لا تــزالُ غاليتــي.
خاص ألف
2011-02-01
في المرَّةِ الأُولَى التقيتُها على مقعدٍ في الباصِ الَّذي كانَ ينقلُنا إلى الجامعةِ، حينَ كانَتْ تقتصرُ في البدءِ على كليَّتَيِّ الزِّراعةِ والآدابِ، قسمِ اللُّغةِ العربيَّةِ.
كانَتْ هادئةً كنسمةِ بحرٍ ساكنٍ عميقٍ، أليفةً كفرخِ حمامٍ، صامتةً كزهرةٍ تحتسي أريجَ شمسٍ ترشُّها نوراً لتفوحَ أكثرَ. تكرَّرَ اللِّقاءُ في الباصِ، لا أعرفُ كيفَ تجرَّأْتُ، وسلَّمْتُ عليها: صباحُ الخيرِ، فردَّتْ: صباحُ النُّورِ.
تعرَّفَ كلٌّ منَّا على الآخرِ، لا أعرفُ ماذا كانَ يشتعلُ فيَّ عندَما كنْتُ أنظرُ في عينَيْها.!.
في المبنى القديمِ الَّذي كانَ يضمُّنا، نحنُ - طلاَّبَ قسمِ الُّلغةِ العربيَّةِ الَّذينَ لمْ يكونُوا يتجاوزُونَ المئةَ طالبٍ، عدا الَّذينَ لمْ يكونُوا يداومُونَ -، وفي القاعةِ المخصَّصةِ لمحاضراتِنا، كانَ المكانُ جميلاً جدَّاً، هوَ مبنى ديرٍ كاثوليكيٍّ بطابقَيْنِ، باحةٌ صغيرةٌ تسبحُ بالضَّوءِ نهاراً؛ مدخلٌ عريضٌ على جانبَيْهِ شجرٌ ضخمٌ منَ الحَوْرِ والصَّنوبرِ، تتدلَّى مِنْ إحداها أوراقٌ طويلةٌ صغيرةٌ تُدعَى " المِسْتِحِي"، قطفَتْ ذاتَ يومٍ – ونحنُ خارجانِ - منْ غصنٍ يتدلَّى ورقةً، استودَعَتْها بيدِها بينَ أوراقِ نوتتِي، وظلَّتْ في مكانِها حتَّى الآنَ، هيَ ذاتُها، لمْ تغادرْ موطنَها بينَ الصَّفحتَيْنِ طيلةَ خمسةٍ وثلاثينَ عاماً.
امتلأَتْ دفاترُنا ونوتاتُنا بالملاحظاتِ، والكلماتِ والعباراتِ الَّتي كنَّا نتبادلُها داخلَ الصفِّ، تحجزُ ليَ دائماً قربَها، وأحجزُ لها دائماً قربِي، لمْ نفارقْ واحدُنا الآخرَ يوماً، لمْ نكنْ ندري ما الَّذي كانَ يشدُّنا الواحدُ إلى الآخرَ، بكلِّ هذا الشَّوقِ والشغفِ والقوَّةِ والحنينِ، والشُّعورِ الطَّاغي بحضورِ كلٍّ منَّا في روحِ الآخرِ.!. شعاعٌ أوْ قَبَسٌ منْ نورٍ إلهيٍّ كانَ ذلكَ.!.
كانَتْ تدخِّنُ سجائرَ الـ"كِنْتِ" الطَّويلةَ، وكنْتُ أدخِّنُ "الحمراءَ" القصيرةَ، السِّيجارةَ الوطنيَّةَ بامتيازٍ، كانَتْ سيجارةً تستحقُّ احترامَ مدخِّنيها وتقديرَهُمْ، لأنَّها بالفعلِ سيجارةٌ وطنيَّةٌ بامتيازٍ.! ماذا حصلَ لها.؟. لسْتُ أدري، لكنَّني كنْتُ أرى كلَّ شيءٍ طيِّباً ولذيذاً، الدُّخانَ، فنجانَ القهوةِ في المقصفِ الصَّغيرِ الَّذي كنَّا نجلسُ فيهِ معاً، طولَ الفصلِ الدِّراسيِّ الأوَّلِ مِنْ أيلولَ إلى حزيرانَ.!.
أحبَبْتُها، وأحبَّتْني، هِمْتُ بها كما لمْ أهِمْ بصبيَّةٍ أُخرى في حياتِي، كنْتُ أحلمُ باليومِ التَّالي، ولا أصدِّقُ أنَّه سيأتي، لنلتقيَ منْ جديدٍ على مقعدِ الدَّرسِ، ننزلُ منَ الطَّابقِ الأوَّلِ إلى المقصفِ في أوقاتِ الاستراحةِ بينَ محاضرتَيْنِ، لنحتسِيَ القهوةَ، وكثيراً ما كنَّا نسهُو عنْ محاضرةٍ ، ويمرُّ الوقتُ عجولاً، ونحنُ نحلِّقُ معاً في عالمٍ خاصٍّ بنيناهُ معاً زهرةً زهرةً، نبضةً نبضةً، خفقةً خفقةً، همسةً همسةً، نظرةً نظرةً؛ كانَتْ تضرمُ في مشاعرِي وقلبِي وروحِي نارَ المحبَّةِ المقدَّسةِ بحقٍّ، وكنْتُ أهيمُ بها، تلكَ الفتاةِ الَّتي غمرَتْني بعينَيْها، وضمَّتْني بجناحَيْ روحِها، وغنَّتْ على صفصافِ روحِي، وفتَّحَتْها على دنيا تغرِّدُ في دمِي، ووهبَتْني أجملَ لحظاتِ حياتِي.
كانَ الحُسَّادُ يحيطُونَ بنا، يتهامسُونَ، يتحدَّثُون عنَّا غِيبةً، كنَّا نعرفُ ذلكَ كلَّهُ، لكنَّنا لمْ نكنْ نبالِي، لمْ يستطعْ أحدٌ منهمْ أنْ ينالَ رفَّةَ جفنٍٍ منِ اهتمامِنا، كنَّا نعرفُ أنَّنا نطيرُ في عالمِنا البريءِ الجميلِ والنَّبيلِ، لمْ أحبُّها وتحبُّني كما يفعلُ أيُّ اثنَيْنِ آخرَيْنِ، كنَّا نعِي ذلكَ بكلِّ جوارحِنا؛ ولذلكَ لمْ نكنْ نسألُ، بلْ إنَّ كثيرينَ مِنْ زملائِنا كانُوا يغبطونَنا، ويفرحُونَ بنا، يبتسمُون لنا، يحدِّثُونا على عَجَلٍ كيلا يخطفُوا منَّا كثيراً منَ الوقتِ، إذْ لَطالَما عرفُوا، أنَّنا بحاجةٍ إلى كلِّ لحظةٍ منْ عمرِنا لنحياها معاً، نحنُ الاثنانِ.!.
كانَتْ (مسلمةً)، وكنْتُ (مسيحيّاً)، هذا ما أخبرَنا بهِ في غَفْلةٍ الجزَّارونَ الَّذينَ كانُوا يشحذُونَ سكاكينَ بَغضائهِمْ لِلفَتْكِ بنا.!. فما كادَ الفصلُ الدِّراسيُّ الأوَّلُ ينتهي، حتَّى وقعَ ما لمْ نكنْ نحسُبُ لهُ حِساباً: قدِ اتَّخَذَ الجزَّارونَ القرارَ بالتَّفريقِ بينَنا، بالتَّهديدِ والوَعيدِ الَّذي وصلَ حَدِّ الذَّبْحِ.!.
اِلتقَتْ بي في رُواقِ الطَّابقِ الأوَّلِ، بعدَ الانقطاعِ للتَّحضيرِ لامتحاناتِ الدَّورةِ الثَّانيةِ في أيلولَ، رجَتْني أنْ نكونَ صديقَيْنِ: "الحبُّ أقوَى، لكنَّ الصَّداقةَ أبقَى.!.".!. كانَتْ حزينةً كالمجدليَّةِ، وكنْتُ حزيناً كيتيمٍ.!.
كانَ يهمُّني أنْ تبقَى بخيرٍ، ألاَّ يمَسَّها سوءٌ أوْ شرٌّ، وكنْتُ أعرفُ أنَّ حجمَ الضُّغوطِ الَّتي مُورِسَتْ عليها أكبرَ منْ أنْ تُطاقَ. بدقيقةٍ واحدةٍ اِنتهى كلُّ شيءٍ.!.
لمْ يكنْ أحدُنا يصدِّقُ ما حدثَ، لمْ يكنْ يصدِّقُ قلبِي وقلبُها، لمْ تكنْ روحي وروحُها تستوعبانِ أنَّنا لنْ نلتقيَ بعدَ الآنَ، لنشربَ قهوتَنا سويَّةً.!. هذا لا يُعقلُ، هلْ تعلمُونَ ماذا فعلتمْ أيُّها القَتَلَةُ.؟. هلْ تَعُونَ ما ارتكَبْتُم أيُّها المغفَّلونَ الأشقياءُ المجرمونَ السفَّاحونَ المتعجرفونَ الأغبياءُ المتعصِّبونَ المأفونونَ المنافقونَ الدُّخلاءُ السُّفهاءُ.!!!.
أنتمْ لا تعرفُونَ شيئاً عمَّا فعلْتُمْ، قدْ قتلتمُونا كِلَيْنا، مسرحُ الجريمةِ معروفٌ: كليَّةُ الآدابِ في اللاذقيَّةِ، المقتولانِ الضحيَّتانِ: (أنـَـا وهــيَ)، السَّببُ: (الحبُّ)، الحكمُ: (الإِعدامُ تفرقَةً حتَّى الموتِ.!.). جريمةٌ أخرى "لا يحاسبُ عليها القانونُ".!، لا قانونَ في بلدِي أوِ العالمِ، يحاسبُ على هذهِ الجرائمِ، والمجرمونَ الَّذينَ يرتكبُونَها طُلَقاءُ، يسرحُونَ ويمرحُونَ، ولا أحدَ يسألُهمْ عمَّا اقترفَتْ أياديهُمُ الآثمةُ.!.
كانَتْ "غاليةً" على روحِي وقلبِي، وكنْتُ "غالياً" على روحِها وقلبِها، لذلكَ سمَّتْني" غالي".!. فتساوَيْنا حتَّى في اِسْمَيْنا.!.
مرَّتِ السِّنونُ، لمْ أستطعْ أنْ أكونَ صديقاً لَها، هيَ الَّتي "حبيبتِي"، ولمْ تستطعْ أنْ تكونَ صديقةً لي، أنا الَّذي "حبيبُها"، انقضَتِ السَّنواتُ الأربعُ، وتخرَّجْنا منَ الكليَّةِ، كنْتُ ألتقِيها صُدفةً، في زمنٍ ما، وشارعٍ ما، نتبادلُ التَّحيَّةَ، وتسألُني عنْ أحوالي، عنْ زوجتِي وابنتِي "ليالَ"، وأسألُها عنْ أحوالِها، فتُجيبُ: "بخيرٍ.!.".
يا حبيبتي الَّتي سكنَتْ عميقاً في روحِي، أنتِ لمْ تغادريها.!. فاطمئنِّي، ولا تزالينَ غاليةً، أدينُ لكِ بفضلٍ لا تُعادلُه قيمةً كنوزُ هذهِ الحياةِ: (أنتِ مَنْ علَّمَتْني كيفَ يكونُ الحبُّ "صَرْحاً مِنْ خَيالٍ لا يَهْوِي"!.).!
لا زلْتُ أحبُّ "أمَّ كُلثومَ" والأغانيَ الَّتي كنَّا نُردِّدُ كلماتِها معاً، وتكتُبينَها لي على زاويةٍ منْ دفتري أوْ نوتتِي. ولا زلْتُ أحتفظُ في أعماقِي بقامتِكِ البهيَّةِ الشمَّاءَ، بنظراتِكِ الحانيةِ الدَّافئةِ، وبهمساتِكِ العذبةِ الرَّائعةِ؛ لا أزالُ أردِّدُ في كلِّ صباحٍ شتويٍّ: "تعالِي نُعيدُ ذلكَ المشوارَ الَّذي مشِيناهُ معاً تحتَ المطرِ، مِنْ بابِ الكليَّةِ إلى مَفْرِقِ بيتِكُمْ.!؛ كتبْتُ لكِ الكثيرَ منَ الشِّعرِ، ستقرئينَهُ، أليسَ كذلكّ.؟.".
خمسةً وثلاثين سنةً مضَتْ، نزيفُنا لا يزال يصبِغُ جدرانَ المدخلِ إلى كليَّتِنا، قاعةَ درسِنا، الرُّواقَ، مقاعدَنا، أقلامَنا، ودفاترَنا؛ الحزنُ الَّذي استبدَّ بروحَيْنا لا يزالُ يردِّدُ في فضاءِ السَّماءِ: "أبرياءُ نحنُ أيُّها القَتَلَةُ.".!.
غاليتِي: أحبُّكِ، هلْ ما زلْتِ تحبِّينَنِي.؟؟؟.
.............................
اللاذقية في 30/1/2011.
08-أيار-2021
18-تموز-2015 | |
18-كانون الأول-2011 | |
05-تشرين الثاني-2011 | |
26-تشرين الأول-2011 | |
18-تشرين الأول-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |