انتظرنا طويلآ في الحافلة حتى وصلنا إلى هذه النقطة الحدودية ، لم يكن مجرد انتظار بحت ، أتذكر وأنا أكتب هذه المذكرات أنه حين صعودنا الحافلة كان كل شئ مرحآ ، متفائلآ ، حتى أن إحدى النساء اللاتي كن يجلسن في المؤخرة بدأت تزغرد ، رغم أن الجميع أبدوا استياءهم من تصرفها إلا أنها كانت وبكل بساطة قد عبرت عما ينتابهم ، إنها السعادة بأجلى صورها ، و كأن الله نفخ في قلوبهم ، ترى ما السر وراء ذلك؟!!! طوال الطريق لم أستطع أن أبتسم... ولا حتى لذاك الطفل الجالس بجانب أبيه في المقعد المجاور لي ، وأنا أتذكرهم الآن أضحك ملء قلبي ، الأب بنظارات سميكة وشعر أشعث وأسنان يعلم الله كم عانت حتى تصمد في فمه ، يحادث ابنه الذي على الأرجح لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره ، يخاطبه وكأنه صديقه المقرب ، يشكو له من ألم مفاصله و يحكي له عن خاله الذي ينتظرهم في الجانب الآخر من الحدود ، إلا أن الطفل لم يكن مباليآ بكل هذا وذاك ، ينظر من النافذة شاردآ و يحرك يديه بإيماءات تدل على عدم اكتراثه ، إلا أن الوالد يستمر بسرد حكاياته التي لا تبدو أنها توشك على النهاية ، لربما تقولون أنه لمن الوقاحة أن أتنصت على تلك الأحاديث ، إلا أن ذلك صدقآ لم يكن بملأ إرادتي ، لكأن أفكاري تبعدني عنها ، لا تريدني أن أغوص فيها ، فتنتقي حيزاً من الزمن تكون فيه فارغة ، كيلا أستحضر ذكرى بلدتي ، تلك التي حفرت حفرة فيها ذات يوم لكي ألعب الدَّحل ومن ثم انهارت تاركة حفرة الدَّحل وحيدةً ، لكأنَّ الحفرة ابتلعتها بكلِّ ما فيها ولفظتني ، أتذكر أني جلست طويلآ بجانبها أنتظر أن تلفظ أحدآ غيري ، إلا انتظاري طال ولم تفعل ، فحزمت أمتعتي ورحلت مع أوَّل قافلة مرَّت من جانبها ، حاقداً عليها وعلى يدي تلك التي حفرتها.... ها قد وصلنا ويبدو أنَّ الطَّريق قد قضى على نفحة الله في الرُّكاب ، الوجوه متجهِّمةٌ ، من كانت تزغرد في البداية تذرف الدُّموع الآن ؛ يبدو أن هذه المرأة قد خلقها الله مرآة لقلوب من حولها... سوف نتدارى بحرش أشجار الكرز ذاك ومن ثم سنلتفُّ نحو اليمين حيث يصبح السِّياج أمامنا ، هناك حفرت نفقآ تنزلون إليه ليفضي بكم إلى الجانب الآخر حيث ستمشون نصف ميل في البساتين ، عندها ستصلون لشارع عام وتكونون قد وصلتم لبرِّ الأمان ، كذلك وجهنا السَّائق هامساً بعد أن تقاضى أجره و ودَّعنا بقوله : ''توصلوا بخير وسلامة'' تابعنا طريقنا كما دلَّنا السَّائق ، تدارينا بحرش اشجار الكرز ومن ثم انعطفنا يمينآ حيث وجدنا بقعة مغطَّاةً بأوراق نخلٍ يابسةٍ ، أدركنا فورآ أنَّه بالأسفل منها يبدأ النفق ، وبالفعل كان كذلك ، فما أن رفعناها حتى تراءى لنا ، وبدأنا ننزل فيه واحداً تلو الآخر ملتزمين بتعاليم السَّائق بأن نبقى صامتين أو إذا أردنا أن نتكلَّم ف همساً ، مشينا حوالي ربع ساعة أسفل الأرض، متراصِّين كأننا في يوم الحشر ، في النَّهاية صاح أحدهم : ها قد وصلنا ، وبالفعل كانت نهاية النَّفق باديةً للجميع ، خرجنا من الحفرة كالجرذان حين تخرج من المجارير ، ننظر حولنا مشدوهين بكل شئ ، عالم آخر هو ، مختلف كليآ ، لكأنَّ ذاك النَّفق كان البرزخ بين الحياة والموت ، كنَّا قد مشينا ربع ساعةٍ و حياةً كاملةً.... نشوةٌ تلك التي تسلَّلت إلى قلوبنا هنيهة جعلت أحد الشُّبان يصرخ ابتهالآ ، لكن سرعان ما اختفت صرخته و هبط علينا نور من الأعالي فرقنا عن بعضنا ، نجوم بدأت بالهطول من السَّماء تتراقص فيما بيننا ، تقبِّل رأس أحدهم ، تعانق صدر آخر ، حتَّى أنَّ إحداهنَّ قبَّلت قدمي فإذ بي أزحف وأصرخ بكل ما أوتيت من صوت جهوري ، تذكرت حينها تلك المرأة الجالسة في مؤخرة الباص ، كانت تعلم بكل ما سيحدث : قلت في نفسي ، تلك التي تبدو خرقاء كانت أدرانا....كانت تستعد لملاقاة النجوم ، كانت تتأهب لنزول السماء إليها لتحتضنها ، وتزغرد.... بقيت محتميآ بشجرة صفصاف ضخمة حوالي نصف ساعة ، كانت النُّجوم فيها قد عادت إلى مكانها الطبيعي ، أصغيت سمعي لعلَّني أسمع صوت أحدهم ، لكن لا شئ كان سوى الصَّمت. انتظرت طويلآ على هذه الحال ، حتَّى أيقنت أنَّ خالَ ذلك الطِّفل اللَّامبالي سيظلُّ ينتظر إلى الأبد ، و أنَّ تلك الحفرة قد ابتلعت وطني بأكمله هذه المرة ، ولفظتني. لملمت جرحي بما أوتيت من جلَدٍ ، ومضيت أتعثر بخطواتي ، مشيت ساعات وساعات ، كان دمي يقطر في كل خطوة ، يستنفذُ حتى الرمق الأخير ، بدأت أشعر بالغثيان ، سقطت أرضاً ، شفتاي تلامسان التراب ، ويدي مطوية بعنف تحت جسدي ، نظرت حولي مرة أخرى ، مرة أخيرة ، لكن لا أحد ، كانت هذه البلاد فارغةً.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...