في مختبر «لقمان محمود» السرّي
خاص ألف
2014-03-02
«البهجة السرّية.. أنطولوجيا الشعر الكردي في غرب كردستان»..كذلك يعنون الأديب والناقد والمؤلف لقمان محمود كتابه الجديد، والصادر عن دار سَرْدَم للطباعة والنشر في السليمانية – إقليم كردستان العراق، في أواخر العام 2013. وإنّه لمن جميل العمل أن كاشَفَنا المؤلف بجُلّ الشعراء والشاعرات «أكثر من مئة شاعر وشاعرة» في المشهد الشعري الكردي في سوريا، ممن يكتبون سواء باللغة الكردية أم باللغة العربية، وعلى اختلاف أصواتهم الشعرية مذهباً وجودةً وحضوراً، في كتاب يغطي أمداً مديداً من عمر الشعر الكردي في سوريا ( 1932 - 2012)م. وإن لم يخلُ الكتاب، وكغيره من الأنطولوجيات الشعرية الصادرة، من بعض الإشكاليات، كإشكالية الغياب – غياب العديد من الشعراء ذوي الحضور غير الخافي، والذي يُعزى إجمالاً إلى "المعيار القيميّ والفنّي" وفق ما يراه المُعِدُّ والقائم على الإنجاز. هذا، وعلى أنّ المتلقّي نفسه ليس بوسعه تصنيف المختارات الشعرية - في اللغة المصدر؛ ما يوقعُهُ هو الآخر في حيرتين – معرفية وجمالية، كان بوسع المؤلف تفاديها ببساطة، وبخاصة أنّ العديد من الشعراء، ممن شملتهم الأنطولوجيا، يكتبون باللغتين – الكردية والعربية، في آن.
ولمّا لم تكن من قوانين صارمة ورادعة، تحفظ للكتّاب حقوقهم في التأليف والنشر؛ فضلاً عن الواقع المأزوم للتلقّي والقراءة؛ فقد اقتصرتْ هذه المقاربة النقدية المتواضعة، ومن غير إسهاب، على ما تعدّى مفهوم الإشكالية في الأنطولوجيا - موضوعة البحث، واندرج تحت مصطلح "السرقة الأدبية" أو ما يمكن أن ندعوه بمصطلح "التّلاص".
يقول أبو هلال العسكري: «ليس لأحدٍ من أصناف القائلين غنىً عن تناول المعاني ممّن تَقَدَّمَهم والصبُّ على قوالب مَن سبقَهم؛ ولكن عليهم – إذا أخذوها – أن يكسوها ألفاظاً من عندهم، ويبرزوها في معارضَ من تأليفهم، ويوردُوها في غير حِلْيتها الأولى، ويَزيدوها في حُسْن تأليفها، وجودةِ تركيبها وكمالِ حِلْيتها ومعرضها؛ فإذا فعلوا ذلك فهم أحقُّ بها ممن سَبَقَ إليها...»(1).
إذاً، من حق اللاحق أن يأخذ عن السابق، ولكن من غير إجحاف حقّ السابق، وهذا الجذر في التراث النقدي الأدبي هو نفسه ما تمّت الإشارة إليه، في العصر الحديث، بمصطلح "التّناص" لمبتدعته جوليا كريستيفا، ليتفرع ويتشعّب على يدها، ثم على أيدي نقّاد آخرين لاحقاً. فالتّناص يدخل في الجانب الإبداعي، وغالباً ما يكون من نتاج اللاوعي الجمعي؛ وبذلك فإنه يأتي خلافاً للسرقة/ التلاصّ؛ والتي تكون العملية القصدية فيها واعية. وقد شاعت ظاهرة السرقة الأدبية، منذ القديم، في ميادين التأليف الأدبي، سواء في الشرق أم في الغرب، وأُلّفتْ فيها مجلدات من الكتب. ابن الأثير، مثلاً، وبوصفه ضليعاً ومطّلعاً على نتاج جُلّ من سبقوه إلى بحث الظاهرة تلك، يحصرها في ثلاثة أنواع "النسخ، المسخ، السلخ"(2)، ويوردُ لكلّ منها ضروباً شتّى. لكنّ الظاهرة، تلك، لم تتفشّ بالقدر ذاته في ميدان الترجمة الأدبية. ومعلوم أنّ الترجمة اقتضت، أوّل ما اقتضت، أن يتحلّى المترجم، وكوسيط ثقافي، بالأمانة الأدبية، ويليها كلّ ما يمكن للمترجم أن يتسلّح به من دراية عميقة باللغتين – المصدر والهدف، وإلمام بثقافة النص..إلخ. وكان أن انطلقت الحكمة المدوّية "أيها المترجم.. أيها الخائن" في أرقى أحوال الترجمة "الخيانة الذهبية" – كمنجز حضاري؛ وذلك لما يصيبُ النصَّ من فَقْدٍ جماليّ له، في اللغة الهدف، بالقياس إلى تقنياته الفنية في اللغة المصدر، فما بالنا بالترجمة "المشبوهة" أصلاً.
*الكتاب – المقدمة:
في المقال المعنون "الشعر الكردي في سوريا"، يكتب فرهاد جلبي، قائلاً:
«..، يقول الشاعر في قصيدة لحّنها الفنان "شفان بَرْوَرْ" وغنّاها: أين حدائقي وبساتيني؟/ أين رياضي
وجناني؟/ لقد إحتلّها الأعداء/ آخٍ.. أين كردستاني.. أين؟!.
فيقلده الشاعر "كلش" بكلمات لا معنى لها سوى أنها تساعده في القافية فقط .يقول متسائلاً: أين كردستان؟ أين اللغة؟ أين الزاز؟/ أين الحدائق والبساتين؟/ أين السهول والجبال؟.
قلّد جكرخوين الشعراءَ القدامى والمتصوفة، وخوفاً من ضياع قصائده كان يُزيّل باسمه في آخر بيت من كل قصيدة له، وفي كثير من الأحيان كان إسمه "القلب الدامي" أو "الكبد الدامي" يخدم القصيدة، ويأتي في سياقها، و يعطي الدلالة المرجوة منها. لكن الذين جاؤوا بعده، وقلّدوه تقليداً هشاً لا معنى له، ولا قوة، فقط لذكر الإسم، في وقت أصبحتِ الكتابةُ وطباعة الكتب أمراً يسيراً. يقول الشاعر "بي بهار"/دون ربيع في قصيدة له، بعد أن نفضها عن بكرة أبيها، ولم تبقَ في قريحته أية كلمة يستعين بها: "أمان أمان أمان/ أمان أمان أمان/ مثل "بي بهار"/ أمان أمان أمان".
إن الإستخدام الفجّ في إقحام الشاعر إسمه في قصيدته أضحى ظاهرةً مَرَضية في الشعر الكردي السوري، خاصة ممن يندرج تحت خانة الكلاسيك، وهم بعيدون كل البعد عن المدرسة الكلاسيكية والشعراء الكلاسيك...»(3).
ويأتي المؤلف لقمان محمود، ناسخاً المقطع، أعلاه، مع التّمليط (إعمال طفيف للحذف والربط من قبيل التكثيف أو الاستتار) (ص 12- 13- 14). ولتكتمل المغامرة، فإنّ المؤلف يحافظ على الأخطاء الإملائية نفسها، والتي وقع فيها كاتبُ المقال نفسُهُ.
لكنّ المؤلف، مستطرداً في السرد ذاته، ينسخُ المقطع، أدناه، مع التّمليط (ص 17). كتب جلبي، قائلاً:
«يقول جكرخوين في قصيدة بعنوان: Ez u yar أنا والحبيبة، أسلوب يجعل فيه الحبيبة تملك كل شيء، أو تكون هي كل شيء جميل، وهو لا يملك شيئاً، وقد ترجمتُ هذين المقطعين بشكل حرفي بحسب موضع الكلمة، كي أظهر القصيدة التي تليها وقيمتها:
ذات العيون الحور.. أنتِ / ذات الشعر المجعد.. أنتِ / بجاذبية الملكات أنتِ
مجروح الفؤاد.. أنا / وردة الحدائق.. أنتِ / جمرة الفوانيس.. أنتِ
دواء لكل عليل.. أنتِ / كسير الفؤاد.. أنا.
يأتي الشاعر دلدار ميدي، ويكتب على غرارها قصيدة، يقول فيها:
في البرج العاجي.. أنتِ/ وردة الدنيا.. أنتِ/ العلة لي.. أنتِ،
من ليس له مكان.. أنا
ذات الكلام الحلو.. أنتِ/ ذات الرقبة الشفافة.. أنتِ/ أخت فيتنام.. أنتِ
عدو البالي..أنتِ...»(4).
*الكتاب – المتن:
نقرأ للشاعر عمر لعلهْ (1935 - 2011) قصيدةً، وحسب، بعنوان "في وصف كردستان" (ص232). وهي القصيدة ذاتها التي أوردها الكاتب والمترجم فرهاد جلبي، مجتزَأةً، وكتتمّة للسرد الذي بدأه حول التقليد الشعري الهشّ للتجربة الجكرخوينية. وينسخها المؤلف لقمان محمود..(نسخ - لصق). لكن، ربما كان حريّاً به، هذه المرة، أن يوظّفها في مقدمة الكتاب؛ أسوةً بنظيراتها المذمومات؛ وحيث كتب فرهاد جلبي، قائلاً:
«أختتم هذه الدراسة، وهي حالات من كتابٍ كنتُ قد أعددته باللغة الكردية حول الشعر الكردي في سوريا، مؤشراً فيه إلى أن مملكة الشعر قد دخلها من ليس أهلاً لها،..، لكنّ جهل بعض هؤلاء بالشعر جعل من مجموعاتهم الشعرية تقاريرَ عن الحالة المعاشية، وعن الجغرافيا والتاريخ، ودروساً في القومية والوطنية،..، ووقفنا ننظر إليهم دون حراك، منتظرين نقّاداً ليدرسوا المشهد الشعري دون أن يتهمه أحدٌ بأنّ هذا الذي ينقد شعره جاسوسٌ للإمبريالية العالمية»(5).
مرةً أخرى...
نقرأ للشاعر جوان قادو قصيدة، وحسب، بعنوان "الأغاني الجوعى" (ص132- 133). وتعود ترجمتها إلى الشاعر ريبر يوسف، وتحت العنوان "ليالي أغسطس - لحم الذكريات"(6). علماً أنّ القصيدة ذاتها منشورة في المصدر ذاته، وبترجمة أخرى تعود إلى الشاعر كاميران حرسان، وتحت العنوان "ليالي آب الخائنة". ومن يدري، ربما فاضل المؤلف بين الترجمتين السابقتين؛ ثم استقرّ على ما استقرّ عليه. وإذا ما أقصينا – تجاوزاً - المصدر التوثيقي، وقرأنا القصيدة (ت: ريبر يوسف) في ضوء مقاربة أسلوبية، لأمكننا استشفاف مدى التباين بينها وبين الترجمات الواردة في الكتاب جُلِّها؛ من حيث البناء النحويّ للجمل (الأبدال، آليات التقديم والتأخير) وانتقاء الألفاظ (الاشتقاق، الفصاحة) فجاءت البنية النصّية رصينة. ولا يتوانى المؤلف لقمان محمود عن نسخها (نسخ - لصق).
لكنّ المؤلف يعاود الكَرّة. نقرأ للشاعر فرهاد جلبي قصيدتين:
الأولى بعنوان "وحدي أمضي إلى الموت" (ص 279 – 280 – 281 - 282). وتعود ترجمتها إلى الشاعرة آخين ولات، وتحمل العنوان"«وحدي أمضي إلى الموت - ابنة الوجع "(7).
بينما القصيدة الثانية، والتي جاءت بعنوان "سأقيم في عينيك" (ص282 - 283). إنما تعود ترجمتها إلى الشاعر محمد شيخو، وتحت العنوان "حبيبتي"(8). وهنا، فضلاً عن النسخ والتمليط، فإنّ المؤلف يمسخها بَتْراً (مونتاج). نقرأ، مثلاً، في خاتمة القصيدة:
«حينها سأقول: / اقتربي.. اقتربي/ أيتها الأرضُ الغالية / ليرمي هذا البائسُ بجسده عليكِ /
ليحتضنكِ هذا البائس / ويقولَ لكِ: / حبيبتي»(9).
المقطع، أعلاه، ليس وارداً في الترجمة المنصوب عليها والواردة في الكتاب. المقطع الذي هو "القَفْلةُ الشعرية"، اصطلاحاً، والتي تتجلّى فيها – عادةً - ذروة التصعيد الدرامي للقصيدة، والنّفَسُ الأخيرُ للشاعر المكتوي بنار جحيمه الشعريّ منذ ما قبل مستهَلّ القصيدة.
هذا، وفيما يكاشفنا المؤلف، في مقدمة الكتاب، قائلاً: «أحب أن أنوه أنّ هذا الجهد الكبير قد أستغرق من العمل أكثر من سنة كاملة من البحث والترجمة والتدقيق، كي يكون أهم وثيقة معبرة عن الشعر الكردي في غرب كردستان» (ص8).
ومما لا ريبَ فيه؛ أنّ الترجمة "الذهبية" قد تحتّم على المترجم أن يستنفد من الوقت أياماً وأياماً، في التنقيب عن مفردات بعينها، فضلاً عمّا للترجمة الأدبية، والشعرية منها بخاصة، من مزالق ومسالك شائكة؛ بإجماع الباحثين وأهل الاختصاص، فكيف الحال مع «أهم وثيقة...». وحتى أنّه – المؤلف، في كل ما أتينا عليه من تقابلات، لم يكلّف نفسه عناء الكتابة أو التصحيح "كيبورديّاً"! وكأنها اللامبالاة، بعينها، تجاه المسيرة الشاقة للكتابة منذ حوالي (3500 ق.م) وليس انتهاءً بالكيبورديّة منها.
هي آثار قيّمة، لا ريبَ، وإنْ عَلا بعضَ الأسماء غبارٌ/كَفَنٌ. هي إشراقات، وللأسماء إشراقاتها كذلك؛ لتأتي «الوثيقة» من غير تحريف أو تزييف، وإلا انجررنا بدورنا إلى سلطة الفكر المؤسّساتي التي تكرّس، أحياناً، للتغييب والتضليل المعرفيّ، ومثلما تكاشفُنا مصادر التاريخ؛ من قبيل "إحراق المكتبات".. وكإحدى الجرائم الثقافية غير المغفورة أبداً.
يناير 2014
الكتاب: البهجة السرّية
404 صفحات/ قطع متوسط
المؤلف: لقمان محمود
دار سردم للطباعة والنشر في السليمانية – كردستان/ 2013
هوامش:
1- أبو هلال العسكري – كتاب الصناعتين، تح علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل ابراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1998، ص 196.
2- ينظر: المثل السائر - ابن الأثير.
3- الرحيل الأزرق للشاعر: الشعر الكردي في سوريا - فرهاد جلبي. ملف خاص، تم إعداده بعيدَ رحيل كاتب المقال فرهاد جلبي (1961 - 2004) الشاعر والمترجم الكردي السوري. الموقع الالكتروني "جهة الشعر" (www.jehat.com)، يشرف عليه الشاعر قاسم حداد. فضلاً عن نشر المقال والملف في مواقع الكترونية أخرى. تنويه: النشر الأول للمقال كان في العدد (3) من مجلة "حجلنامه"، 2001، والمخصص للشعر الكردي من الملّا الجزيري إلى سليم بركات، ترأس تحريرها الشاعر محمد الحسيني.
4- المرجع السابق.
5- المرجع السابق.
6- مجلة "ألف" الالكترونية - إبداعات: ليالي أغسطس/لحم الذكريات، ت ريبر يوسف (15 – 10 – 2008). (www.aleftoday.info). يترأس تحريرها الكاتب سحبان السوّاح.
7- الرحيل الأزرق للشاعر: قصيدتان - فرهاد جلبي. مرجع سابق.
8- المرجع السابق.
9- المرجع السابق.
08-أيار-2021
12-نيسان-2014 | |
02-آذار-2014 | |
08-حزيران-2009 | |
25-آذار-2009 | |
29-تشرين الثاني-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |