إيقاعات من أجل الحياة (ولا يُشبه النهر شيئًا سواك)
وصال ميشيل سرحان
2019-03-30
سنعمل في هذا المقال الموجز على بلورة بعض الصور الأساسية الواردة بشعرية دقيقة، في النصوص الشعرية (ولا يُشبه النهر شيئًا سواك…) لسميح شقير، وهو شاعر سوري من مواليد 1957، وناشط في العديد من الميادين الفكرية والفنية… كتب الأغاني ولحنها وأنشدها بالفصيح والعامية، وأصدر ديوانه الأول عن دار كنعان، الموسوم بـ (نجمة واحدة) سنة 2006. أما ديوانه الثاني الذي سنحاول إلقاء بعض الضوء عليه (ولا يُشبه النهر شيئًا سواك) فصدر، 2017، عن دار ميسلون، وقد ترجمته الشاعرة ربيعة الجلطي إلى الفرنسية.
يحتوي الكتاب على 120 صفحة، وفيه سبعة وثلاثون قصيدة شعرية، حملت الأولى عنوان المجموعة الشعرية (ولا يُشبه النهر شيئًا سواك…) ويستحضر الشاعر في مجموعته الشعرية، ذكريات الجسر المجيد الذي انهار بعد أن كان يحمل المشاة ويسهل العبور، وبعض الأصدقاء الذين عاشرهم في زمن مضى…. لن نتوقف على التفاصيل الشعرية والإيقاعية الكثيرة، ولكننا سنُعيد توضيح بعض الصور الشعرية، ونحاول إبراز الدلالة الحقيقية لبعض المعاني التي تحرك الجانب الإنساني، وتنير المشاعر الخفية في الشاعر، إلى درجة السكن معه داخل جمال الكلمة والصورة، وبعض الذكريات الجميلة في الحياة.
ؤ
إيقاعات من أجل الحياة:
يُسجل لنا الشاعر وصفًا مضبوطًا ورهيبًا عن عتمة الحياة في الحرب، وعن غياب ثمرة علاقاته التي عرفها مع بعض الخلان والأصدقاء والكائنات والحوادث والأشياء التي عاشرها ونشأ فيها. وبالتالي نشهد مع الشاعر حواره الأليم مع العسكري، ابن بلاده، الذي يُخبره أنه عبد مأمور ويُتابع إطلاق النار وإنزال البراميل القاتلة… وأخيرًا يتحول إلى “حفار القبور”.
تتراكم الذكريات وتُمطر بحنينها إلى عدة أماكن وإلى الوطن الأم؛ فيستحضر عدة صور زاهية تلون ذاكرته بأجمل عبق الورود والسندس… ويحكي عن “زواريب المخيم” وأحداثه وعن الإرهاب والقصف والقناص والغارات والبراميل و”الجثث المكومة” والصرخات التي تخمد وتنطفئ كانطفاء “سيجارة تحت حذاء الليل”… يتعلق الأمر لدى الشاعر في إعادة بناء إيقاعات مفاهيم باتت غامضة لديه: كمفهوم الصديق والوطن والعشرة والحياة… يصطدم بنمط حياة مختلف، فيتحير إزاء بعض الأحداث ويتضاعف حرجه إزاء كل هذه المفاهيم المعبرة، التي وظفها بقصدية بينة. ويتحدث عن مفارقة قبيحة بين مفهوم الصديق الأنيس الغائب/ الحاضر، ومفهوم الخليل المحب الملتبس في حبه، وبين الكيفية التي تعود بها في بعض التصرفات وحقيقة الواقع الذي سُيجت فيه ذاته وانعزلت وحيدة!
بين كل هذه الروابط المتعاكسة، لم يعد الصديق صديقَا، وتبعثرت الذاكرة بصور مُريبة عن الصديق/ العدو، فيتساءل بحيرة مرتابة: “لماذا إذن حين راح الصياد يقنُص عصفور رأسي، رأيتك حوله تجمع فوارغ الطلقات”!
ويصف بحركة قوة الألفاظ، أجمل سنوات حياته وأقبحها، فنراه فاعلًا في الحياة وليس متفرجًا سلبيًا: “سأكتب في غمرة الحرب فوق البنادق/ فكر قليلًا/ فتنهزم الحرب/ يهوي السلاح”.
وبهذه الديناميكية المتبصرة للفظ، يلج الشاعر الحياة بفكر ثابت، لكنه يستاء لسلوك من كان يعتقد فيهم الوفاء، ويستنكر عنف من يُطيح بالعشرة، فيصور بحماسته الشعرية كل المفارقات الأليمة ويستغيث بأمه: “لو توقفين الحرب يا أمي”.
لقد تعب الشاعر ولم يعد يطلُب إلا الرحمة بعد هذه المأساة التي قلبت السائد من القيم. لذلك تحولت وجهة الشاعر إلى اتجاه أكثر حميمية إلى قلب الأم الرحيم. علينا أن نتجه جهة الرحمة البيضاء من أجل إيقاع حياتي سليم، وأن نُغير موضوع تركيزنا، علنا نوقف عنف القلوب الفاحمة ونترك جانبًا الحرب والصرخات الموجعة والخوف والحواجز والاعتقال.
هذه الكينونة الخاصة التي تستنجد بالأم ورحمتها وبالموسيقى وعذوبتها، تصل إلى حد طرح السؤال على الأم، غايته البحث عن هذا المصير المجهول لأن الأسف لا ينفع الآن… فما جدوى الأسف؟ ومن يستغيث؟ فلعل جحيم السجن أرفق له من استغاثة “رجل الأمن” والجلد حتى الموت” أرحم له من مناشدة الطيار أو استغاثته وصراخه…
كثيرة هي الأسئلة… لكن لا أحد سيُنهي هذه الحرب غير الأم ورحمتها. وعلى الرغم من ذلك، تذهب ذاكرة الشاعر إلى الفطائر التي كانت تجهزها أمّ الصديق فيأكلوها معًا… كانت علاقة ودودة بينهما، حتى إن الفتيات “تُخطئ بين اسمينا إذا ناديننا”…. كل هذا الحب لا ينفصل عن صور ذكرياته وعن صراعه الإنساني من أجل الحياة. فهل يمكن للأم أن تُرجع كل الصفات الإنسانية المتناسية والرحمة في القلوب؟ وهل يمكن أن نتجرد من إنسانيتنا لصالح الحرب والدمار؟
يُثير الشاعر إيقاعًا حماسيًا متجددًا في القارئ، وفي مفهوم الصديق وفي الإنسان حتى يُتابع نضاله من أجل الحرية والإنسان وكل الذكريات الجميلة. وعلى هذا النحو الجميل، ينتهي صراعه مع الواقع والذكريات، فإنسانية الإنسان والرحمة والأم… كل هذه المفاهيم تمنح الشاعر قوة ومقدرة على عدم الاستسلام، وعلى مهاجمة الحروب دون توقف، وعلى التمرد على كل سلطة… والتساؤل من جديد بحيرة تبحث عن حياة فاضلة:
“عند الحاجز الملعون قيدني رفاقك
ولم تقل شيئًا إذ الدم سال من صُدغي
بكعب البندقية”.
يستحضر الشاعر سميح شقير في ديوانه (ولا يُشبه النهر شيئًا سواك) كل هذه اللوحات الشعرية، ويجمع كل أفكاره ومشاعره وذكرياته التي ارتسمت في عُمق ذاكرته، فيلتقط منها صورًا شعرية أبهجت القارئ في مضامينها الثرية وبعث الدهشة فيه، إلى درجة أن استبطن معه هذا الإحساس الأليم، وحاول الكشف عن أصل الداء، من خلال مفاهيم تضاربت وتناقضت في تجربة وجود فردية وجماعية.
كيف لا، وقد اقتضى منه الأمر التنقيب في بعض سجلات حياته، والعودة إلى أصل الألم للتغني به شعريًا؟