Alef Logo
ابداعات
              

كم كان كل شيء من قبل سهلا

عدي الجندي

خاص ألف

2019-04-06

أُزيل بيت العزاء المنصوب شمال القرية ، وعادت الحياة إلى طبيعتها ، الشارع المغلق منذ ثلاثة أيامٍ فتح اليوم للمارة .
دراجات تجول مسرعة ، وأطفال خرجوا صباحاً بمراييلهم الزرقاء الملطخة بتراب اللعب ، محملين بنعاس ثقيل وحقائب أثقل تحني هاماتهم الصغيرة.
أُزيل بيت العزاء ، وفي المنزل القديم ذي الغرف المهلهلة المجاور ، كانت أم أحمدٍ رصينة الملامح جالسةً القرفصاء إزاء عتبة غرفتها ، وأمامها يمتد الفناء بخضرته الغضة و شجرة تينه المرحة التي تختال بغنج مع نسمات الربيع الحانية ، والتي ما عاد حطَّ طيرٌ عليها ولا بنى عشاً.
ويمتد أكثر ما يمتد في ذلك الدار ، فراغه المروِّع بِصَمته الموحش وسخريته المريرة .
في المنزل القديم نفسه ، كان على أم أحمد أن تعتاد منذ الآن وصاعداً ، البكاء وحيدةً ، ولقاء أطياف الغفلة دون عونٍ ، ولا رفيق ، كان عليها ان تستشعر الثلج المحترق في صدرها وتحتمله ، دون ارتعاشٍ ، وأن تهدأ روع يدها الخشنة ، حتى لا تجن تلك وتحفر لحمها.
ومن خلف شجرة التين اللعوب كان يأتيها صوتٌ : حذار والنوم يا أم أحمد . صوتٌ رخيمٌ لا يكاد يصمت حتى يعاود الهمس : " اصرخي حتى لا يُسمع صوت إلا صوتك ". لكنها إذ لم تكن لتستطيع ذلك ، راح يعاود بأسىً : كم كان كل شيء من قبل سهلاً يا أمَّ أحمد.

**********************
استلقت أم أحمد على فراش فقيدها ، تدثرت بلحافه ، وتوسدت وسادته ، كانت رائحة المكان لا تزال كما هي ، لا شيء تغير ، العطر ذاته ، ورائحة التبغ ذاتها ، المكتبة القائمة جانب النافذة لا تزال أيضاً كما هي يعلوها الغبار ، الكرسي جانب السرير أيضاً لا يزال يحمل أكوام الملابس ، وهي أيضاً أكوام الملابس لاتزال على وضعها حين كان ، بترتيبها العشوائي ذاته كما ألقاها هو دون أدنى تغيير ، وكأس الشاي ، كأس الشاي الذي سقط على الطاولة حين ارتطم بها أثناء مغادرته الغرفة ، كان هو أيضاً على حاله ، وقطرات الشاي ، _في شيء من السحر _ لا تزال تنسكب واحدة واحدة من على حافة الطاولة ، كانت لم تجف بعد.
حين استلقت أم أحمد هنا ، كانت تريد شيئاً واحداً دون غيره ، كانت تريد من هذا المكان ، من هذه الروائح ، ومن هذا النقص الهائل في الغرفة ، أن يحرك شيئاً ما داخلها ، شيئاً يدغدغ قلبها ، لكنه لا يُخرِج رأسه ، هي لم تكن تريد إلا ذلك ، أن يخرج رأسه ، فتبكي حينئذ لو فعل أو تعتزم أمراً آخر.
كانت أم أحمد في الحمام ، تقضي حاجتها ، حين أخرج ذلك الشيء رأسه !! كان الجو قذراً في هذا الحمام الخارجي البسيط حيث لا ماء يجري فيه ، كما لم يكن صوت سوى صوت أناتها ، ف بكت ، بكت كما لم يكن لها أن تبكي في الغرفة أو في أي مكان آخر ، بكت من فقدها وبكت أكثر من دناسة المكان.
هنا حيث لا شيء يربطها بمن فقدت ، استعرت نار جوفها ، كما لو كان كل شيء عاشته قد عاشته هنا ، في هذا الحمام القذر !!! وفي الحال أدركت أم أحمد .
لا شيء سيحرك فيها شيئاً بعد اليوم ، لا ذاكرة ولا مكان ولا صوت ، لا شيء ، و لن يأتيها إحساس إلا من حيث لا تتوقع ، وأن تلك المباغتة هي ضرورة قصوى من ضرورات العذاب ، كما أدركت أن هذا الشعور قائم بذاته ولا سلطة لأمر من الأمور عليه ، لا مكان ولا زمان.
رفعت أم أحمد رأسها إلى السماء تبكي حين كانت لا تزال في الحمام جالسة القرفصاء ، فأتاها صوت رخيم : كم كان كل شيء من قبل سهلاً يا أم أحمد.



أُزيل بيت العزاء المنصوب شمال القرية ، وعادت الحياة إلى طبيعتها ، الشارع المغلق منذ ثلاثة أيامٍ فتح اليوم للمارة .
دراجات تجول مسرعة ، وأطفال خرجوا صباحاً بمراييلهم الزرقاء الملطخة بتراب اللعب ، محملين بنعاس ثقيل وحقائب أثقل تحني هاماتهم الصغيرة.
أُزيل بيت العزاء ، وفي المنزل القديم ذي الغرف المهلهلة المجاور ، كانت أم أحمدٍ رصينة الملامح جالسةً القرفصاء إزاء عتبة غرفتها ، وأمامها يمتد الفناء بخضرته الغضة و شجرة تينه المرحة التي تختال بغنج مع نسمات الربيع الحانية ، والتي ما عاد حطَّ طيرٌ عليها ولا بنى عشاً.
ويمتد أكثر ما يمتد في ذلك الدار ، فراغه المروِّع بِصَمته الموحش وسخريته المريرة .
في المنزل القديم نفسه ، كان على أم أحمد أن تعتاد منذ الآن وصاعداً ، البكاء وحيدةً ، ولقاء أطياف الغفلة دون عونٍ ، ولا رفيق ، كان عليها ان تستشعر الثلج المحترق في صدرها وتحتمله ، دون ارتعاشٍ ، وأن تهدأ روع يدها الخشنة ، حتى لا تجن تلك وتحفر لحمها.
ومن خلف شجرة التين اللعوب كان يأتيها صوتٌ : حذار والنوم يا أم أحمد . صوتٌ رخيمٌ لا يكاد يصمت حتى يعاود الهمس : " اصرخي حتى لا يُسمع صوت إلا صوتك ". لكنها إذ لم تكن لتستطيع ذلك ، راح يعاود بأسىً : كم كان كل شيء من قبل سهلاً يا أمَّ أحمد.

**********************
استلقت أم أحمد على فراش فقيدها ، تدثرت بلحافه ، وتوسدت وسادته ، كانت رائحة المكان لا تزال كما هي ، لا شيء تغير ، العطر ذاته ، ورائحة التبغ ذاتها ، المكتبة القائمة جانب النافذة لا تزال أيضاً كما هي يعلوها الغبار ، الكرسي جانب السرير أيضاً لا يزال يحمل أكوام الملابس ، وهي أيضاً أكوام الملابس لاتزال على وضعها حين كان ، بترتيبها العشوائي ذاته كما ألقاها هو دون أدنى تغيير ، وكأس الشاي ، كأس الشاي الذي سقط على الطاولة حين ارتطم بها أثناء مغادرته الغرفة ، كان هو أيضاً على حاله ، وقطرات الشاي ، _في شيء من السحر _ لا تزال تنسكب واحدة واحدة من على حافة الطاولة ، كانت لم تجف بعد.
حين استلقت أم أحمد هنا ، كانت تريد شيئاً واحداً دون غيره ، كانت تريد من هذا المكان ، من هذه الروائح ، ومن هذا النقص الهائل في الغرفة ، أن يحرك شيئاً ما داخلها ، شيئاً يدغدغ قلبها ، لكنه لا يُخرِج رأسه ، هي لم تكن تريد إلا ذلك ، أن يخرج رأسه ، فتبكي حينئذ لو فعل أو تعتزم أمراً آخر.
كانت أم أحمد في الحمام ، تقضي حاجتها ، حين أخرج ذلك الشيء رأسه !! كان الجو قذراً في هذا الحمام الخارجي البسيط حيث لا ماء يجري فيه ، كما لم يكن صوت سوى صوت أناتها ، ف بكت ، بكت كما لم يكن لها أن تبكي في الغرفة أو في أي مكان آخر ، بكت من فقدها وبكت أكثر من دناسة المكان.
هنا حيث لا شيء يربطها بمن فقدت ، استعرت نار جوفها ، كما لو كان كل شيء عاشته قد عاشته هنا ، في هذا الحمام القذر !!! وفي الحال أدركت أم أحمد .
لا شيء سيحرك فيها شيئاً بعد اليوم ، لا ذاكرة ولا مكان ولا صوت ، لا شيء ، و لن يأتيها إحساس إلا من حيث لا تتوقع ، وأن تلك المباغتة هي ضرورة قصوى من ضرورات العذاب ، كما أدركت أن هذا الشعور قائم بذاته ولا سلطة لأمر من الأمور عليه ، لا مكان ولا زمان.
رفعت أم أحمد رأسها إلى السماء تبكي حين كانت لا تزال في الحمام جالسة القرفصاء ، فأتاها صوت رخيم : كم كان كل شيء من قبل سهلاً يا أم أحمد.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

شبيه الريح

01-حزيران-2019

كم كان كل شيء من قبل سهلا

06-نيسان-2019

 هلوساتٌ أُخرى

24-تشرين الثاني-2018

نصان

10-تشرين الثاني-2018

هلوسات بحثاً عن المعنى

10-تشرين الثاني-2018

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow