رجل على محيط دائرة
2007-09-21
جمد لحظة ..
وتحجرت عيناه حين كان خداه يتلقيان الصفعة تلو الصفعة.
غابت صفرة الخوف عن وجهه .. حمرة الصفعات أخذت مكانها .
وحين بدأت تلسع خلايا وجهه انفجر ببكاء مر .
الرجل الذي صفع ولده انهار على الأريكة لاهثا . جاهد عينيه حد الإرهاق كيلا تنظرا إلى صغيره الذي رجاه قبل يومين أن يقيم حفلة عيد ميلاده الخامس.
الرجل الذي صفع صغيره تأوه وهو يسأل نفسه ؟ " هل كان يجب أن أفعل ذلك ؟"
الوجبة التالية لا يعرف متى تأتي .
ولا يعرف من "صاحب النصيب " فيها .
كل ما يعرفه إنه سيتقلب طوال الليل . وسيذهب غدا صباحا إلى عمله في البنك ليكون هناك قبل الثامنة . وسيكون أول من يصل إلى موقف الحافلة ، وأول الوجوه العابسة بانتظارها. وحين تصل سيكتشف أنه صار في آخر الطابور والألم في بطنه يصرخ من ضرب المرافق و الاكواع . وسوف يصل إلى عمله ،ويكتشف أن عقارب ساعته لدغته ثماني لدغات ونصف . وسيقول مغتصبا بعض البشاشة لرئيسه :"صباح الخير". وسيكون الرد مخرزا يدخل إلى قلبه من أذنيه :" لماذا تأخرت ؟" وسيضيف رئيسه عبارته التي اعتاد بصقها في وجهه " لا أعلم إن كنا فتحنا البنك "تكية " ؟؟!
إنذار . خصم راتب .و ستفتح الديون شدقيها حتى تتشقق .
وسيأتي عميل . يخترق طابور العملاء الآخرين . ويقذف بالشيك من نافذة الصرف .
" فئة الخمسين والعشرين . أوراق جديدة فقط !"
وسينبهه إلى عدم جواز تخطيه الآخرين الذين تخرج همهماتهم كطنين ذباب "المزابل" . وسيعيد إليه الشيك معتذرا ،ومشيرا إلى الطابور.
وسيذهب العميل إلى المدير . وسيشكو .
وسيدعوه المدير ، و كسجادة مهترئة مغبرة "سينفضه" أمام العميل. وسيقول له العبارة الذهبية :" العميل على حق دائما" .وسيقذف ما يشبه المخاط على ما تبقى لديه من إحساس بأنه موظف البنك الكبير : " أترى هذا الباب . لا تظنه صغيرا . إنه " يفوت جمل ".
وعند انتهاء الدوام سيولول جرس الهاتف .ويكرر رئيس القسم ما يسمع :" ضيف سيأتي إلى البنك بعد ساعة .على الموظفين انتظاره، واستقباله ،والحفاوة به، والاستماع إلى محاضرته بشغف ،وانتباه وأن يبادروا إلى توجيه الأسئلة الذكية ."
وسيأتي الضيف قبيل المغرب، وسينتهي الاستقبال بعد العشاء. وسيمشي متعبا شاردا ؛فيصطدم بالمارة ، والخوف أن سيكون اصطدامه بامرأة .
فتصفعه،
و تصرخ بأنه تحرش بها ،
وسيأتي الشرطي
فيصفعه،
وسيقتاده إلى المركز الأمني ، ويبقيه ساعة أو ساعتين. وبعد أن يشرح لهم إنه كان متعبا شاردا مضروبا على رأسه ،و يؤكد إنه يستحق الشنق لأنه لم يعرف لماذا خلق الله العينين ،و لأنه لم يستقل سيارة تاكسي ، ويستدن الأجرة من أقرب جار له حين يصل إلى حيه . وبعد الكثير من " يا سيدي " و" أبوس أياديكم " و " كلامكم صحيح سيدي : أنا نذل . والله أنا نذل !!" سيطلق سراحه. وسيعود كفرخة سرقتها السكين ، وحرقة ملعونة تلعلع في ثنايا معدته. وسيستقل الحافلة وسيسأل عن الأجرة المقررة ، وسيقول له " الكنترول " الذي ستجعلك الأوساخ على جلده تحتاج إلى " مندل" لتعرف لون بشرته الحقيقي :"إنها ثلاثة عشر قرشا" .وسيفتش في جيبه فيجد عشرين قرشا لا أقل ولا أكثر. وسيعطيها للكنترول الذي تغلفن لسانه بطبقة سميكة من الألفاظ التي تستخدم فقط في المواخير. وسينتظر أن يعيد له سبعة القروش. وستسير الحافلة وهو ينتظر أن تعاد له القروش السبعة . وسينتهي الكنترول من وضع الشريط في جهاز التسجيل وهو ينتظر. وسيعلو الصوت ويخبو الأمل في عودة القروش السبعة . و سيدخن راكب المقعد خلفه، وسيبدأ هو بالسعال الشديد لأن رئتيه المصابتين بالربو تخنقهما أية رائحة.
وسيطلب من الرجل أن يطفئ سيجارته؛ ويقول بكلمات تعب في تحضيرها لتخرج مؤدبة :" لأن التدخين يضر بالصحة وممنوع في الحافلات". وسيحدجه الرجل بنظرة نارية ،وسيعقبها نصيحة " لوجه الله " ( شوفلك باص ثاني أو أقوللك: اشتري " كركعة " أحسن لصحتك!!).
وسيتحول إلى السائق ليشكو، وسيرى خطين رماديين طويلين يخرجان من أنفه ؛ فيتحول إلى الكنترول فيجد شفتيه تمصان سيجارة تشعر بأن الكنترول يعتقد أنها آخر سيجارة له في الحياة الدنيا حيث من المعلوم لديه أن لا سجائر في الآخرة ولو بالتهريب . وسيتذكر السبعة قروش؛ فيطلبها وقلبه ينتفض خجلا من إحساسه بما سيكون رأي الركاب به . وسينظر الكنترول إليه من أول شعرة على ناصيته وحتى رباط حذائه ؛ وسيقول : "أنت سكران . من سنة الهزة ونحن نقول من بقي له شيء؟!! أم أنكم غاويين نكد ؟!!" و كفأر مذعور أنهكته أقدام وأحذية وعصي سيصمت ويلتجئ إلى زاوية المقعد، فيصطدم بالسيدة الجالسة إلى جانبه فتتململ ،وتكاد تصرخ . وكالمكهرب سينتفض ويقف وهو يقول :" أنا في عرضك مش قصدي ". وسينزل في منتصف الطريق ويمشي مسافة تقاس بالفراسخ إلى البيت . وحين يصل سيجده مغلقا فيطرقه بغيظ ، وسينسى أن الساعة بدأت نمرة رقصتها الثانية صباحا. وستفتح له ابنته تفرك عينيها وتتثاءب " صباح الخير بابا" ، فيصرخ قائلا :" لا صبحك الله ولا مساك بالخير . هل نامت العين الساهرة حتى تغلقوا الباب مبكرا ؟"
بغيظ .. بِغِل .. سيجد نفسه يوجه صفعة لرئيس القسم . صفعة للعميل . صفعة للمدير . صفعة للشرطي . صفعة للكنترول . للمدخن . للسائق . وسيصحو ولده الصغير على صوت عويل أخته ، وسيأتي إليه قبل أن يفهم شيئا ،ويقول " بابا، ماما ضربتني وحرمتني من المصروف .أعطني مصروفي" .
عندها تبدأ الوجبة التالية.
08-أيار-2021
11-آذار-2015 | |
15-آب-2009 | |
28-تموز-2009 | |
مناقشة مقال" لكي نصل بالإسلام إلى القرن الثاني والعشرين" للأستاذ سحبان السواح |
30-حزيران-2009 |
27-حزيران-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |