أشكال الفساد باتت معروفة، رغم تعددها واختلافها عمقا وسطحية، وخفاء وظهورا، وتأثيرا، وعمومية وخصوصية، وارتفاعا وهبوطا، وفردية وجماعية. ويهمنا هنا من أشكاله ما هو إداري ومالي وفردي وتحتي وليس فوقي وظاهر "نسبيا". وفي الوقت الذي تنجح الدول التي لا يتغير النظام فيها عبر ربيع(ثورة ناجحة) أو خريف (ثورة فاشلة) أو إصلاحات عميقة الجذور (أرودغانية علمانية بنكهة إسلامية) تنجح دولنا الديناصورية في التشديد على أشكال الفساد الأقل تأثيرا وعمقا وتفشل – وهو أمر منطقي من القرنة التي اقبع فيها– في محاربة الفساد العميق، والمتجذر، والمؤثر في الاقتصاد القومي، وحياة الشعب ومستقبله.
ولا تهدف هذه المقالة إلى فتح سيرة الفساد العميق؛ لأن كاتب هذه السطور يؤمن بضربة الجن وضربات أخرى من غير الجن، ولأنه لا يمكن اجتثاث الفساد حتى بحجم مكتبة كمكتبة الكونغرس. ولا تهدف إلى تقديم حل يقضي على الفساد الصغير المسكين فهو أول من يتم البطش به، وذبحه بطريقة أبشع من الطرق النقشبندية في ذبح الخرفان، والداعشية في ذبح ألإنسان، ولكنها تهدف إلى تقديم حل للفساد المتوسط عبر إجراءات حكومية في الدوائر الحكومية المختلفة، أما القطاع الخاص فإن كثيرا- وليس الجميع، أنا مستحيل أعمم- من أصحاب الشركات والمؤسسات الضخمة موغلون في الفساد العميق. وأما الشركات الصغيرة فهي "يا دوب" واقفة على قدميها. وأما الشركات المتوسطة فإن أصحابها لهم أعين على موظفيهم أوسع من مغائر جبال السلط أو جبال نابلس، وكثير منهم -لا جميعهم، قلت مستحيل أعمم - موغلون في الهبش المتوسط والصغير.
الفكرة بسيطة وسهلة التطبيق ومنطقية. إنها تقوم على المقدمات التالية:
• بما أن بعض أشكال الفساد الواسطة والمحسوبية والرشوة،
• وبما أن ممارسيها هم الصف الثاني وما دونه من بعض موظفي الدوائر الحكومية، حيث يتم تقاضي مبالغ تقل او تكثر مقابل القيام بمعاملة والتغاضي عن بعض مخالفاتها للقانون او مقابل "تسريع" العمل في انجازها، أو إحالة عطاء، أو السكوت على عيوب البضاعة الموردة لمخازن الحكومة، أو طرح عطاء لأجهزة لا حاجة للدائرة أو القسم أو الوزارة فيها، ومن ثم استلامها ثم دفنها في المستودعات، الخ.
• وبما أن المحصلة تذهب إلى جيوب ممارسيها، وبالتالي لا تستفيد الدولة ولا المواطن من هذه المبالغ،
• وبما أن "بعض (بعدني مفتح وما بعمم" المواطنين يقومون بدفعها او حتى عرض دفعها،
فالنتيجة المنطقية – هذا إذا بقي منطق في هذا العالم السائح بعضه على بعض- هي جعل المواطن يدفعها من خلال إنهاء دور من يتقاضاها وإحلال الدولة محله- يعني المواطن سيظل يدفع ولهذا خلقه الله بعد العبادة، الجديد هو أن بلدنا سيصبح أول دولة في التاريخ تقضي على الفساد.
وهكذا تقتضي الفكرة أن تستوفي الحكومة من المواطنين رسما يسمى "بدل فساد" بنسبة تتفق عليها الحكومة مع البرلمان – إذا كان البرلمان أصلا يختلف مع الحكومة مع أنني كأردني لا أيأس من البرلمان بدليل كوني أول الواقفين في طوابير الناخبين في كل عرس ديمقراطي العروس فيه هو المواطن- وتوزع نسبة من حصيلة هذه الرسوم على الموظفين على شكل حوافز لتسريع المعاملات وإيجاد طرق وبدائل للمعاملات المخالفة.
وختاما أرجو ألا يفهم أحد أنني أطلب تقنين الفساد لأنه سيفاجأ حين يعلم بأن الفساد في بعض أشكاله مقنن بل إن بعض القوانين تؤدي لا محالة إلى نشوء واستفحال الفساد. والمثال بسيط وهو الروتين المستند إلى قوانين وتعليمات وأنظمة تجعل المواطن والموظف يبحثان عن "زانة" تساعدهم على القفز فوقه.
نعم أيها السادة. لنقنن الفساد أو في الحقيقة لنطوقه ونحجمه تمهيدا للامساك بخناقه وجعله يتنفس بصعوبة تمهيدا لشطبه من سجل النفوس. والله من وراء القصد.
مترجم وقاص أردني