خمسونَ ليرةً تصنعُ تاريخاً
خاص ألف
2011-02-08
مرَّ علينا، نحنُ - طلاَّبَ الصفِّ التاسعِ – في "ثانويَّةِ جولِ جمَّالٍ" عامَ ألفٍ وتسعمئةٍ وسبعينَ، متوسِّطُ الطُّول، أشيبُ الشَّعرِ، في الخمسيناتِ منْ عمرِه، لمْ أعدْ أذكرُ اسمَهُ؛ لكنَّهُ خطا بيَ إلى الأمامِ خطوةً لمْ أكنْ أتوقَّعُها.
كانَ دوامَنا يومَها بعدَ الظُّهرِ، دخلْتُ الباحةَ، التقيْتُ على الفورِ بأحدِ زملائِي، تمشَّينا معاً في الباحةِ الفسيحةِ، ثمَّ سألَني فجأةً عمَّا إذا كنْتُ كتبْتُ موضوعَ التَّعبيرِ، حصَّةُ اللُّغةِ العربيَّةِ هيِ الأولى، لمْ أكنْ قدْ كتَبْتُه، وربَّما اختارَني المدرِّسُ لقراءةِ موضوعي أمامَ زملائِيَ في الصفِّ، وإذا لمْ أكتُبْهُ، فالعاقبةُ الوخيمةُ بانتظارِي.!.
تركْتُ زميليَ وحدَهُ، وجلسْتُ في ركنٍ بعيدٍ على الأرضِ، أخذْتُ قلميَ الأزرقَ، فتحْتُ دفترَ التَّعبيرِ، وبدأْتُ الكتابةَ، انتهيْتُ عندَ قَرْعِ الجرسِ، اصطفَفْنَا في أماكنِنا، ردَّدْنا الشِّعارَ: (أمَّةٌ عربيَّةٌ واحدةٌ، ذاتُ رسالةٍ خالدةٍ، أهدافُنا: وحدةٌ، حريَّةٌ، اشتراكيَّةٌ)؛ وذلكَ أمامَ هيئةِ التَّدريسِ والإدارةِ والفتى العامِّ منفوشِ الرِّيشِ الَّذي قدَّمَ الصفَّ لمدرِّبِ الفُتُوَّةِ، مُتباهِياً برُتبتِهِ الصَّفراءِ المعلَّقةِ على حمَّالةِ الكتفَيْنِ للثَّوبِ الخاكيِّ العسكريِّ الَّذي كانَ لباسَ المرحلةِ الثَّانويَّةِ.!.
شعرْتُ بالاطمئنانِ، دخلْنَا بانتظامٍ إلى الصُّفوفِ، كانَ صفُّنا يقعُ في الطَّابقِ الثَّالثِ منْ بناءِ الثَّانويَّةِ الحجريَِ الَّذي بناهُ المستعمرُ الفرنسيُّ، بحواّفِّ سَطْحٍ يشبِهُ سطحَ قلعةٍ قديمةٍ. دخلْنَا الصفَّ، حضرَ المدرِّسُ، ألقَى التحيَّةَ علينا بهدوئِهِ المعهودِ، وردَدْنا التحيَّةَ، تأمَّلَنا، ثمَّ نظرَ إليَّ، أشارَ بإصبعِهِ نحوي، وقالَ: "إلياس.!. تفضَّلْ، إقرأْ علينا الموضوعَ الَّذي كتَبْتَهُ.!.".
أخذْتُ دفترِي، خرجَتُ منْ وراءِ المقعدِ، وقفْتُ أمامَ الجمعِ، فتحْتُ الدَّفترَ، وقرأْتُ؛ انتهَيْتُ منَ القراءةِ، وقلبي يخفقُ خوفاً منَ التَّالي؛ لا بدَّ أنَّني في ورطةٍ.!. نظرَ المدرِّسُ إليَّ مُبتهِجاً، باشَّاً مُبتسِماً، وقالَ للجميعِ: "اُنظرُوا، هكذا يكونُ الموضوعُ الجيِّدُ، إنَّهُ موضوعٌ متماسِكٌ، يستوفِي الأفكارَ، مترابطٌ، أسلوبُهُ ممتعٌ، ويخلُو منَ الأخطاءِ النَّحويَّةِ.!.". لمْ أصدِّقْ ما سمعْتُ، ظنَنْتُ أنَّهُ يتحدَّثُ عنْ أحدٍ آخرَ غيرِي.!. أثْنَى عليَّ، وشكرَني على هذا الموضوعِ الجميلِ، وطلبَ منَ الجميعِ أنْ يقتدُوا بي عندَ كتابةِ موضوعِ التَّعبيرِ، وأنْ يُولُوهُ العنايةَ ذاتَها.!.
عدْتُ إلى مقعدِي، وأنا شبهُ مخبولٍ، ماذا حدثَ.؟، هلْ حقيقةً أنَّ موضوعيَ بهذهِ الجُودةِ، نظرْتُ بطرفِ عينِي إلى زميلِيَ الشَّاهدِ الوحيدِ على ما حصلَ في الباحةِ، والَّذي يعرفُ وحدَهُ كيف كتَبْتُه، وأنَّني كتَبْتُه على عَجَلٍ خلالَ بضعِ دقائقَ، فقطْ كي أهربَ منَ العقابِ، ولا أُتَّهَمَ بالتَّقصيرِ، رأيْتُه هوَ الآخرُ ينظرُ إليَّ، ابتسمَ لِي، كأنَّهُ يقولُ: "ظَبْطِتْ مَعَكْ يا اِبنِ الحَرامْ.!.".
نعمْ، هذا ما حدثَ، وشعرْتُ بأنَّ رصيديَ عندَ مدرِّسِ الُّلغةِ العربيَّةِ قدِ ارتفعَ، فلا همَّ لِي بعدَ الآنَ في مادَّةِ الُّلغةِ العربيَّةِ.!.
في الصفِّ الحاديَ عَشَرَ، كانَ مدرِّسُ الُّلغةِ العربيَّةِ محقوناً دائِماً، يدخلُ إلى الصفِّ بادِئاً بالكلامِ والشَّرحِ فوراً، كمَنْ يريدُ أنْ يخلعَ عنهُ ثوبَ الجَرَبِ.!. كانَ غنيَّ المعلوماتِ، مِعطاءً، لكنَّهُ كانَ عصبيَّ المزاجِ، شديدَ التَّوتُّرِ، وكمْ ردَّدَ على أسماعِنا خلالَ ذلكَ العامِ نصيحتَهُ لنا بألاَّ ندرسَ في المستقبلِ، بعدَ نَيْلِ الشَّهادةِ الثَّانويَّةِ، الُّلغةَ العربيَّةَ، لأنَّها مُعضلةٌ ما بعدَها مُعضلةٌ، ومُرهِقةٌ بشكلٍ لا يُوازيهِ إرهاقُ مادَّةٍ أُخرَى، وكمْ كانَ يشكُو لنا ما يُعانيهِ منْ تدريسِها وتحضيرِها، ليأتيَ إلى المدرسةِ داخلاً منْ صفٍّ، خارجاً منْ آخرَ، مُعيداً ذاتَ الشَّريطِ الَّذي أودَى بصوتِهِ المُتحشرِجِ، وأصابَهُ بعدَ سنواتٍ منَ الخدمةِ بالتهابٍ مُزمنٍ في الحنجرةِ.
أثَّرَ فِيَّ هذا المدرَّسُ كثيراً، كنْتُ أشعرُ بالشَّفقةِ عليهِ، وترسَّخَتْ كلماتُهُ في نفسِي عميقاً، "لنْ أدرِّسَ الُّلغةَ العربيَّةَ في عمرِي. حتَّى ولوْ لمْ أدرِّسْ شيئاً على الإطلاقِ.!.". تغلغلَتْ هذهِ العبارةُ في جذرِ دماغِي.
كنْتُ مطمئِنَّاً لتفوُّقِي في مادَّةِ الُّلغةِ الفرنسيَّةِ، الأوَّلُ فيها، لمْ يكنْ أحدٌ يسبقُني لا في تسميعٍ أو قراءةٍ أو مذاكرةٍ أوِ امتحانٍ؛ اِنتهَى الفصلُ الأوَّلُ، حزْتُ المرتبةَ الأُولَى على شعبتِي، سُرِرْتُ كثيراً، ومِنْ وقتِها، كنْتُ قدْ حسمْتُ أمرِيَ: سأُنهِي دراستِيَ الثَّانويَّةَ، وأسجِّلُ في الجامعةِ في قسمِ الُّلغةِ الفرنسيَّةِ، وزادَني تمسُّكاً بهذا الخيارِ مدرِّسُ الُّلغةِ الفرنسيَّةِ في الصفَّيْنِ: الحاديَ عَشَرَ والثَّانيَ عَشَرَ (البكالوريا)، كانَ مدرِّساً رائِعاً مثقَّفاً، شَرْحُهُ بيِّنٌ واضحٌ، لكنَتُهُ فرنسيَّةٌ باريسيَّةٌ، أحبَّني كثيراً لتميُّزِي في مادَّتِهِ، وشجَّعَني كثيراً على دراسةِ الُّلغةِ الفرنسيَّةِ.
نجحْتُ في امتحانِ شهادةِ الدِّراسةِ الثَّانويَّةِ، الفرعِ الأدبيِّ، حصلْتُ على علاماتٍ عاليةٍ في مادَّةِ الُّلغةِ الفرنسيَّةِ، تُؤهِّلُني للتَّسجيلِ في قسمِها في الجامعةِ.
لمْ ينجحِ الأمرُ، لمْ يكنْ يوجدُ قسمٌ للُّغةِ الفرنسيَّةِ في جامعةِ الَّلاذقيَّةِ الَّتي أصبحَ اسمُها فيما بعدُ "جامعةَ تشرينَ"؛ إذنْ، لا بدَّ منَ التَّسجيلِ في إحدَى الجامعتَيْنِ: دمشقَ أو حلبَ.!.
لمْ تُفْلِحْ أمِّي في استعطافِ أخِي منْ أبِي، ليتصدَّقَ عليَّ بخمسينَ ليرةً سوريَّةً شهريَّاً، لأضمنَ مئةً وخمسينَ ليرةً، تكفيني لتدبيرِ أمورِي، قنِعَ أبي حينَها بمنحِيَ مئةَ ليرةٍ منْها مِنْ راتبِهِ، لأتمكَّنَ منْ متابعةِ دراستِي في جامعةِ حلبَ.
اِنتهَى الأمرُ، لا أملَ في أنْ أدرسَ الُّلغةَ الفرنسيَّةَ، لمْ يبقَ مِنْ فرصةٍ أمامِي إلاَّ دراسةُ الُّلغةِ العربيَّةِ، القسمِ الوحيدِ المتوفِّرِ وقتَها في كليَّةِ الآدابِ في جامعةِ اللاَّذقيَّةِ.
حضرَتْ صورةُ مدرِّسِ الُّلغةِ العربيَّةِ، وجهُهُ المنتفِخُ المحمَرُّ، حركاتُ يدَيْهِ العُصابيَّةُ، عيناهُ البارزتانِ مِنْ جُحْرَيْهِما وراءَ نظَّارتَيْهِ، صوتُهُ المتحشرجُ، سُعالُهُ الدَّائمُ نتيجةَ تحسُّسِهِ الدَّائمِ مِنَ الطَّباشيرِ، ضجَّتْ في رأسِي نصائحُهُ المتكرِّرةُ لنا: "إيَّاكُمْ أنْ تدرسُوا الُّلغةَ العربيَّةَ، وتصبحُوا مدرِّسيها.!.".
مزَّقْتُ وثيقةَ الثَّانويَّةِ نُتَفاً، بكيْتُ حتَّى هلكْتُ، وحدَها أمِّي رجَتْني ألاَّ أحزنَ، بكَتْ كثيراً، وهيَ ترانِي منكسِرَ الخاطرِ، خمسونَ ليرةً فقطْ ستحطِّمُ حلمِي وطموحِيَ وأمليَ في دراسةِ ما أرغبُ بِهِ.؟!. كنْتُ حسَمْتُ أمريَ، وقرَّرْتُ أنْ أتطوَّعَ في الجيشِ؛ جُنَّ جنونُ أمِّي، وهيَ تستمعُ إليَّ، توسَّلَتْ إليَّ، قبَّلَتْ يدَيَّ، وكادَتْ تقبِّلُ قدمَيَّ،؛ "هلْ أنتَ مجنونٌ.؟. أنتَ وحيدِي، ومُعفَىً منَ الخدمةِ العسكريَّةِ، وتريدُ أنْ تتطوَّعَ في الجيشِ.؟.!. إيَّاكَ أنْ تفعلَها يا بُنَيَّ، أقسمُ إِنَّني سأموتُ عندَها.!".
اِنتظرْتُ أيَّاماً قبلَ أنْ أعودَ إلى رشدِي، قرَّرْتُ أنْ أسجِّلَ مُرغَماً في قسمِ الُّلغةِ العربيَّةِ. وفعلْتُ. أثناءَ دراستِي، نجحْتُ في اختبارِ تدريسِ الُّلغةِ الفرنسيَّةِ أمامَ لجنةِ مفتِّشينَ خاصَّةٍ منْ مديريَّةِ التَّربيةِ، وكُلِّفْتُ بتدريسِ الُّلغةَ الفرنسيَّةَ منذُ عامِ ألفٍ وتسعمِئةٍ وثمانيةٍ وثمانينَ، في "ثانويَّةِ جولِ جمَّالٍ"، على مدَى ستِّ سنواتٍ، منْ خارجِ الملاك، ثم انتقلْتُ لأدرِّسَ اختصاصِي في الُّلغةِ العربيَّةِ في "ثانويَّةِ صلنفةَ"، لعامٍ دراسيٍّ ونيِّفٍ، حينَ صدرَتِ الموافقةُ، بوساطةِ أحدِ معارفِي، على تعيينِي بالوكالةِ في الجامعةِ كموظَّفٍ فيها، منذُ عامِ خمسةٍ وثمانينَ.
عندَما كنْتُ في السَّنةِ الثَّالثةِ، تمَّ افتتاحُ قسمَيِّ اللغتَيْنِ: الإنكليزيَّةِ والفرنسيَّةِ، في جامعةِ تشرينَ. في عامِ تسعةٍ وثمانينِ، أعدْتُ التقدُّمَ إلى امتحانِ الثَّانويَّةِ العامَّةِ، ونجحْتُ، وسجَّلْتُ في قسمِ الُّلغةِ الفرنسيَّةِ في الجامعةِ ذاتِها، وتخرَّجْتُ – رغمَ عدمِ تمكُّنِي منْ حضورِ المحاضراتِ – بمعدَّلٍ جيِّدٍ، وأنا عاملٌ، ومسؤولٌ عنْ أسرةٍ.
أدينُ بالفضلِ في ذلكَ لحبيبتِي "سَحَرِ"، هيَ وحدَها شجَّعَتْني، وقفَتْ إلى جانبِي، قرأَتْ معِي، سمَّعَتْ لِي، ساعدَتْنِي بكلِّ ما تملكُ منْ قوَّةٍ.
يا أمِّي، يا أبِي، لمْ تعيشَا لتعرِفَا أنَّني تخرَّجْتُ منْ قسمِ الُّلغةِ الفرنسيَّةِ، لكنَّكُما عرَفْتُما قبلَ أنْ ترحَلا أنَّني سجَّلْتُ فيهِ، وكنْتُما واثقَيْنِ منْ قدرتِي على تحقيقِ ما حرَمَتْنِي إيَّاهُ خمسونَ ليرةً سوريَّةً شهريَّاً، أبَى أنْ يساعدَني بها إِنسانٍ يُسَمَّى "أخـــــــي."!!!.
لا أعرفُ لماذا أحبَبْتُ فيما بعدُ الُّلغةَ العربيَّةَ كثيراً، كما أحبَبْتُ الُّلغةَ الفرنسيَّةَ، ربَّما لأنَّ أحداً في العالمِ لمْ يتصدَّقْ عليَّ، ولمْ تكنْ لأحدٍّ مِنَّةٌ عليَّ في تحقيقِ ما أريدُ.!!.
عذراً منْكَ يا أستاذِيَ، أستاذِ الُّلغةِ العربيَّةِ.
قـدْ سقطَتْ منـذ سنواتٍ طويلـةٍ منِّي كلماتُكَ إلى الأبــدِ.!.
..............................
اللاذقية في 7/1/2011.
08-أيار-2021
18-تموز-2015 | |
18-كانون الأول-2011 | |
05-تشرين الثاني-2011 | |
26-تشرين الأول-2011 | |
18-تشرين الأول-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |