ تقدحانِ شَرَراً، لمْ تُلْقِ تحيَّةَ الصَّباحِ، وبادرَتْ بالكلامِ بصوتٍ عالٍ صارخةً في وجهِ أمِّي الَّتي تيبَّسَتْ في مكانِها، مُفْسِحَةً لها الطَّريقَ داعيةً إياها إلى الدُّخولِ بصوتٍ مُتَهَدِّجٍ؛ لمْ تدخُلْ، حدَجَتْ أمِّي بنظراتِها الفتَّاكةِ قائلةً: "هاتيهُمْ، يالله لشوفْ، هادونْ ما بعتوهُمْ إلكُنْ، هادونْ لإبنْ سميرةْ.". تناولَتْ أمِّي على عَجَلٍ الحقيبةَ القماشيَّةَ، وناولَتْها إيَّاها، ذهبَتْ؛ أغلقَتْ أمِّي البابَ على مَهَلٍ، تنفسَّتِ الصُّعَداءَ، فقدْ نجَتْ بأُعجوبةٍ منْ لسانِها السَّليطِ، وفُجورِها الَّذي يُضْرَبُ بهِ المَثَلُ.!.
"بسَّامُ" بِكْرُ أبناءِ وبناتِ "سميرةَ" كُبْرَى أخواتِي الثَّلاثِ مِنْ أبِي، كانَ في مثلِ سنِّي، لمْ أكُنْ أعرفُ مَنْ جاءَ بالأغراضِ إلى أمِّي وسلَّمَها إيَّاها، كان زوجُ ابنةِ عمِّها يعملُ سائقاً على خطِّ بيروتَ، ربَّما كانَ هوَ؛ وقدْ أعطاها إيَّاها بالتَّأكيدِ لأنَّها كانَتْ مُرسَلَةً إليَّ أنا، فلماذا سَطَتْ "أولغا" الحقيرةُ عليها، وسلَبَتْنِي إيَّاها.؟!.
لم أعدْ أذكرُ تفاصيلَ ما حدثَ بعدَها، لكنَّني أذكرُ تماماً أنَّ أمِّي قدْ بكَتْ بحُرْقَةٍ، وسمعْتُها في تلكَ الليلةِ تُحَدِّثُ أبي عمَّا حدثَ، بعدَ أنْ سألَها عنِ الأغراضِ، وفيما إذا كانَتْ على مَقاسِي؛ فأخذَ يشتمُ أختَهُ الشَّرموطةَ القحبةَ القوَّادةَ بسَيْلٍ مِنَ الشَّتائمِ الَّتي كانَ خبيراً بها، وأقسمَ أنَّهُ سيلعنَ "أبو اللي خلَّفْها، ها البنتِ المِنْتا...، بُكْرَا بْفَرْجِيَّا...!".
هلِ انتهَى المشهدُ.؟. لا.!. نبَتَ في رأسِيَ الحِذاءُ، لم يعُدْ يفارقُني، وتخيَّلْتُ مرَّاتٍ عديدةً كيفَ كانَ يُمكنُنِي أنْ أنتعلَهُ، وأتباهَى بهِ أمامَ جميعِ رفاقِي في المدرسةِ؛ كانَ يهاجمُني وأنا في الصفِّ، في الباحةِ، في البيتِ، في السَّريرِ؛ لمْ يبرَحْ مُخَيِّلتِي، ولسْتُ أستطيعُ تقديرَ مدَى المرارةِ الَّتي اجتاحَتْ روحِيَ حينَ يعودُ شريطُ الحَدَثِ المُؤلمِ: كيفَ جاءَتْ عمَّتي "أولغا"، وسلبَتْنِي بالقوَّةِ ما كانَ مِنْ حقِّي أنا ، لا مِنْ حقِّ "بسَّامَ" ابنِ "سميرةَ".!؟.
عانَيْتُ كثيراً منذُ كنْتُ طفلاً مِنَ البردِ في أيَّامِ الشِّتاءِ القارسِ، ومِنَ الأرضِ المُبَلَّلَةِ بماءِ المطرِ؛ وكنْتُ غالباً ما أعودُ إلى البيتِ، فتخِفُّ أمِّي أوَّلاً إلى تخليعِي حذائِي، وجورَبَيَّ المُبْتَلَّيْنِ بالماءِ، وكانَتْ تبكي عندَما ترَى قدمَيَّ الصغيرتَيْنِ مُجَلَّدَتَيْنِ ولحمُهُما مُجَعَّداً مِنَ البردِ، فتقومُ على الفورِ بتنشيفِهِما بفوطةٍ، وتُلْبِسُنِي جَوْرَبَيْنِ جديدَيْنِ، وتأمُرُني برَفْعِ قدمَيَّ فوقَ "مَنْقَلِ العَرْجومِ" لِتَدْفَأَا.!.
"سميرُ" أصغرُ إِخوتِي الشَّبابِ منْ أبِي، كانَ رضيعاً عندَما تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ "مَسَرَّةُ"، رحِمَها اللهُ، تاركةً خلفَها ستَّةَ أطفالٍ، ثلاثَ بناتٍ، وثلاثةَ صبيانٍ. ولمَّا كانَ طفلاً، وعمَّتي عاقرُ لا تُنْجِبُ، فقدْ توسَّلَتْ إلى أخِيها " توفيق" – أبِي- أَنْ يُعطيَها الطِّفْلَ، لِتُرَبِّيَهُ أحسنَ تربيةٍ، فأحوالُها جيِّدةٌ، وتستطيعُ أَنْ تُنْفِقَ عليه، ليكونَ ذا شَأْنٍ في المستقبلِ، لمْ يقبَلْ أبي أوَّلَ الأمرِ، إِلاَّ أَنَّهُ – بعدَ تدخُّلِ الأقربينَ-، اقتنعَ بالفكرةِ، وسلَّمَها الطِّفلَ، لِتتبنَّاهُ عمَّتُهُ "نجلاءُ" وزوجُها في "زحلةَ"، وينشأُ ويترعرعُ هناكَ، ويكبرُ على أنَّهُ ابنُهُما "سميرُ ال..."، ولكنَّنا منذُ كنَّا صغاراً، كانَ كلٌّ منَّا يدعُوهُ "أخوِّي سميرْ"، لا "اِبنْ عمّتي سميرْ.!.". عرفْتُ القصَّةَ كاملةً بفُصولِها المُحزنةِ المريرةِ، بعدَ سنوات منْ سماعي للمرَّةِ الأُولَى باسمِهِ، وارتبطَ اسمُهُ بالحذاءِ الجميلِ الَّذي لمْ يَعِشْ معي إلاَّ دقائقَ معدودةً، كانَ الحذاءُ لهُ، وكذلك بقيَّةُ الأغراضِ الَّتي ضاقَتْ عليهِ، فأرسلُوها إليَّ، لألبَسَها.!.
كرِهْتُ "أولغا" مِنْ وَقْتِها، بلْ إنَّها لمْ تتركْ لِيَ مجالاً لأُحِبَّها يوماً، وحكايةُ كُرْهِيَ لها تبدأُ بالحِذاءِ، وبقَدْرٍ كبيرٍ مِنَ الصُّوَرِ والمشاهدِ الَّتي زَرَعَتْها في مخيِّلتِي، ذلكَ أنَّ ما فعلَتْهُ بأمِّي، على مدى السِّنينَ، كانَ يفوقُ كلَّ تصوُّرٍ، كانَتْ تكرهُني أنا وأَخَواتِيَ الأربعَ، ولا تتصوَّرُ أنْ ترانَا.!.
لماذا.؟. لماذا يا "أولغا" لمْ تتركي ليَ ذلكَ الحذاءَ الَّذي أحبَبْتُه، وكانَ على قياسِ قَدَمَيَّ.؟. هل تعلمينَ أنِّي مِنْ وَقْتِها وأنا أشعرُ بالبردِ يمتدُّ إلى جَسَدِي ورُوحِيَ بادِئاً بقَدَمَيَّ، حتَّى لوْ لبِسْتُ حِذاءً مِنْ جلدِ الفيلِ مَحْشُوَّاً بفِراءِ دُبٍّ قُطْبِيٍّ.!.
لماذا فضَّلْتِ ابْنَ "سميرةَ" عليَّ أنا "الياسَ" ابنِ شقيقِكِ مِنْ زوجتِهِ الثَّانيةِ.؟. هلْ كنْتِ تحقدينَ عليهِ لأنَّهُ تزوَّجَ بعدَ وفاةِ زوجتِهِ الأُولَى.؟. ورُزِقَ مِنْ أمِّي بخمسةِ أطفالٍ.؟. وما ذنبُنا نحنَ يا "أولغا".؟. أولغا" لا تُجيبُ، ولنْ تُجيبَ أبداً على أسئلتِي، لأنَّها مَيْتَةٌ. تُوُفِّيَتْ بمرضٍ خبيثٍ، كانَتْ تعيشُ أيامَها الأخيرةَ في بيتِ ابنِ أخيها، لأنَّهُ آواها عندَهُ، كما آَوَتْهُ هيَ أيضاً أيامَ كانَ طفلاً، فرَّ مبكِّراً مِنْ بيتِ أبيهِ، ليعيشَ عندَها معَ شقيقِهِ الأكبرِ "جورج"، وشقيقتِهِ الصُّغرَى "سُهَيلا"، فالعائلةُ تفكَّكَتْ أواصِرُها بُعَيْدَ وفاةِ الأمِّ، وتداعَتْ أوصالُها، أمَّا البنتانِ، الكُبرَى ومَنْ تليها، فقدْ زُوِّجَتا مُبَكِّراً، الكُبرَى في قريةٍ في ريفِ "طرطوسَ"، والثَّانيةُ في "لبنانَ".
أحزنُ عليكُمْ جميعاً، كما أحزنُ على نفسِي، وغفرْتُ لـ"أولغا" ما فعلَتْهُ بِيَ وبحِذائيَ الَّذي يتدلَّى مِنْ جَذْرِ ذاكرتِي، لا يُبارِحُها. لا أدري إذا كانَتِ الحياةُ تقضِي علينا جميعاً بأَنْ نُحِبَّ ما نفقدُهُ محبِّةً خاصَّةً مختلفةً مدَى العُمُرِ.!.
ها هوَ الشِّتاءُ يعودُ، وها أنَذا أُذَكِّرُكِ يا عمَّتي العزيزةَ "أولغا" بأنَّكِ زرَعْتِ في بُستانِ روحِيَ مَقْدِرَةً فائِقةً على كَسْبِ المَحَبَّةِ وحدِي، دونَ أيَّةِ مُساعدةٍ مِنْ أحدٍ.
رحِمَكِ اللهُ. لمْ يَعُدْ يُحْزِنُني منذُ زمانٍ أَنْ يخطرُ الحذاءُ على بالِي.!.
يخطرُ ليَ أحياناً أَنْ أتساءَلَ: تُرَى، هلْ كانَ الحِذاءُ على قدِّ قَدَمَيِّ "بَسَّامَ".؟.
هلْ لَبِسَهُ فِعْلاً، أمْ لا.؟.
أينَ ذهبَ.؟. ما كانَ مصيرُهُ.؟.
والأهمُّ منْ ذلكَ كلِّهِ، أَنَّ هذا الحذاءَ يُشْبِهُ حذاءَ "سَنْدريللا" الَّتي عرَفْتُ قصَّتَها فيما بعدُ، هوَ على قدِّ قدمِي أنا وحدِي. لمْ يلبَسْهُ أحدٌ غيرِي.!. ولو لثوانٍ قليلةٍ.!؟.
الدَّرسُ الأهمُّ منْ كلِّ ذلكَ، كانَ: "أَنَّ أحداً في العالمِ لمْ يستطِعْ أَنْ يسلبَني شيئاً بالقوَّةِ بعدَها، ولو كانَ مثقالَ شَعْرَةٍ مِنْ رأسِي.!!؟؟.".
.......................................
اللاذقية في 31/12/2010.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

حبيبتي

18-تموز-2015

(اِنْتِصَارُ البَرْدِ على النَّهارِ)

18-كانون الأول-2011

الَّلاذِقِيَّــــةُ ... هَلْ تَعُودُ.؟.

05-تشرين الثاني-2011

اللقــاءُ الأخيــرُ.

26-تشرين الأول-2011

البيضة الأقوى.!.

18-تشرين الأول-2011

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow