Alef Logo
ابداعات
              

شبيه الريح

عدي الجندي

خاص ألف

2019-06-01

_ كيف وصلنا هنا؟!! تقول هي

_ سلي نفسك كيف وصلنا هنا؟!! يقول هو

_ كيف تحل معضلات كهذه؟! ، يقول ثالث غير موجود في الغرفة ، أنا ، من أنا ؟!! لا يهم ، لا تعبأوا بي ، أنا مجرد شخص يتساءل من حين لآخر ، ويجيب في بعض الأحيان.

غرفة كهذه ، عارية ، تجمع اثنين ، شاب وفتاة ، يقفان متقابلين ، بمحاذاتهما نافذة تحمل للغرفة ريحاً ورائحة بصل مقليٍّ ، كل منهما على وعي تام بما يريده هو ،
وما يريده الآخر ، وكلاهما يحاولان تجنب الأمر ذاته ، الموت ، ليس الموت الفيزيولوجي المعتاد الذي يجعل الأعضاء جامدة وباردة ، لا الأمر يتعدى ذلك ، كون هذا النوع من الموت محتم لا يمكن تجنبه بأي حال من الأحوال ، الأمر إذا لم نكن نريد الإطالة في الحديث هو أن كليهما
ينشدان الرحمة من موتين يحاصرانهما.

كيف ذلك ؟!!


الأمر بسيط ، حين تعجز عن إكمال عمل ، كتاب ، لوحة ، سرير ، طلاء غرفة ، بناء مسجد أو رمي القمامة في الحاوية ، أي عمل ترى فيه كل مصيرك ، أحلامك وطموحك وتصورك
السابق والحاضر والآتي عن هذه الحياة ، والأهم أنك ترى فيه خلاصك فيها أي الحياة ، فتجد نفسك مضطراً للتخلص منه والمضي قدماً في إنجاز عمل آخر لا تعرفه بعد.

حسناً يمكن القول أن الحب أحد هذه الأعمال ، وبذلك كما في حالة هذين الشابين ، فإنه عمل يعجزان عن إنجازه ، وفيما يبدو من طريقة وقوفهما ، وأيديهما المعقودة كل
على صدره ، و نظراتهما الحادة ، أنهما قد خاضا مساراً طويلاً في الرحلة إلى هنا ، إلى هذه النقطة التي يعلن فيها أحدهما للآخر ، عجزه عن إكمال المسيرة ، فيما كما لو أن كلاً منهما يرى الآخر جاثٍ على ركبتيه منهاراً ، أشعث الشعر مغبرَّه ، بثياب مقطعة ووجه مغطى بخيوط
دم متخثرة ، وشفاه مشققة عطشى ، وعينان غائرتان يحيطهما السواد كأنهما ثقبان ، ثقبان ينزفان ماءً كالبئر ، ويتضرعان بصوت يعلو ويهبط بسعال متشنج : أرجوك ، أناشدك الله ... ، ثم لا يكمل الصوت ، فكلاهما لا يعرف ماذا يناشد الآخر.

ألم نقل منذ البداية أن الأمر معضلة تستعصي على الحل!!!

لكن صاحب الصوت يضم يديه من جديد و يعاود باكياً كطفل أُغلِق باب على إصبعه فيصيح بحرقة يائسة : أرجوك ، دعني ، أنا فقط لا اريد أن أموت.!!! .

هذا المشهد هو على الأرجح ما يحصل ، لكنكم أنتم ، كبشر فانين تقفون معظم الوقت موقف المشاهد الذي يشاهد نشرات الأخبار على القنوات الحكومية يوماً بعد يوم منذ
خط شارباه ، ويصدقها ، لا تزالون غير قادرين حتى الآن بسطحية السذج تلك على رؤيته. وهو موتٌ.

وموت آخر معاكس للموت الآنف ، موت يشبه أن تمسك سياجاً شائكاً ، تسري فيه الكهرباء كل حين ، سياج يحيط بقلعة كانت يوماً ملكك ، كنت ملكاً عليها ، تأمر فتطاع ،
وتشير فيحصل ، ثم في ليلة مقمرة تصحو فتجد نفسك معلقاً هنا بإصبعين ، على سياج قلعتك نفسها ، تشوه الأشواك المعدنية إصبعيك ، وتسري رعدة الكهرباء في جسدك كل حين بشكل يجعل روحك تصل فتحة منخريك وتعود ، وعلاوة على ذلك ، فإن قلعتك تلك التي كنت قد بنيتها بنفسك في مكان
عال ، أعلى مكان وصل إليه بشر ، وأنت نفسك أمضيت عمرك تصعد هنا ، قد علقتك الآن على سياجها ، مدركاً أن السقوط منها يفوق بأضعاف مضاعفة قدرتك على تحمل أي سقوط آخر كنت قد جربته من قبل ، كونه لا يعني سقوطك أنت فقط ، بل سقوط قلعتك وحصنك المهيب أيضاً ، فإذا أنت تقرر
التعلق هنا بإصبعيك الجريحين ، ورعدة الكهرباء فيك ،متيقناً ومؤمناً بأن القلعة سوف تبقى لك ، ملكك وحدك ، على الرغم من صراخ آلامك.


وهذا موت آخر..

يمكننا ملاحظة أن الأمر بالغ التعقيد ، خياران صعبان جداً ، لا بل يكادان يلامسان حواف المستحيل ، ما الذي يجب عليهما فعله ؟!! بأي طريقة يجب أن يموتا ، الموت
تجربة لا مفر منها ولا يؤخذ الرأي بها ، لكن الرأي يكمن في كيفية خوضها .

لا بد أن نترك الخيار لهما ، الأمر منوط بهما وحدهما ، لا دخل لنا نحن ، لربما يبقيان معلقين على السياج ، أو لعلهما يرميان عملهما غير المنجز ذاك ، كلا الأمرين
متاح ، وما عليهما إلا الاختيار.

ولربما في لحظة تسكن فيها الأصوات القادمة من الشارع ، ويتوقف الباب عن الصرير ، وتتوقف غيمة شفافة كانت تعبر السماء فوق المبنى المتصدع ، وتصوُّت معداتهما في
آن واحد ، لربما حينها ينساب شعاع من نور مع مجرى أنفاسهما ، فيتعانقان باكيين.

أشياء كثيرة يمكن أن تحدث لا يمكن حصرها ، ربما يقذفان بعضهما بالطوب ، أو يرمي أحدهما الآخر من النافذة ويشير إليه ضاحكاً منتشياً أثناء سقوطه ، وارد هذا أيضاً
، البشر لا يمكن التنبؤ بتصرفاتهم ، جني صغير يقبع في كبد كل منهم.

ولكي أكون صريحاً أنا الثرثار زيادة عن اللزوم ، فإن هذين الشخصين لا يعنيان لي شيئاً ولا أشتري كليهما بحبة بازلاء ، كيف؟!! لا تستغرب شيئاً ، قلت لك أن لست
أعرفهما ، الأمر أنني كنت ممتطياً صهوة الريح التي دخلت من نافذتهما فرأيتهما وسمعت بعض حديثهما ، وغادرت ، ولكي أكون صريحاً مرة أخرى أيضاً فإنني مذ غادرت شعرت أن شيئاً ما في حديثهما شدني وعلق في ذاكرتي ، شيء غريب يشبه أن ترى دجاجة تزرق ، أمر معهود ولا معنى له
، الدجاجات تزرق طوال الوقت والعشاق يتخاصمون طوال الوقت ، لكن الأمر في حد ذاته يبقى منطبعاً في مخيلتك ، لسبب آخر غير الشكل الخارجي البسيط ، سبب يحتاج منك كأس شاي حلوٍ وسيجارة تلعقها من موضعين ، ومخيلة خصبة لكي تدرك كنهه.

وإذ يتوفر لدي الشاي والتبغ وكذلك المخيلة فقد أعددت لزوم الإدراك وامتطيت ريحاً ألقتني على أرجوحة تتدلى من نجم سهيل ، حيث رحت أناظر هذا الكوكب الكئيب الذي تنبعث منه
رائحة البيض والأدوية ، وقلت : إن أمراً كذلك الذي تحدثنا عنه منوط بهما كما أسلفنا ، وهما ما هما إلا مجرد حالات ، عدا عن ذلك ليسا بشيء أو بأحد ، البشر عبر العصور ، ما كانوا حقيقة إلا هياكل عظمية مكسوة باللحم تمشي وتحلم وتنتهي بقتل بعضها والكائنات حولها ، والأهم
من ذلك أنهم كانوا وسيظلون حالات ، حالات يذكرها التاريخ جماعات أو أفراداً ، يستخلص منها العبر والحكم للمضي قدماً ، ولعل أقصى منى أحدهم هو أن يذكره التاريخ كفردٍ ، أو كحالة متفرِّدةٍ ، ومن هنا نستطيع استخلاص حقيقة لطيفة تقول أن البشر لا يموتون أبداً ، هم محكومون
بالأبدية ، أبدية الاستخدام ، الإنسان يقضي حياته يُستخدم ، فيموت آملاً بأن يكف عن كونه أداة ، فيرى بعد الموت أن روحه تستخدم عبرةً ومثالاً ، وجسده نفطاً ، فيحزن أشد الحزن في قبره .

وعاودت القول : ما هذا الذي تقول ، ما علاقته أصلاً بذينك الشابين في تلك الغرفة العارية ؟!!

في تلك الأثناء كنت قد انقسمت إلى شخصين ، الأمر أشبه بانقسام الخلايا ، وهنا يجب أن أؤكد بأنني لست خلية ، أنا فقط شبيه بها ، من ناحية الانقسام على الأقل.

أصمت قليلاً إذ أن نفسي _ أو أنا الآخر_ قد وضعتني في خانة اليكّ كما يقال ، كيف لي أن أشرح ذلك ؟!!.

حسناً ، قلت ثم أردفت بعد تفكُّر عميق ، وسحبتين مركزتين من السيجارة : الحب ، هو كلمة السر ، هو المفتاح ، لكن كيف غفلت عن ذلك ؟!! الحب هو الدافع والموجه ، حب شخصين
لبعضهما ، حب الدجاجة للراحة التي يبعثها قيامها بالزرق ، وحب الشخص لنفسه.

إنها فقط عملية إسقاط ، نعم إسقاط حالة الشابين على كل شيء ، استعصاؤهم يشبه استعصاء الكوكب كله بمخلوقاته كلها ، حبهم أيضاً يشبه حب هذا الكوكب بكل ما فيه لكل ما فيه.

نعم هو الحب ، آه منه ، يا له من صنديد جبار ذو بأس ، إنه ….إنه ، قلت متلعثماً إذ كان انقسامي ينظر نحوي بطرف عينه مرتاباً : مدية ، لا بل سيف ، يجرح ويداوي ، تقطع
به الخضار والفواكه وكذا تقطع به الأعناق والأطراف.

قال انقسامي : ما هذا التشبيه البليد الذي ألقيته ، غبي ، قل مثلاً ،اممم ، نظر نحو الأعلى مفكراً وعاقداً حاجبيه حتى فطن فقال: بل قل أنه مفتاح ، مفتاح الجنة ومفتاح
الجحيم ، وبابا الجنة والجحيم كما نعلم أنا وأنت متطابقان ، في أدق التفاصيل ، دونك حدسك إذاً ، فإما الهلاك وإما النعيم.

صفقت ولويت شفتي نحو الأسفل معجباً : أحسنت أحسنت يا أنا.

ابتسم انقسامي بتعالٍ وانتزع السيجارة من يدي ، سحب آخر نفس منها بعنف ثم نظر نحوي مقطباً :" لم تريد من كل شيء أن يعني شيئاً ، لربما لا شيء يعني شيئاً ، ألم تضع ذلك
في الحسبان؟!!.

أطرق مذهولاً ، كوني لم أكن فعلاً قد فكرت بالأمر من هذه الناحية من قبل : هذا يلغي كل شيء إذاً " أقول وأرفع رأسي خائفاً .

يصمت هو ، وتتبدى على وجهه علامات خيبة الأمل فيما يفرك عينيه بإصبعيه ، ومن ثم يقول محافظاً على هيأته نفسها دون أن يفتح عينيه " اختلاطك بالبشر مؤذٍ ، ويبدو أنك أحببتهم
، ونسيت أننا لسنا منهم".

فتح عينيه حين انتهى من نطق كلماته ، ونظر نحوي ، نظرته مهتاجة بشدة ولكنه كان يحاول تصنع ضحكة على شفتيه ، ومن ذلك بدا منظره مرعباً ، وقد ارتعبت فعلاً ، لكنني غالبت خوفي وأجبت متحدياً : "نعم أحببتهم ."

يربدُّ وجهه ، ثم بقوة جبارة هائلة يمسك بيدي ، ويشد عليها ، ثم يبتسم ابتسامة شيطانية ، تصل معها زاوية شفتيه حتى أذنيه ، يا إلهي لم أر فماً بهذه الحجم من قبل ، يبقى
يشد يدي حتى أشعر بالألم فأصيح : فيقول ها أنت تتألم ؟!! صرت منهم إذاً " يقول ويدفعني من يدي ، ومن أعلى ارجوحتي النجمية تلك أسقط نحو الأرض .

كنت مشوشاً ومرتعباً معظم الوقت أثناء سقوطي الطويل _ نظراً لبعد المسافة بين نجم سهيل والأرض _ لكن رغم ذلك فقد تسنى لي بعض الوقت لكي أفكر ، وقت قصير لا يتعدى الساعة
لكنه كان كاف لكي أصيح : أحب انقسامي المجنون ذاك ، سأعود إليه ، الحب أثمن ما أملك ، نعم أثمن شيء ، أثمن شيء ، يا إلهي أثمن شيء ، كم هو ثمين هذا الحب " وعلى أثر هذياني هذا ، وقبل أن أرتطم بالأرض بثوانٍ ، هبت ريحٌ حملتني على ظهرها ، و جالت بي الأرض مرتين ، تعلو
وتهبط ، تميل وتنعطف ، ثم في النهاية حين أدركها التعب ، دخلت مدينة بنية اللون ، تمايلت في أزقتها على مهل ، عبرت سبع شوارع رئيسية ، ثم دخلت زقاقاً ضيقاً تجتمع فيه القطط لتتقاسم وجبة القمامة ، درنا دورتين في الحي ثم صعدنا بناء قاتماً يغطيه الشحار حتى أعلاه ،
فإذا ما بلغنا قمته فتحت نافذة ، وخرج منها رأس شاب صغير ، تنشق الهواء ملأ رئتيه مبتسماً ، ثم عاود فدخل ، نظرت نحو الداخل مستطلعاً ، ماطَّاً رقبتي ، ولساني يتدلى من فمي ، فرأيته يقبل على سرير تنام عليه فتاة عارية بضة الجسم ، يقبِّل جبينها ويغطيها حتى كتفيها
، ثم ينشغل بإعداد قهوته فيما يدندن أغنيةً بذيئةً.

من هذا الشاب ؟!! أيكون هو؟!! وتلك الفتاة ؟!! أهي نفسها؟!! : أصيح.

تضحك الريح برقّةٍ ، وبلمح البصر ، بسرعة تفوق الخيال ، تنطلق بي نحو الأعلى وهي تزمجر .

ومن البعيد أرى ضوءاً يلتَمع في عتمة الفضاء ، إنه نجم سهيل : "لا بد أننا متجهون نحوه!!" ، أصرخ متأثراً ، "سأعود" ، أعاود الصراخ مبتهجاً، فتضحك الريح مرَّةً أخرى
: " طبعاً ستعود ، لمَ رأيت ما رأيت إذاً ؟!! و فيما كان سقوطك ؟!!"

تتثاءب الريح وتزيد سرعتها.


عدي الجندي





تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

شبيه الريح

01-حزيران-2019

كم كان كل شيء من قبل سهلا

06-نيسان-2019

 هلوساتٌ أُخرى

24-تشرين الثاني-2018

نصان

10-تشرين الثاني-2018

هلوسات بحثاً عن المعنى

10-تشرين الثاني-2018

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow