البارحةَ ... اليومَ ...!؟
خاص ألف
2011-01-11
على مدَى السَّنواتَ السَّبعِ الَّتي قضيتُها في "مدرسةِ الرُّومِ الأرثوذوكسيَّةِ" في "حيِّ العُوَينةِ" في اللاذقيَّةِ؛ لمْ يَغِبْ يوماً عنْ سَمْعِي صوتُ "اِندراوسْ صِيبونْ" النَّقيُّ الصَّافي الجارِسُ، وهوَ يُصْلِحُ "بوابيرَ الكازِ"، يُرَنْدِحُ مواويلَ وأغانيَ غايةً في الرَّوعةِ والجمالِ.!.
كانَ دُكَّانُهُ يقعُ في واجهةِ الزُّقاقِ الممتدِّ منْ كنيسةِ "مارْ نْقُولا"، وعندَهُ إلى اليمينِ، ينعطفُ الزُّقاقُ إلى "المطرانيَّةِ"، وإلى اليسارِ نحوَ المدرسةِ الَّتي تقعُ إلى يمينِ الشَّارعِ الصَّغيرِ الضيِّقِ المُؤدِّي إلى "كراجِ الشَّامِ القديمِ."!.
على طولِ الزُّقاقِ المؤدِّي إلى المدرسةِ، كنْتُ أشمُّ رائحةَ شُجيراتِ الورودِ والياسمينِ والحبقِ وزهرِ العسلِ، وسِواها منْ أنواعِ الزُّهورِ والورودِ العَطِرَةِ، وكانَ الجوُّ يعبقُ بصفاءٍ ونقاءٍ يتركانِ في النَّفْسِ أريجاً يخترقُ الأنفَ والعينَ ليُبحرَ في أعماقِ الرُّوحِ، فتنتشِي، وتتنفَّسُ الحياةَ طيِّبةً، تشعرُ بطَعْمِها الحُلْوِ، بِلا أيِّ تكلُّفٍ أوْ تصنُّعٍ أو زِيْفٍ.!.
عندَ الظَّهيرةِ، في طريقِ العودةِ مِنَ الدَّوامِ الصَّباحيِّ إلى البيتِ، كنْتُ أعودُ مِنْ ذاتِ الدَّرْبِ، فأسمعُ رنينَ "الدّربكَّةِ" منْ بيتِ "بْريبْهانَ"، والأصواتَ الجميلةَ مُذَكَّرَها ومُؤَنَّثَها، تُشَكِّلُ تناسُقاً وتآلُفاً رائعَيْنِ، تصدحُ في الجوِّ، حاملةً أبهى ما يُمكِنُ أَنْ يتناهى إلى السَّمْعِ، ممزوجاً برائحةِ العَرَقِ الأصليِّ النَّقِيِّ الصَّافِي، وعبيرِ المأكولاتِ اللاذقانيَّةِ العريقةِ، تغزُو أنفاسَكَ، فتتحرَّكُ العُصاراتُ في المَعِدَةِ، تتهيَّأُ لاستقبالِ الطَّعامِ بشهيَّةٍ لا تُقاوَمُ.!.
كنْتُ أتمهَّلُ عندَ المرورِ منْ قُدَّامِ البيتِ، مقترباً منَ الشبَّاكِ العريضِ الَّذي ينقلُ إليكَ مباشرةً طَقْساً في منتهَى الرَّوعةِ والأُلفةِ، دونَ أيَّةِ شاشاتٍ صغيرةٍ أو كبيرةٍ أوْ عملاقةٍ؛ ودونَ أنْ تدفعَ قِرشاً واحِداً، وكنْتُ كثيراً ما أُسْنِدُ كَتِفِي ورأسِيَ إلى الجدارِ المُحاذي للنَّافذةِ، لأستمعَ، وأشمَّ على هَوايَ، حتَّى أكادُ أسكرُ من الطَّرَبِ.!.
أتابعُ سيريَ إلى البيتِ، لا أتأخَّرُ كثيراً مَخافةَ أَنْ تقلقَ أُمِّي عليَّ، إِذْ طالَما نبَّهَتْنِي إلى ألاَّ أذهبَ إلى أيِّ مكانٍ بعدَ الانصرافِ مِنَ المدرسةِ. أتغدَّى معَ أَخَواتِيَ، أستريحُ قليلاً، ثمَّ أعودُ إلى المدرسةِ، في الدَّوامِ المسائِيِّ، منَ السَّاعةِ الرَّابعةَ عَشْرَةَ، إلى السَّاعةِ السَّادسةَ عَشْرَةَ.
أمرُّ مِنَ الزُّقاقِ، فإذا الأصواتُ تصدَحُ، والشَّرابُ أخذَ مَأْخَذَهُ مِنَ النُّفوسِ، ضَحِكٌ، وهَرْجٌ ومَرْجٌ، لمْ يتعبُوا، ولمْ يكلُّوا، ولمْ يمَلُّوا؛ أبتسمُ، أضحكُ، أدخلُ المدرسةَ إلى الباحةِ مُنطرِباً مُبتهِجاً، يدقُّ الجرسَ، نصطفُّ، ثمَّ ندخلُ إلى الصُّفوفِ لنأخذَ ما تبقَّى منْ دروسِ اليومِ.
في الرَّابعةِ إلاَّ رُبعاً منْ كلِّ يومٍ، نخرجُ منَ الصُّفوفِ، لنصطفَّ في بَهْوِ المدرسةِ، للصَّلاةِ رُبْعَ ساعةٍ قبلَ الانصرافِ، كنْتُ في جوقةِ المدرسةِ، بلْ كنْتُ أهمَّ عنصرٍ فيها، لِمَا كنْتُ أتمتَّعُ بهِ مِنْ صوتٍ جميلٍ جَهُورِيٍّ قويٍّ، ورِثْتُهُ عنْ أبي، وكنْتُ أقومُ بمراسمِ الصَّلاةِ، وأقودُ الجوقةَ إذا ما غابَ المعلِّمُ "جورج"، مُدرِّبُنا على التَّراتيلِ، وأستاذُنا في مادَّةِ التَّربيةِ الدِّينيَّةِ.
أعودُ إلى البيتِ عصراً، وأبدأُ فوراً بتحضيرِ دروسِيَ لليومِ التَّالي، وأحلُّ وظائفي بكلِّ دَأْبٍ واجتهادٍ، لذلكَ، ورَغْمَ أنَّ أبي وأمِّي أُميَّانِ لا يقرأَانِ، ولا يكتبانِ، فإنِّي كنْتُ مُجَلِّياً في المدرسةِ، والأوَّلَ غالباً في جميعِ الصُّفوفِ، وعندَما تقدَّمْتُ في الصفِّ السَّادسِ إلى شهادةِ الدِّراسةِ الابتدائيَّةِ "السِّرْتِفيكا"، حزْتُ المرتبةَ الرابعةَ في الترتيبِ العامِّ للنَّاجحينَ في محافظةِ اللاذقيَّةِ.!.
لماذا أحِنُّ إلى تلكَ الدُّروبِ.؟، لماذا تقيمُ في ذاكرتِي تلكَ الأزقَّةُ،؟. وكيفَ لا أضمُّ بجناحَيِّ روحيَ تلكَ الأصواتَ والرَّوائحَ.؟، كيفَ لا أحبُّ أولئكَ الَّذينَ علَّمُوني، وتعبُوا علَيَّ وعلى رفاقِيَ.؟، مَنْ يستحقُّ أكثرَ منْهُمْ محبَّتي ومسرَّتِي.!؟.
لماذا أجدُ نفسِيَ مسكوناً بِهِمْ، أحترمُهُمْ، أحبُّهُمْ، بعدَ مرورِ كلِّ تلكَ السَّنواتِ على مُفارقةِ المدرسةِ، ورحيلِ الكثيرينَ منْهُمْ، وبقاءِ القليلينَ.؟.
كأنِّي كنْتُ أعيشُ في كوكبٍ آخرَ، بينَ أُناسٍ مِنْ دمٍ ولحمٍ بشريَّيْنِ أصيلَيْنِ.!.
ماذا حدثَ للنَّاسِ، كلِّ النَّاسِ، ماذا حدثَ للمعلِّمِ، للنجَّارِ، للأستاذِ الجامعِيِّ، للمُهندسِ، للطَّبيبِ، للحَدَّادِ، لسائقِ سيَّارةِ الأجرةِ، للشُرَطِيِّ، وغيرِهِمْ، وغيرِهِمْ.؟؟؟.
عندَما ألتقي صُدْفَةً برجلٍ منْ رفاقِيَ في المدرسةِ، أطيرُ منَ الفرحِ، ونقتنصُ لحظاتٍ تمرُّ مسرِعَةً، نسترجعُ فيها ذكرياتِ تلكَ الأيَّامِ، فأرَى نفسِيَ ورفاقيَ يسألون جميعاً أسئلتي ذاتَها، ونزفُرُ كمَّاً هائِلاً مِنْ بُركانِ غُرْبةٍ تجتاحُنا، ونحنُ مكبَّلونَ بأناشيطِ واقعٍ لا يُطاقُ.!.
مَــنْ...؟ مَــنْ ...؟ إنَّهُ أنـا وأنـتَ ونحـنُ جميعاً...؟!.
لنْ أقولَ: هُــــوَ.!
لأنَّ كُلاًّ مِنَّا يتملَّصُ مِنْ مسؤوليَّتِهِ بالقولِ: هُـــوَ.!.
مَنْ هذا: هُــــوَ...؟
إنَّــهُ أنــتَ، أنــتَ، لا أَحَــدَ سِواكَ.!
كثيرونَ، كثيرونَ، كثيرون جدَّاً، أولئكَ الَّذينَ سقطُوا في أوحالِ المادَّةِ والعُهْرِ والفُجورِ والفَسادِ والرِّشَى، والزِّيفِ والرِّياءِ والجُحودِ.و...و...!؟.
بعدَ خمسةٍ وعشرينَ عاماً مِنَ الرِّفقةِ والتَّواصلِ على مقاعدِ الدَّرسِ في الجامعةِ، مِنَ التَّعايشِ والتَّوادِّ، مِنَ التَّزاورِ والأكلِ والشُّربِ معاً، بعدَ أَنْ تزوَّجَ كلٌّ مِنَّا وأنجبَ أطفالاً: "حفرَ لي قَبْراً، بكلِّ صفاقةٍ وحِقْدٍ وبُرودةِ أعصابٍ، بكلِّ خِسَّةٍ ودَناءةٍ.!.".
مَنْ هُـــوَ ....؟!.
أعرفُهُ جيِّداً، لكنَّني لا أعرفُهُ البتَّةَ، ولسْتُ على استعدادٍ - لا نفسيَّاً ولا عقليَّاً - لمعرفتِهِ أوِ الاعترافِ بوجودِه، لأنَّهُ مَنْفِيٌّ مَقْصِيٌّ، مَخْصِيٌّ أرعنٌ حاقِدٌ، لأنَّهُ مهلوكٌ مَنْهوكٌ، مُتَوَارٍ مُتَهافِتٌ، مَوْصُومٌ مَهْزومٌ، لأنَّهُ لا يستحقُّ حتَّى الشَّفَقَةَ.!.
تركْتُهُ للأيَّامِ، تأخذُ مِنْهُ ما أرادَ أَنْ يأخذَهُ منِّي، أنْ يسلبَني إيَّاهُ، لمْ ينجَحْ إِلاَّ في النَّيْلِ مِنْ ذاتِهِ، لذلك، لنْ أُحاسِبَهُ، فقدْ حاسبَهُ الزَّمنُ، لنْ أُسَمِّيَهُ، لأنَّهُ يعرفُ نفسَهُ جيِّداً مَنْ يكونُ.!؟.
ما بينَ المدرسةِ الابتدائيَّةِ والجامعةِ مشوارٌ طويلٌ وقصيرٌ، طويلٌ بمَدَى حُلُمِي بحياةٍ أرَى فيها النَّاسَ، كلَّ النَّاسِ طيِّبينَ سعيدِيْنَ، وقصيرٌ كَرَمْشَةِ عَيْنٍ إِثْرَ انفجارٍ نَوويٍّ، يستحيلُ فيها كلُّ شيءٍ إلى رمادٍ، إلى خَرابٍ.!؟.
ما أختزِنُهُ في رُوحِيَ كفيلٌ بمُساعدتِي على تمريرِ ما تبقَّى لِيَ مِنْ عُمُرٍ، لا يُهِمُّني أنْ يكون طويلاً؛ لكنَّني مُصِرٌّ على تشكيلِ الحياةِ مِنْ حَوْلِي وفقَ ما أرَى وأحبُّ وأشتهي، وقدْ نجحْتُ في ذلكَ، والنَّجاحُ هُنا ليسَ بالضَّرورةِ كَمَّاً، بَلْ كَيْفاً.!؟.
أنا حزينٌ حزينٌ حزينٌ، ولكنْ، ليسَ على نفسِي أنا، بل علينا نحنُ أجمعينَ.!؟.
وأنا سعيدٌ سعيدٌ سعيدٌ، لأنني موقنٌ ومؤمِنٌ بأنَّنا قادرونَ على صِناعةِ حياةٍ أخرَى جميلةٍ وبهيَّةٍ وناصعةٍ.!.
...................................
اللاذقية في 2/1/2011.
08-أيار-2021
18-تموز-2015 | |
18-كانون الأول-2011 | |
05-تشرين الثاني-2011 | |
26-تشرين الأول-2011 | |
18-تشرين الأول-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |