_ كيف وصلنا هنا؟!! تقول هي
_ سلي نفسك كيف وصلنا هنا؟!! يقول هو
_ كيف تحل معضلات كهذه؟! ، يقول ثالث غير موجود في الغرفة ، أنا ، من أنا ؟!! لا يهم ، لا تعبأوا بي ، أنا مجرد شخص يتساءل من حين لآخر ، ويجيب في بعض الأحيان.
غرفة كهذه ، عارية ، تجمع اثنين ، شاب وفتاة ، يقفان متقابلين ، بمحاذاتهما نافذة تحمل للغرفة ريحاً ورائحة بصل مقليٍّ ، كل منهما على وعي تام بما يريده هو ،
وما يريده الآخر ، وكلاهما يحاولان تجنب الأمر ذاته ، الموت ، ليس الموت الفيزيولوجي المعتاد الذي يجعل الأعضاء جامدة وباردة ، لا الأمر يتعدى ذلك ، كون هذا النوع من الموت محتم لا يمكن تجنبه بأي حال من الأحوال ، الأمر إذا لم نكن نريد الإطالة في الحديث هو أن كليهما
ينشدان الرحمة من موتين يحاصرانهما.
كيف ذلك ؟!!
الأمر بسيط ، حين تعجز عن إكمال عمل ، كتاب ، لوحة ، سرير ، طلاء غرفة ، بناء مسجد أو رمي القمامة في الحاوية ، أي عمل ترى فيه كل مصيرك ، أحلامك وطموحك وتصورك
السابق والحاضر والآتي عن هذه الحياة ، والأهم أنك ترى فيه خلاصك فيها أي الحياة ، فتجد نفسك مضطراً للتخلص منه والمضي قدماً في إنجاز عمل آخر لا تعرفه بعد.
حسناً يمكن القول أن الحب أحد هذه الأعمال ، وبذلك كما في حالة هذين الشابين ، فإنه عمل يعجزان عن إنجازه ، وفيما يبدو من طريقة وقوفهما ، وأيديهما المعقودة كل
على صدره ، و نظراتهما الحادة ، أنهما قد خاضا مساراً طويلاً في الرحلة إلى هنا ، إلى هذه النقطة التي يعلن فيها أحدهما للآخر ، عجزه عن إكمال المسيرة ، فيما كما لو أن كلاً منهما يرى الآخر جاثٍ على ركبتيه منهاراً ، أشعث الشعر مغبرَّه ، بثياب مقطعة ووجه مغطى بخيوط
دم متخثرة ، وشفاه مشققة عطشى ، وعينان غائرتان يحيطهما السواد كأنهما ثقبان ، ثقبان ينزفان ماءً كالبئر ، ويتضرعان بصوت يعلو ويهبط بسعال متشنج : أرجوك ، أناشدك الله ... ، ثم لا يكمل الصوت ، فكلاهما لا يعرف ماذا يناشد الآخر.
ألم نقل منذ البداية أن الأمر معضلة تستعصي على الحل!!!
لكن صاحب الصوت يضم يديه من جديد و يعاود باكياً كطفل أُغلِق باب على إصبعه فيصيح بحرقة يائسة : أرجوك ، دعني ، أنا فقط لا اريد أن أموت.!!! .
هذا المشهد هو على الأرجح ما يحصل ، لكنكم أنتم ، كبشر فانين تقفون معظم الوقت موقف المشاهد الذي يشاهد نشرات الأخبار على القنوات الحكومية يوماً بعد يوم منذ
خط شارباه ، ويصدقها ، لا تزالون غير قادرين حتى الآن بسطحية السذج تلك على رؤيته. وهو موتٌ.
وموت آخر معاكس للموت الآنف ، موت يشبه أن تمسك سياجاً شائكاً ، تسري فيه الكهرباء كل حين ، سياج يحيط بقلعة كانت يوماً ملكك ، كنت ملكاً عليها ، تأمر فتطاع ،
وتشير فيحصل ، ثم في ليلة مقمرة تصحو فتجد نفسك معلقاً هنا بإصبعين ، على سياج قلعتك نفسها ، تشوه الأشواك المعدنية إصبعيك ، وتسري رعدة الكهرباء في جسدك كل حين بشكل يجعل روحك تصل فتحة منخريك وتعود ، وعلاوة على ذلك ، فإن قلعتك تلك التي كنت قد بنيتها بنفسك في مكان
عال ، أعلى مكان وصل إليه بشر ، وأنت نفسك أمضيت عمرك تصعد هنا ، قد علقتك الآن على سياجها ، مدركاً أن السقوط منها يفوق بأضعاف مضاعفة قدرتك على تحمل أي سقوط آخر كنت قد جربته من قبل ، كونه لا يعني سقوطك أنت فقط ، بل سقوط قلعتك وحصنك المهيب أيضاً ، فإذا أنت تقرر
التعلق هنا بإصبعيك الجريحين ، ورعدة الكهرباء فيك ،متيقناً ومؤمناً بأن القلعة سوف تبقى لك ، ملكك وحدك ، على الرغم من صراخ آلامك.
وهذا موت آخر..
يمكننا ملاحظة أن الأمر بالغ التعقيد ، خياران صعبان جداً ، لا بل يكادان يلامسان حواف المستحيل ، ما الذي يجب عليهما فعله ؟!! بأي طريقة يجب أن يموتا ، الموت
تجربة لا مفر منها ولا يؤخذ الرأي بها ، لكن الرأي يكمن في كيفية خوضها .
لا بد أن نترك الخيار لهما ، الأمر منوط بهما وحدهما ، لا دخل لنا نحن ، لربما يبقيان معلقين على السياج ، أو لعلهما يرميان عملهما غير المنجز ذاك ، كلا الأمرين
متاح ، وما عليهما إلا الاختيار.
ولربما في لحظة تسكن فيها الأصوات القادمة من الشارع ، ويتوقف الباب عن الصرير ، وتتوقف غيمة شفافة كانت تعبر السماء فوق المبنى المتصدع ، وتصوُّت معداتهما في
آن واحد ، لربما حينها ينساب شعاع من نور مع مجرى أنفاسهما ، فيتعانقان باكيين.
أشياء كثيرة يمكن أن تحدث لا يمكن حصرها ، ربما يقذفان بعضهما بالطوب ، أو يرمي أحدهما الآخر من النافذة ويشير إليه ضاحكاً منتشياً أثناء سقوطه ، وارد هذا أيضاً
، البشر لا يمكن التنبؤ بتصرفاتهم ، جني صغير يقبع في كبد كل منهم.
ولكي أكون صريحاً أنا الثرثار زيادة عن اللزوم ، فإن هذين الشخصين لا يعنيان لي شيئاً ولا أشتري كليهما بحبة بازلاء ، كيف؟!! لا تستغرب شيئاً ، قلت لك أن لست
أعرفهما ، الأمر أنني كنت ممتطياً صهوة الريح التي دخلت من نافذتهما فرأيتهما وسمعت بعض حديثهما ، وغادرت ، ولكي أكون صريحاً مرة أخرى أيضاً فإنني مذ غادرت شعرت أن شيئاً ما في حديثهما شدني وعلق في ذاكرتي ، شيء غريب يشبه أن ترى دجاجة تزرق ، أمر معهود ولا معنى له
، الدجاجات تزرق طوال الوقت والعشاق يتخاصمون طوال الوقت ، لكن الأمر في حد ذاته يبقى منطبعاً في مخيلتك ، لسبب آخر غير الشكل الخارجي البسيط ، سبب يحتاج منك كأس شاي حلوٍ وسيجارة تلعقها من موضعين ، ومخيلة خصبة لكي تدرك كنهه.
وإذ يتوفر لدي الشاي والتبغ وكذلك المخيلة فقد أعددت لزوم الإدراك وامتطيت ريحاً ألقتني على أرجوحة تتدلى من نجم سهيل ، حيث رحت أناظر هذا الكوكب الكئيب الذي تنبعث منه
رائحة البيض والأدوية ، وقلت : إن أمراً كذلك الذي تحدثنا عنه منوط بهما كما أسلفنا ، وهما ما هما إلا مجرد حالات ، عدا عن ذلك ليسا بشيء أو بأحد ، البشر عبر العصور ، ما كانوا حقيقة إلا هياكل عظمية مكسوة باللحم تمشي وتحلم وتنتهي بقتل بعضها والكائنات حولها ، والأهم
من ذلك أنهم كانوا وسيظلون حالات ، حالات يذكرها التاريخ جماعات أو أفراداً ، يستخلص منها العبر والحكم للمضي قدماً ، ولعل أقصى منى أحدهم هو أن يذكره التاريخ كفردٍ ، أو كحالة متفرِّدةٍ ، ومن هنا نستطيع استخلاص حقيقة لطيفة تقول أن البشر لا يموتون أبداً ، هم محكومون
بالأبدية ، أبدية الاستخدام ، الإنسان يقضي حياته يُستخدم ، فيموت آملاً بأن يكف عن كونه أداة ، فيرى بعد الموت أن روحه تستخدم عبرةً ومثالاً ، وجسده نفطاً ، فيحزن أشد الحزن في قبره .
وعاودت القول : ما هذا الذي تقول ، ما علاقته أصلاً بذينك الشابين في تلك الغرفة العارية ؟!!
في تلك الأثناء كنت قد انقسمت إلى شخصين ، الأمر أشبه بانقسام الخلايا ، وهنا يجب أن أؤكد بأنني لست خلية ، أنا فقط شبيه بها ، من ناحية الانقسام على الأقل.
أصمت قليلاً إذ أن نفسي _ أو أنا الآخر_ قد وضعتني في خانة اليكّ كما يقال ، كيف لي أن أشرح ذلك ؟!!.
حسناً ، قلت ثم أردفت بعد تفكُّر عميق ، وسحبتين مركزتين من السيجارة : الحب ، هو كلمة السر ، هو المفتاح ، لكن كيف غفلت عن ذلك ؟!! الحب هو الدافع والموجه ، حب شخصين
لبعضهما ، حب الدجاجة للراحة التي يبعثها قيامها بالزرق ، وحب الشخص لنفسه.
إنها فقط عملية إسقاط ، نعم إسقاط حالة الشابين على كل شيء ، استعصاؤهم يشبه استعصاء الكوكب كله بمخلوقاته كلها ، حبهم أيضاً يشبه حب هذا الكوكب بكل ما فيه لكل ما فيه.
نعم هو الحب ، آه منه ، يا له من صنديد جبار ذو بأس ، إنه ….إنه ، قلت متلعثماً إذ كان انقسامي ينظر نحوي بطرف عينه مرتاباً : مدية ، لا بل سيف ، يجرح ويداوي ، تقطع
به الخضار والفواكه وكذا تقطع به الأعناق والأطراف.
قال انقسامي : ما هذا التشبيه البليد الذي ألقيته ، غبي ، قل مثلاً ،اممم ، نظر نحو الأعلى مفكراً وعاقداً حاجبيه حتى فطن فقال: بل قل أنه مفتاح ، مفتاح الجنة ومفتاح
الجحيم ، وبابا الجنة والجحيم كما نعلم أنا وأنت متطابقان ، في أدق التفاصيل ، دونك حدسك إذاً ، فإما الهلاك وإما النعيم.
صفقت ولويت شفتي نحو الأسفل معجباً : أحسنت أحسنت يا أنا.
ابتسم انقسامي بتعالٍ وانتزع السيجارة من يدي ، سحب آخر نفس منها بعنف ثم نظر نحوي مقطباً :" لم تريد من كل شيء أن يعني شيئاً ، لربما لا شيء يعني شيئاً ، ألم تضع ذلك
في الحسبان؟!!.
أطرق مذهولاً ، كوني لم أكن فعلاً قد فكرت بالأمر من هذه الناحية من قبل : هذا يلغي كل شيء إذاً " أقول وأرفع رأسي خائفاً .
يصمت هو ، وتتبدى على وجهه علامات خيبة الأمل فيما يفرك عينيه بإصبعيه ، ومن ثم يقول محافظاً على هيأته نفسها دون أن يفتح عينيه " اختلاطك بالبشر مؤذٍ ، ويبدو أنك أحببتهم
، ونسيت أننا لسنا منهم".
فتح عينيه حين انتهى من نطق كلماته ، ونظر نحوي ، نظرته مهتاجة بشدة ولكنه كان يحاول تصنع ضحكة على شفتيه ، ومن ذلك بدا منظره مرعباً ، وقد ارتعبت فعلاً ، لكنني غالبت خوفي وأجبت متحدياً : "نعم أحببتهم ."
يربدُّ وجهه ، ثم بقوة جبارة هائلة يمسك بيدي ، ويشد عليها ، ثم يبتسم ابتسامة شيطانية ، تصل معها زاوية شفتيه حتى أذنيه ، يا إلهي لم أر فماً بهذه الحجم من قبل ، يبقى
يشد يدي حتى أشعر بالألم فأصيح : فيقول ها أنت تتألم ؟!! صرت منهم إذاً " يقول ويدفعني من يدي ، ومن أعلى ارجوحتي النجمية تلك أسقط نحو الأرض .
كنت مشوشاً ومرتعباً معظم الوقت أثناء سقوطي الطويل _ نظراً لبعد المسافة بين نجم سهيل والأرض _ لكن رغم ذلك فقد تسنى لي بعض الوقت لكي أفكر ، وقت قصير لا يتعدى الساعة
لكنه كان كاف لكي أصيح : أحب انقسامي المجنون ذاك ، سأعود إليه ، الحب أثمن ما أملك ، نعم أثمن شيء ، أثمن شيء ، يا إلهي أثمن شيء ، كم هو ثمين هذا الحب " وعلى أثر هذياني هذا ، وقبل أن أرتطم بالأرض بثوانٍ ، هبت ريحٌ حملتني على ظهرها ، و جالت بي الأرض مرتين ، تعلو
وتهبط ، تميل وتنعطف ، ثم في النهاية حين أدركها التعب ، دخلت مدينة بنية اللون ، تمايلت في أزقتها على مهل ، عبرت سبع شوارع رئيسية ، ثم دخلت زقاقاً ضيقاً تجتمع فيه القطط لتتقاسم وجبة القمامة ، درنا دورتين في الحي ثم صعدنا بناء قاتماً يغطيه الشحار حتى أعلاه ،
فإذا ما بلغنا قمته فتحت نافذة ، وخرج منها رأس شاب صغير ، تنشق الهواء ملأ رئتيه مبتسماً ، ثم عاود فدخل ، نظرت نحو الداخل مستطلعاً ، ماطَّاً رقبتي ، ولساني يتدلى من فمي ، فرأيته يقبل على سرير تنام عليه فتاة عارية بضة الجسم ، يقبِّل جبينها ويغطيها حتى كتفيها
، ثم ينشغل بإعداد قهوته فيما يدندن أغنيةً بذيئةً.
من هذا الشاب ؟!! أيكون هو؟!! وتلك الفتاة ؟!! أهي نفسها؟!! : أصيح.
تضحك الريح برقّةٍ ، وبلمح البصر ، بسرعة تفوق الخيال ، تنطلق بي نحو الأعلى وهي تزمجر .
ومن البعيد أرى ضوءاً يلتَمع في عتمة الفضاء ، إنه نجم سهيل : "لا بد أننا متجهون نحوه!!" ، أصرخ متأثراً ، "سأعود" ، أعاود الصراخ مبتهجاً، فتضحك الريح مرَّةً أخرى
: " طبعاً ستعود ، لمَ رأيت ما رأيت إذاً ؟!! و فيما كان سقوطك ؟!!"
تتثاءب الريح وتزيد سرعتها.
عدي الجندي