نقد / محمد حلمي الريشة .. شعرية الذات الرائية
2006-05-22
لا يملك الشاعر محمد حلمي الريشة إلاّ أن يكون مغامراً في خريطة الجسد الشعري، ينتهك مواضعاته المهيمنة وينحاز إلى لعبة المراودة، يمارس من خلالها إيغالاته في تلمّس ما هو سري وما هو فاضح! وكأنه يبرهن عبر هذا المفارقة بأنه الكائن الرائي الذي يكشف عن مفارقة الجسد ذاته إذ هو الفيض اللذوي السحري الباعث على التواصل، وإذ هو الجسد الأرضي الباحث عن (الظل الضيق) والمغروز بركبتيه عند الكمائن والفخاخ.
يعمد محمد حلمي الريشة إلى توظيف تقنية المفارقة كاستجابة فنية لاصطناع قوة بصرية تدفع القصيدة باتجاه التخلص من الترهين الصوتي الذي ظل عالقاً بالقصيدة الفلسطينية وألقى عليها ظلاله كقصيدة تحذر من التورط في شرك اللامكان، وباتجاه تكثيف الرؤيا إزاء الخارج الجسد/ العدو/ اللغة/ المرأة، وهذه التوليفة المتناقضة تفترض بالضرورة نوعاً من وعي المغايرة، مثلما تفترض نوعاً من الإبصار العميق الذي يجوس في ما وراء العلامات الدالة والحاشدة في القصيدة الفلسطينية وموروثها الاستعاري المقدس..
ولعل قراءة تجربة الشاعر الريشة هي مفتتح لقراءة جوانب مهمة من ملامح التجربة الشعرية الفلسطينية الجديدة، والتي تحاول أن تؤسس مشروعها الشعري خارج وطأة المهيمن الشعري الكبير بكل لغتة الباهية ورهابه الصوتي وإغواءاته التي تحوطها مرجعية مطمئنة إلى بطولتها وحضورها وإنجازاتها، والتي تمثلها تجارب رائدة وفاعلة في الشعرية العربية والفلسطينية: محمود درويش، سميح القاسم، أحمد دحبور، محمد القيسي، مريد البرغوثي وغيرهم.
ولا شك أن الكشف عن (البعد الصوري) في قصيدة الريشة يمثل لنا استشرافاً لقراءة تتلمس بعض خصوصية هذه التجربة عبر مشروعية انشغالاتها في أنسنة الاختلاف الفاعل الذي يثري القصيدة، وكذلك عبر معرفة حساسيتها في التعاطي مع الجملة الشعرية غير المطمئنة واللجوجة بالحسية والرغبة، فضلاً عن مخزونها الذهني الذي يسعى إلى اجتراح موقف أكثر إثارة وسرية إزاء الخارج؛ ليس بحثاً عن المغايرة وحسب، وإنما هو تأكيد على إحالات كشفية غير مأهولة تتمثل لعوالم الشاعر القلقة ووعيه وأسئلته ورغبته في أن يتخلص من رائحة الإهمال التي ظلت عالقة بتلابيب المكان الشعري القدري! وربما كان نزوع الشاعر إلى كتابة بعض القصائد الإيروتيكية هو تعبير خلاصي تمردي على عفونة المكان، وتلمساً لمفاتن أخرى تمور بها الحيوات النقيضة لمكانه.
في قصيدة (الكمائن) ثمة امرأة تتوهج بانتظارها، يكتب عنها بإغواء مرّ، وكأنه يوهم أن حساسيته إزاء انتظاره هي كشف لرغبته العارمة التي ينقاد إليها عبر لغة وصفية تشتق من أيقونة الجسد احتمالاتها وتوليدها الاستعاري، هذه القصيدة تحيلنا إلى مزاج الشاعر وليس إلى تاريخ كتابة الرغبة، فهو يستسلم لنوبة الانتظار، ويرسم إزاءها جسداً افتراضياً إشباعياً في نوبة جريان دائم، الجملة الشعرية تبدأ بحرف جر إيذاناً بجر الحدث إلى الحضور الذي يفترض الشاعر شواهده وتفاصيله واستعاراته:
بِانتِظَاري امرَأَةٌ تُرَبِّي أَزهَارَ الكَستَناءِ بِأَهدَابِهَا
تُخَبِّئُ شَمْعَ اليَاقُوتِ إِلَى حِصَارٍ لا يَندَمِل
وَعَن شُرفَةِ الرُّوحِ المُنحَازَةِ لِلضِّيقِ
تُطفِئُ غُبَارَ الزُّجَاجِ بِدَمعَةِ أَلَمٍ، وأُخرَى
لأَمَلٍ يَتَعَالَقُ مِثلَ حُنجَرَةٍ لِبلابِيَّةٍ في غِنَاء!
وهذه التوليفة تتكرر في قصيدة (بياض) التي تبدأ بضربة فعلية (أحسّك) تكشف ما بعدها عن انثيالات توليدية توجز ذروة رغبته المحمولة إلى رغبة حلولية تفنى فيها الأفعال الكاملة! كما يقول، لكنها تنتهي عند ضربة إيهامية مضادة هي (بياض انتظاري)، وهذا التقابل بين الحضور الافتراضي (أحسّك) وبين المحو (بياض انتظاري) تتسارع حركة رمزية تكون المرأة قناعاً دائماً لها، إذ هي افتراض اللذة وفنائية الحلول، وأجد أن حساسية الشاعر إزاء (اللون الأبيض) هي تعبير عن رغبة تعويضية باتجاه البحث عن نقاء السريرة التي يتوهما الشاعر الرغبوي في إتيان تدوين طقوس خلوته، وهذه تجعله الأقرب إلى النزوع الصوفي الذي يرسم لذته ويشكلن طقوسها ويذوب في مجونها، لكنه يتضاد في داخلها ليس لتحرير المكبوت وإنما لاستعادة رغبته العالية في جسدانية اللحظة:
دَائِرَةُ العِنَّابِ الَّتِي سَالَتْ
عَلَى
بَيَاضِ الأُمْسِيَةِ
كَانَتْ طَقْسَاً
مِنْ حَفْلِ تَوْقِيْعِ كِتَابِكِ الوَرْدَة !
كُنْتِ :
أَكْثَرَ مِن جَسَدٍ لاِحْتِلاَلِي ..
كُنْتُ :
أَكْبَرَ بَيَاضَاً فِي حُلُوْلِي فِيْه !
لَمْ أَزَلْ أُوَبِّخُنِي كَثِيْرَاً
لأَنِّي نَسِيْتُ لَمْلَمَةَ دُرَّاقَ العِنَاقِ
عَنْ حَقْلِ عَرْشِنَا !
لاَ أُرِيْدُكِ أَنْ تَأْتِي
بِرَمَادِي ..
لاَ أُرِيْدُكِ أَنْ تَذْهَبِي
بِبَيَاضِي ..
كَيْفَ لَكِ حَرَكَةُ خُطْوَةٍ
وَاحِدَةٍ
وَأَنْتِ
فِيَّ ؟!
إن اعتماد تقنية المفارقة الاستعارية في هذه القصيدة، تكشف عن وعي الشاعر بقراءة وتشكيل لغته الجسدية، فهو ينعتق عن لغة الوصف الخارجية إلى لغة حاشدة بالتشفيرات تتقابل وتتفارق فيها الطباقات، وكأن الشاعر يجد نفسه أمام غابة من العناصر التي تشحنه بكيمياء الخلق، المرأة فيها تتعالى عن الجسد العضوي إلى جسد أثيري، والبياض اللوني يتحول إلى فضاء غامر للحلول والفناء، وهذه الكتابة المفارقة تؤكد حقيقة انحياز الشاعر الفلسطيني إلى أمكنة يستحضرها بعيداً عن الذاكرة القهرية التي اكتوى بها الفلسطيني المنفي والمطرود.. ولا شك أن هذه التغايرات الأسلوبية في القصيدة الفلسطينية وحيوية الأجيال الجديدة (غسان زقطان، إبراهيم نصر الله، محمد حلمي الريشة وغيرهم) تعكس فاعلية التجديد في ثياب (الإمبراطور الشعري)، وحرية الجسد في اصطناع طرق حريره بعيداً عن إغواءات (روائح التاريخ) ومقايسات المهيمن النقدي الذي اعتاد أن يضع القصيدة الفلسطينية في خانات محددة!
إن قصائد الريشة استوقفتني كثيراً لما تحمله من بطانة شعورية تتوهج بباعث الإنسان المفروز بوحدته وأسئلته خارج إطار مرجعيته الرمزية! والذي يجعل رغبته أكثر حضوراً في هندسة ما هو شعري، وكأنه يستحضر ما قاله انسي الحاج بأن "الشهوة تحرره أكثر من الحق"، وهذا الانحياز الخالص للذات الشعرية يمنحه قدرة على إعادة مشهده الشعري على أساس مقابلته لنزوعه الجمالي، وعدم احتباسه في الشكل المقطوع إلى غنائيته، لتكون قصيدته هنا أكثر استعداداً لتمثل حدسه ورؤيته التي تجوس وتبحث وتكشف؛ لأن القصيدة هي نص مائي يحتاج إلى الجريان لئلا يفسد، ويحتاج إلى التأويل لئلا يجف!
ففي قصيدته (التحت) التي كتبت تحت هاجس النص التدويري ذي البنية السطرية، ثمة توليدات متواترة للاستعاري الذي يكشف عن دلالات غير متوقعة، وهي رغم وهج غنائيتها التي انحاز فيها إلى مرجعية الصوت، إلاّ أنه استعاد عبر كثافتها البنائية قوة البنية التصويرية التي تكشف عن حيوية الحركة في الزمن، وفي دلالة المكان غير المشروط، حيث يفكك الشاعر إشارة الوقت (هي في هذا الوقت) ليكشف عن وقته الشخصي الذي يخرجه عن محدوده الشرطي إلى زمن رؤيوي يرتبط بالكشف والمعرفة، وينزاح عبر امتداده اللامحدود نحو تحقيق اكتمال اللذة:
هِيَ في هذَا الوَقتِ تَقُودُ خُطَايَ إِلَى حَيثُ الوَردَةِ في قَلبِ القَلبِ الظَّامِئِ لِلرَّائِحَةِ المَلْمُوسَةِ عَن بُعْدٍ.. كَيفَ أَجِيءُ إِلَيهَا الآنْ؟ أَو تَأتِي في هذِي الوَحشَةِ نَحوَ بَقَاءِ العُزلَةِ وَحدِي مَعَهَا إِذْ يَنْتَفِضُ الحِضْنُ إِلَيهَا مِن كُوَّةِ رُوحٍ تَتَوَاثَبُ نَحوَ تَبَرعُمِ عِشقٍ فيَّ إِلَيهَا..
إن هذه القصيدة التوليدية ذات الإطار التفعيلي، والتي كتبها بعض شعراء الستينيات خصوصاً الشاعر حسب الشيخ جعفر، تعكس رغبة الشاعر في عدم الاستكانة للشكل الشعري المحدد وعدم التمثل لشروطه؛ فهو عمد إلى استعادة اللغة الشعرية ووهجها في تنفيذ لعبته الشعرية، وهذا يجعله أمام فضاءات النص المفتوح، الذي وجد في أغلب نصوصه النثرية مجالاً خصباً لتركيب ظاهر لغته وتنافذها إلى بهجة معانية المحمولة على شفرات إيروسية وحسية مترعة بإيحاءاتها، والتي تجعل الشكل عادة جزءاً من فن لعبتها في سعة البوح، وفي فعل الاندفاع وصولاً إلى إعادة إنتاج اللذة ذاتها، حتى يبدو الشكل المدور هو معادل تعويضي للدورة الجسدية في استحضار واستعادة فعل اللذة.
الشاعر محمد حلمي الريشة شاعر رؤيوي، وهذه الصفة تجعله يضع الجسد الإيروسي مقابل الجسد الأرضي، ويضع الوطن/ المكان مقابل لحظته الوجودية، وهذا ما يمنحه حرية في التعاطي مع دلالة الوطن عبر قهر الرغبة ذاتها التي تؤرخن الوطن في المكان القديم بعيداً عن الملامسة، وكأنه وطن/ متحف، أو وطن أيقوني، ففي قصيدة (الكمائن) يبدو الوطن هو التفاصيل اليومية مثلما هو النشيد! واستعادة الوطن عبر استعادة التفاصيل تجعله أمام الوطن الثوري والوطن الطاعن بالمحنة والمحاصر بالجنود ورهاب المكان المشوب بالعزلة والوقت المسفوح بالانتظار المفتوح على الأبدية:
الطُّرُقُ المَجرُوحَةُ ، في طَرِيقي ، رَطبَةُ الطَّمْيِ ،
[ بَيضَاءُ مِن لَبَنٍ أَحيَاناً ]
تَتصَاعَدُ مِثلَ سُلَّمٍ جَبَليٍّ ،
بَل هيَ هكذَا ؛ جِبَالٌ أَسِيرَةٌ ،
مَفرُوشَةٌ بِلَحمِ النَّباتَاتِ الغَرِيبَةِ
أَخشَى عَلَيهَا خُطَايَ البَطِيئَةَ أَنْ يَذهَبَ الرَّبِيعُ سَرِيعَ الخُطَى
في الحِصَار !
*
- كَمِ السَّاعَةُ الآنَ أَيُّهَا الظِّلُّ الضَّيِّقُ ؟
- هل خُطوَتي تَصِلُ الأَبَدِيَّةَ ؟
أَم أَنَّهَا جَاذِبِيَّةُ خَشَبٍ
مُغرُوزٍ إلَى رُكبَتَيَّ ؟
إن هذا الإحساس الضاغط هو توصيف استثنائي ليوميات الاحتلال ويوميات الطريق إلى الوطن! وهذا التوصيف يجعل الشاعر أمام لعبة استعارية تمور بغموض شفيف يحاول من خلاله ممارسة وظيفة التدليل والحضور والنفي، وهذا المركب الوظائفي يجعله ينسف الكثير من الترميزات التقليدية التي تضع الوطن أمام كثافة إبلاغية وبلاغية تفقد سخونة التفاصيل، وتشيء برعب كينوني فجائعي لا حدود له سوى الإشهار اللغوي المسكون برؤيا الفجيعة، في قصائد الريشة تحضر الذات الرائية (رؤيا كلكامش) التي تكشف عن الأثر في المكان والجسد، مثلما يحضر فيها الوطن بتفاصيله ويومياته ساخناً وضاجاً ومكشوفاً وحاضناً لهذيان الشعراء ومخيالهم وهم يبحثون عن امرأة تطرز المساءات باللهث، وتبادل الليالي بسيولة البياض الظاهر بفوضاه الجميلة!
08-أيار-2021
29-تشرين الأول-2006 | |
12-أيلول-2006 | |
06-أيلول-2006 | |
12-تموز-2006 | |
22-أيار-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |