قصة / حـ(و)رية
2008-01-27
اقتربت اللحظات التي أستطيع فيها أن أكون وحورية كيانا واحدا لا يتميز فيه أي منا عن الاخر، تماما كما تكون هي مع اي رجل آخر يرغبها حد إراقة الدم.
بالطبع هي منذ عرفتها في تخوم الحي الغربي الملاصق تماما لحينا الشرقي المتداعي تصر على أنها ليست لأحد من الرجال وأنها لجميع الرجال شريطة ان يثبتوا انهم رجالا قادرين على احتمال تفلتها حتى النهاية فترويضها مهرة جموح والاستحواذ عليها –كانت وما تزال تقول- ليس كلي المطاطة.
واعترف أنني كنت أتقزز منها أحيانا وأحيانا أخرى أشعر أنني لست الرجل الذي يثبت انه أهل لها، فقد كانت فعلا فرسا جموحا حتى لمن روضها وبالجملة كنت أخافها ، وأخاف التفكير فيها، وفي عاقبة مد اليد لتطويق خصرها، وعصره ليذوب كلانا في الآخر.
في المدرسة الابتدائية الحكومية المختلطة انحشرنا أنا وهي في مقعد واحد. كانت هي أطول مني قامة – وقد ولدت هكذا - وقد عرفت أنا هذا في سن مبكرة وقبلتُه،وعرفته هي أيضا ولم تقبله ، ولهذا رفضت أن تتحدث معي بأية كلمة، بل وحاولت كثيرا ان "تقلعني " من "الدرج" . ذات مرة " دفشتني" بمؤخرتها الصغيرة حين أدارت المعلمة للصف ظهرها لتكتب على اللوح فوقعتُ على الارض. وشعرت بالحرج وسط ضحكات أقراني واضطراري للشكوى للمعلمة. سألتها المعلمة لماذا فعلت ذلك، فردت بأنها لا تحب أن يشاطرها احد الدرج وخاصة أنا.
سألتها المعلمة لماذا هو خاصة.
فأجابت :"لأنه قصير القامة ، ويلبس نظارة، وينظف انفه بكم قميصه، ولا ينظر في وجهي كما يفعل بقية الأولاد، ويتحدث إلي كأنه مسؤول عني. لا أريده بجانبي!"
وحين قالت لها المعلمة بأنها من تقرر من يجلس هنا وهناك،عبست وكلح لونها الأبيض المشرب بحمرة الدم ثم لوت شفتيها، ونظرت إلى أشجار البلوط العالية وقالت :" أنا مثل تلك العصفورة على البلوطة . انا حرة. فليختر اي مكان آخر."
وانسحبتُ من الدرج يومها بعد أن سمعت معلمة أخرى مرت ودست رأسها من الباب المفتوح جزئيا تقول لمعلمتنا:" أبوها مساعد مدير التربية في منطقتنا، يستطيع أن يغلق باب المدرسة في وجهك، ومن يدري قد تكون المدرسة التالية في أقصى الجنوب او أقصى الشمال" وكانت هزة رأس معلمتي كفيلة بإقناعي أن قضيتي خاسرة.
وفي اليوم التالي تغيبتُ عن المدرسة، وحلفت لوالدتي بأنني سأرمي نفسي تحت عجلات حافلة المدرسة إذا أعادتني إلى تلك المدرسة.
اليوم بالنسبة لي مناسبة رائعة لأصحح مسيرة تاريخية من الانطواء والعزلة والعزوف عن النساء. وسيبدأ مهرجان حياتي القادم بها ومعها من هذا المطعم الامريكي الذي تحتل فيه طاولة مطلة على الشارع من خلف واجهة زجاجية رائعة النظافة تشقها صورة رجل نصف ملتح يبتسم ابتسامة مفاوض من الاتحاد الأوروبي مع مفاوض شرق أوسطي.. ابتسامة مرحة ودودة وكريمة.
ولأنها كريمة لم آت الى هذا المطعم صدفة فقد قرأت الاعلانات عن افتتاحه في مدينتنا وانه يقدم الوجبات السريعة في يوم الافتتاح مجانا.
وكانت هي هناك. تطالع كل الوجوه. تلتقط كل نظرة من أي شخص لتبتسم له. لكنها لم تكن كبنات الهوى. النظرة في العينين لم تكن دعوة رخيصة. لا ضحكة ماجنة. لا تلميح بالخروج من المكان ولا حتى الانطلاق من "أسر" المقعد. من يستطيع القراءة حقا كان يقرأ دعوة من نوع افراغ الجيوب من المفاتيح وإعلان الحرب على الأبواب المغلقة. ربما كانت أيضا دعوة للجلوس في حوض مليء بحامض الكبرتيك والذوبان التام وأخذ شكل الحوض ولونه إذا أمكن. دعوة الى الامساك بخيوط العقل وركوبها كبساط الريح وتركه يطير على هوى الهواء.
نالني منها ما نال غيري. وأطنني قرأت النظرة صح، فقد قمت وجلست مقابلها، فتوسعت حدقتا عينيها، فرأيت فيهما كل الالوان معجونة معا كأنما شاءت الحياد مع الألوان كلها وبخاصة الأسود والأصفر والحنطي كما هي للأبيض.
استوعبتني في ظل نظرتها فاستكنت للحظة التفحص والتأمل وتكوين الفكرة.
قلت : "أتذكرينني؟"
هزت رأسها وابتسامة على شفتيها:" لو قال الهواء الذي يلامس جلودنا هذا ، أمّا أن يقوله خلدٌ يخرج من جحره ويسأل هل تعرفينني؟ من أنت؟" سألت ساخرة.
" أنا شاكر مكرمات سيدو. كنت زميلك في المدرسة والان استاذ جامعي . أدرّس علم الاجتماع."
قالت : زميلي . زملائي قليلون عكس عشاقي . لكن من أعشقهم أقل. تقول إنك الآن أستاذ في الجامعة. لن اسألك كيف كنت في المدرسة، أو ماذا فعلت بحياتك. لنر يا زميلي كيف أنت الان. بالطبع أنت تريد أن تمتلكني. لست مغرورة . إنها الحقيقة. لدي ما ليس لدى النساء الاخريات. انهن مجرد أجساد تنتظر لحظة اشتعال بالرغبة ثم تنطفيء كلمعة برق. شعلتي أنا لا تنطفيء. وقودها دم الرجال وصراخهم وهم يتعذبون أو يُعذَّبون. سادية ؟ لست سادية . كل امرأة تعرف مَهرها حتى من لا يعترفن بالمهور يحددن لقلوبهن ثمنا يدفعه من يحبهن. كن صريحا : هل أنت رجل؟ لا حاجة لأن تخلع سروالك لتجيبني؛ فالقرد سيكون رجلا في هذه الحالة وربما أكثر فحولة وامتاعا. أنت لا تنكر أن مثلي يجب أن تختبر رجلها كي يثبت أنه أهل لها. هكذا حرائر النساء.
قلت بتحد :" جربيني"
قالت :" في أي جامعة أنت؟"
قلت :" جامعة كذا "
قالت:" "تُخرج هاتفك النقال ،وتتصل برئيس الجامعة ، وتقول له رأيك فيه بصراحة. قل له بأنه أصبح رئيسا لا لكفاءته العلمية أو الادارية بل لأنه يجيد هز الذنب لوزير التعليم العالي ولأن له أقارب دعموه في الوزارة. قل له بأن مستوى الجامعة العلمي صار مثل الدلو الذي يلقى في الحفر الامتصاصية لا يخرج الا القاذورات والروائح الكريهة. قل له إنك أفضل منه وأحق منه. ألم يدر كل هذا في ذهنك يوما ما؟"
ربطة العنق تحولت فجأة الى مشنقة تعصر عنقي وتشفط الهواء من خلايا جسدي كله،وتمنعه من الدخول الى رئتي.
قلت بصوت خافت ذليل :" لا أستطيع."
قالت :" حسنا ، قف على هذه الطاولة واصرخ في وجه كل من يدخل ولكل الجالسين. قل إن الوجبات التي يعدها المطعم الامركي هذا يسبب أمراضا لا علاج لها وأن الدعاوى مرفوعة ضده في كل أمريكا."
"لا أستطيع. لقد أكلت وشكرتهم."
" قل إذن ان دخل المطعم الامريكي هذا يذهب لقتل الاطفال في غزة والضفة ويتحول إلى متفجرات تدمر مراقد الائمة والمساجد في العراق باسم ... باسم الحرية."
قلت باستعطاف:" لا أستطيع. سيقولون هذه سياسة. وأنت تدرس علم الاجتماع."
نهضت واخرجت من جيبها قرشا واحدا. وصاحت بالجرسون وهي ترمي بالقرش على الطاولة " هذا ثمن طعامكم القذر. هذا ثمن عالمكم الذليل."
واتجهت إلى الباب وهي تقول دون أن تنظر الي :"ما تزال ذلك الولد القصير الذي يحتاج لنظارة ليرى الاشياء ، يمسح أنفه بكمه انت الحيوان الذي لم يحتمل دفشة واحدة من مؤخرتي وسقط عن مقعدي وطواه النسيان."
ما ستعرفه حورية يوما هو أن رجلها وجد نفسه فوق الطاولة يشتم أمريكا وشركاتها وطعامها وغرورها وو.. قرار فصله من الجامعة."
08-أيار-2021
11-آذار-2015 | |
15-آب-2009 | |
28-تموز-2009 | |
مناقشة مقال" لكي نصل بالإسلام إلى القرن الثاني والعشرين" للأستاذ سحبان السواح |
30-حزيران-2009 |
27-حزيران-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |