جَريمتِـي الأُولَــى.
خاص ألف
2011-01-25
عدْتُ منَ المدرسةِ، بعدَ ظهرِ يومٍ منْ أيَّامِ شهرِ أيَّارَ، كانَ الجوُّ دافئاً، أحملُ حقيبتِي، في منتصفِ المسافةِ الَّتي توصلُني إلى قُدَّامِ البيتِ، وقفْتُ مشدوهاً، عربتانِ تجرُّهُما البِغالُ تربضانِ أمامَهُ، رجلانِ على السَّطحِ ينهالان بمِهَدَّتَيْنِ على أرضِهِ بقوَّةٍ، لِينهدَّ فوقَ رؤوس أصحابِهِ، وتحتَ الهدمِ المستمرِّ رجالٌ يدخلُونَ ويخرجُونَ، وهُمْ يحملُونَ أثاثَ البيتِ على عَجَلٍ، يضعُونَهُ على سطحِ العربةِ (الطُّنبرِ)، ثمَّ يعودَانِ ليحملا أغراضاً أُخرَى: الكنباتِ، الكراسيَ، الأسِرَّةَ، أدواتَ المطبخِ، الفَرْشاتِ...؛ لمْ أتحرَّكْ قيدَ أُنْمُلَةٍ، حتَّى حطَّتْ على كَتِفِي يدُ خالتِي "وديعةَ"، قالَتْ بِغُصَّةٍ: "تعالَ يا خالتِي، تعالَ إلى بيتِنا، سنذهبُ قريباً إلى بيتِكُمُ الجديدِ.!.".
سأَلْتُها عنْ أُمِّي، أجابَتْنِي إِنَّها سَبَقَتْنَا إلى البيتِ الجديدِ، لِتُنظِّفَهُ؛ أطعَمَتْني، لمْ أعُدْ أذكرُ ماذا أكلْتُ، جاءَتْ أَخَواتيَ الثلاثُ مِنْ مدرستِهِنَّ، والرَّابعةُ الصُّغرَى كانَتْ في بيتِ جدِّي، جيرِانِنا في الحارةِ ذاتِها، كانَتِ الدَّارُ الَّتي يسكنُونُنَها على بُعْدِ خَطَواتٍ مُقابلَ بيتِنا؛ بعدَ الظُّهْرِ، حوالِي السَّاعةِ الرَّابعةِ، أمسَكْنا وأخواتي بأيدي بعضِنا بعضاً، وقادَتْنَا خالتي إلى البيتِ الجديدِ الَّذي يقعُ في شارعِ "أنطاكيةَ".!.
وَصَلْنا، دخلْنَا للمرَّةِ الأُولَى إلى البيتِ الجديدِ، كانَتْ أُمِّي تكنِسُ الصَّالونَ، وقفْتُ في منتصفِهِ، وتأمَّلْتُها، نظرَتْ إِليَّ، وقالَتْ، مُتابِعَةً الكَنْسَ لي: "أهلاً بكَ يا بُنَيَّ في بيتِنا الجديدِ، أَلَمْ يُعْجِبْكَ؟."، لمْ أُجِبُها، تأمَّلْتُ المَدْخَلَ، والسَّقْفَ، النَّوافذَ، وجُبْتُ في أركانِهِ، تفحَّصْتُهُ بعِنايةٍ، لمْ أعرفْ لماذا كنْتُ حزيناً جدَّاً، بَكَيْتُ بصمتٍ، وجلَسْتُ على كَنَبَةٍ قديمةٍ رُكِنَتْ في الصَّالونِ، كانَ الأثاثُ والأغراضُ تصلُ تِباعاً، ويتمُّ حَشْرُها في غُرَفِ البيتِ الثَّلاثِ دونَ ترتيبٍ، سكنَتْ أَخَواتي في غرفةٍ يتحدَّثْنَ ويلعَبْنَ بهدوءٍ.
جاءَ المساءُ سريعاً، لبِسْنَا ثيابَ النَّومِ، فرَشَتْ لنا أمي على الأرضِ الفَرْشاتِ لِننامَ، لمْ أَغْفُ، كنْتُ أهيمُ في تفاصيلِ بيتِنا القديمِ، ومشهدِ الهَدْمِ والرِّجالِ الَّذينَ كانُوا ينقلُونَ أثاثَ البيتِ، يقفُ مزهوَّاً على رأسِهِمْ مالكُ البيتِ بشعرِهِ الكثيفِ الأشيبِ، وطَقْمِهِ الرماديِّ وربطةِ عُنُقِهِ، وأبي يُساعدُ العمَّالَ في توضيبِ الأغراضِ، وترتيبِها على "الطُّنبرَيْنِ" لِنَقْلِها؛ تسمَّرَتْ رُوحي هُناكَ، وبدأَ شريطُ المشاهدِ والصُّوَرِ الَّتي اختزَنَتْها ذاكرتي يدورُ، الحارةُ، رفاقِي، الجدرانُ العتيقةُ الحميمةُ، صَوْلاتي وجَولاتِي في الزُّقاقِ، الباعةُ المُتجوِّلونَ، الدَّكاكينُ، و... و...؛ تقلَّبْتُ كثيراً في فِراشِي، أحسَّتْ بيَ أمِّي، اِقتربَتْ منِّي، مسَّتْ شعريَ بيدِها بِكُلِّ حُنُوٍّ، وقالَتْ لي: " نَمْ، يا حبيبي، نَمْ.!.".
لمِ أنَمْ، كيفَ حدثَ ذلكَ.؟، لمْ أكنْ أعرفُ شيئاً، ودونَ أيِّ سابقِ إنذارٍ أوْ كلامٍ أو أيِّ إشعارٍ، نُطْرَدُ كالكلابِ هكذا مِنْ بيتِنا.؟. ومَنْ هذا المجرمُ الَّذي كان يقفُ عندَ بابِ البيتِ يُملي أوامرَهُ على العمَّالِ لِيُسرعُوا، ويُفْرِغُوا البيتَ مِمَّا فيهِ؛ أفرغُوهُ مِنْ كلِّ شيءٍ، لكنَّهُ لمْ يُدْرِكْ أنَّهُ لمْ يستطِعْ أَنْ يُفرِغَهُ مِنْ ذاكرتِي، خيالِي، حَرَكاتي، مِنْ نومِي، وحبِّي لَهُ، لمْ يستطِعْ أنْ يقتلعَ صُوَرَنا أنا وأخَواتي هُناكَ، في كلِّ زاويةٍ فيهِ، لمْ يستطعْ أنْ ينزعَ عنْ بابِهِ ونوافذِهِ، عنْ أرضِهِ وجُدرانِهِ آثارَ أقدامِنا، ضَحِكاتِنا، أصواتِنا، أحاديثِنا، هَمَساتِنا، ألعابِنا، كلِّ ما يخصُّنا نحنُ – السَّبعةَ - المقيمُونَ فيهِ، لمْ يستطِعْ هذا القَذِرُ السفَّاحُ أنْ يُخرِجَنا منْهُ، وهلْ يستطيعُ أنْ يخلعَ منهُ روائِحَنا، ظِلالَنا، أحلامَنا، صوتَ أبي، بُكاءَ أُمِّي وابتساماتِها الجميلةِ.؟، هلْ كانَ في مقدورِهِ أنْ يطردَ سبعةً مِنْ بَنِي الإنسانِ الَّذينَ التصقُوا بِهِ، بكلِّ ذرَّةٍ فيهِ؟؛ كانَ أحمقَ مُجرِماًَ وغبياً، كرهْتُهُ طولَ عُمرِي؛ ولا أزالُ أذكرُ هيئَتَهُ تلكَ الَّتي تنمُّ عنِ العجرفةِ والتملُّكِ والتَّكبُّرِ، وهوَ يأمرُ ويَنْهَى، ليطردَنا جميعاً بإشارةٍ مِنْ إِصْبَعِهِ مِنْ أوَّلِ بيتٍ حضَنَنا جميعاً طولَ السَّنواتِ العَشْرِ الأُولَى منْ عُمُرِي.!.
دونَ أنْ يدري أحدٌ، قُمْتُ مِنْ فِراشي، لبِسْتُ ثيابي، تسلَّلْتُ مِنْ بابِ البيتِ في السَّاعةِ الأُولَى مِنْ بعدِ منتصفِ تلكَ الَّليلةِ، أخذتُ سكِّينَ أبي مِنْ جيب بنطالِهِ، فتحْتُ البابَ، خرجْتُ على مَهَلٍ، وعدَوْتُ بأقصَى سُرْعةٍ؛ وصلْتُ إلى حارتِنا القديمةِ في حيِّ "القلعةِ"، كانَ السُّكونُ يخنُقُها، والقمرُ يقفُ مُنتصِباً فوقَ ركامِ البيتِ الَّذي تحوَّلَ إلى أنقاضٍ، كانَ شاهِداً على ما أنوي فِعْلَهُ، وساعدَني، فألقى حزمةً مِنْ فِضَّةِ الضُّوءِ أمامي، تقدَّمْتُ منَ البابِ المُقَوَّسِ القديمِ الَّذي يُوصِلُ إلى منزلِ صاحبِ بيتِنا الثَّريِّ الكبيرِ، كنْتُ أعرفُ تفاصيلَه، أحكَمْتُ قبضتِي على مَقْبَضِ السكِّينِ، اِنسلَلْتُ على رؤوسِ أصابعِ قَدَمَيَّ، صعدْتُ الدرجَ المُودِي إلى بابِ الحديقةِ، لم يكنْ مُقْفَلاً، فتَحْتُهُ ودخلْتُ، وتوجَّهْتُ مباشرةً إلى شُبَّاكِ غرفةِ نومِهِ المفتوحِ، ليأخذَ حصَّتَهُ مِنْ نسماتِ صيفٍ بدا ثقيلاً، كانَ ينامُ في سريرٍ قديمٍ بناموسيَّةٍ تحميهِ مِنَ البعوضِ والذُّبابِ، سمعْتُ شخيرَهُ يشقُّ حِجابَ السكونِ الفاجرِ، جمعْتُ غِلِّيَ وغضبِيَ، تسلَّقْتُ النَّافذةَ، واتَّجهْتُ إلى سريرِهِ، أزحْتُ بكفِّيَ اليُسرَى النَّاموسيَّةَ، فإذا هوَ بكاملِ قامتِهِ مُمَدَّداً أمامَ عينَيَّ، يرسُو فوقَ السَّريرِ مُستسلِماً للنَّومِ، أطبقت على فمه بكفِّيَ اليُسرَى، وعاجلْتُهُ بعِدَّةَ طَعْناتٍ في صدرِهِ، لمْ أترُكْ لهُ مجالاً لِلتَّنفُّسِ أوِ الحراكِ، تدفَّقَ الدَّمُ غزيراً مِنْ فِيْهِ؛ لفظَ أنفاسَهُ الأخيرةَ، ماتَ.!!!.
ماتَ، وشَيَّعْتُهُ إلى مَثْواهُ الأخيرِ في اليومِ التَّالي، وصلَّى المشَيِّعُونَ على جثمانِهِ في الجامعِ الجديدِ المُجاورِ لبيتِهِ، ثمَّ دفنُوهُ في مقبرةِ القلعةِ.
رافقْتُهُ دونَ أنْ يراني أحدٌ، حتَّى رأيْتُهُ بأُمِّ عينِي في كَفَنِهِ، يُهيلُونَ عليهِ التُّرابَ.!.
داهمَتْنِي حبَّاتٌ مِنَ العَرَقِ تنضحُ مِنْ جبينِي، ثمَّ ما لبِثَتْ أنْ تدحرجَتْ على خَدَّيَّ، وصلَتْ إلى رقبتِي، نظرْتُ مِنَ النَّافذةِ، كانَتْ مناديلُ النُّورِ الباهتةُ في السَّماءِ تلوحُ عندَ الفجرِ، تَعِبْتُ، شعرْتُ بالخوفِ مِمَّا فعلْتُ، ردَّدْتُ في قلبِي الصَّلاةَ الربَّانيَّةَ: "أبانا الَّذي في السَّمَواتِ، لِيتقدَّسِ اسْمُك ....". تهالكْتُ، غَفَوْتُ، ولمْ أذهبْ في اليومِ التَّالي إلى المدرسةِ، كانَتِ الحرارةُ قد فتكَتْ بي، وصحَوْتُ على أُمِّي تُرَطِّبُ جبينِيَ بخرقةٍ بيضاءَ مبلولةٍ بالماءِ والخَلِّ.!.
جريمتي الأُولَى.!. لكنَّها لمْ تكُنِ الأخيرةَ، فقدْ كانَتِ الأيَّامُ كفيلةً فيما بَعْدُ، بدَفْعِي إلى ارتكابِ جرائمَ أُخرَى مُتعدِّدَةٍ في مناماتِي وأحلامِ يَقَظَتِي، لكنَّها كلَّها، يجمَعُها خيـــطٌ واحـــدٌ:
( الظُّــــــلْمُ.)!!!.
08-أيار-2021
18-تموز-2015 | |
18-كانون الأول-2011 | |
05-تشرين الثاني-2011 | |
26-تشرين الأول-2011 | |
18-تشرين الأول-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |