نجيب محفوظ كاتب مبتدئ
2008-08-31
عودني صديقي الناقد الكبير "عادل عبد الفتاح" على الجلوس إلى طاولته كل يوم خميس عصرا في مطعم هاشم وسط العاصمة "عمان". واعتاد مني أن أسرح قليلا وانظر من بين طاولات الزبائن في الدخلة المطلة على شارع الخيام، ثم أطرق. واعتاد عندها أن يقول:" حسنا. لا داعي للحرج. ماذا كتبت يا "مسودة" قاص ؟"
فأعطيه قصة قصيرة كتبتها بعد آخر لقاء لنا ونقحتها مرات ومرات كي تحظى بإعجابه. فيقرأ الصفحة الأولى ثم نصف الصفحة الثانية ثم السطرين الأخيرين من الصفحة الأخيرة. ثم يقول متنهدا بعد ان يشفط الشاي وينسى عينيه معلقتين في عيني:" اللغة تتحسن. ما يزال هناك بتر في الحدث. المباشرة اختفت تقريبا. ما تزال تخنق النص باللغة الشكسبيرية. اشتغل على النهاية. يجب أن تكون النهاية صاعقة او تترك القارئ في حالة تأمل أو إحساس بأن الكاتب لف عليه . قوة القصة في نهايتها؟!"
وهكذا يلامس الخميس سميه الذي يلي والحال هو ابن الحال وكأنه قطعة من اهرامات مصر أمام عاديات الزمان.
تذكرت هذا وأنا أحاول كتابة قصة كانت تدق جدران رأسي منذ مدة . وكنت أؤجل الكتابة وأقول :" إذا نسيتها كانت فكرة عابرة. وإذا ظلت تطن كذباب غور الأردن تلح وتلح فهي جديرة بالهبوط من عالم البرزخ والهيولي إلى عالم الورق والحلولِ ِ.
وكتبتها . دفعة واحدة كتبتها. بشغف ولهفة . الكلمات كانت تسابقني إلى الورق. وأنا الهث محاولا كبح جماحها. وانتهيت ووجدتني أوقع" بقلم نجيب محفوظ."
بهت أولها. ثم خجلت. ثم أغمضت عيني كي لا أرى خاتمة جريمتي. هل بلغ بي الضعف أن أنسب ميلاد فأر إلى جبل؟
هل يشفي هذا مركب النقص الذي كان يتسارع إثر كل جلسة مع عادل عبد الفتاح؟
أم كان يرضي غرورا ما في ذاتي بأنني من وزن نجيب محفوظ مع فارق السن والجغرافية؟
لا أدري. فعلتها والسلام. بل أصررت عليها حين نسخت المسودة، ثم وقعت باسم نجيب محفوظ.ثم جاء تفسير ما فعلت. كان ضعفي وانفعالي الشديد – ولكن المكبوت أيضا- أمام صديقي الناقد يجعلني أنهار رويدا رويدا. حتى وصلت إلى مرحلة كان لابد من تقبل إيحاء ما ولو كان داخليا. وهنا جاء اسم نجيب محفوظ ليعوضني عن أيام الإحباط بدعم جديد. فكان هناك شيء يلح علي:" لم لا تكون مثله؟ هو لم يلد هكذا كاتبا كبيرا أو عملاقا ، وحتى جائزة نوبل نالها بعد أن نخر السوس عظامه وأكل العمى – أو كاد- حباب عينيه . لكن حظه جعله يأتي في عصر يتلقف فيه الناس أي كتابة، ويحتفون بأي كاتب؛ فالكتاب فليلون، والنقاد أقل، وحتى أكثر سعة أفق ودراية وتسامحا من نقاد هذه الأيام لأنهم يرون الصورة الكلية ولا يرون الجزئيات كما يفعل الأستاذ عادل عد الفتاح.
إذن سأعرض قصتي على عادل باسم الكاتب العظيم، وسأعرف حينئذ هل اسمي هو ما يعيق القراءة الصحيحة لما أكتب ؟ أعني هل كوني مبتدئا مغمورا يضع في خلفية دماغ الأستاذ عادل الحكم علي سلفا؟ أم أنه سينخدع باسم نجيب محفوظ ويبدأ باكتشاف أوجه العبقرية المختلفة في نص واحد مذيل باسم الكاتب العبقري. أم هل سيفترض عادل موت المؤلف ويركز على النص؟ إذا فعل ستكون فرصة مذهلة لأعرف أين أنا وسبب الفرق الهائل بيني وبين نجيب محفوظ.
أكلنا الحمص المميز في مطعم هاشم. وشربنا الشاي. وأتبعناه بمشروب غازي من صنع سوريا" لمقاطعتنا المشروبات الغازية الأمريكية". وجاء موعد سرحاني فسرحت، ونظراتي البعيدة التي لا تسقط على شيء فنظرت ،ثم الإطراق فأطرقت، وانتظرت سؤاله فجاء أخيرا :" خلصنا يا محمود. لا يجب أن يكون السيناريو مكررا إلى هذه الدرجة. هل كتبت شيئا؟"
قلت: " لا . لكني أعجبت بقصة لنجيب محفوظ، وأحببت أن تقرأها لأعرف لماذا الفرق هائل بيني وبينه."
هز رأسه وقال: يا رجل ألم تجد إلا نجيب محفوظ؟ أول ما شطح نطح ؟! ستعيدني إلى أيام الشباب . نجيب محفوظ؟ هذه قفزة كبيرة . لكن لا بأس على المبتدئين أن يقرءوا للقمم والقامات، وإلا فلن يكتبوا شيئا ذا قيمة."
شمر عن ذراعيه وأخذ يقرأ . بدا متشوقا ثم متحفزا ثم متأملا ثم متجهما ثم مشرقا.
خلته وهو مشمر عن ذراعيه أنه أمام منسف لحم ضان، وأنه سيغوص فيه بيديه ويجد لذة اللحم البلدي والأرز الأمريكي والشراب المصنوع من اللبن الكركي.
وبين السطر وجاره السطر كان يهز رأسه. ثم يقلب شفتيه ويميل برأسه يمينا وشمالا كأنه يسمع أغنية "الآهات" لأم كلثوم. وحين انتهى من قراءتها نظر إلى البعيد. و رغم الضجة المخيفة من حولنا دس الصمت عجزه بيننا. أطرق قليلا كأنما يفكر في كلمات مناسبة يبدأ بها درس اليوم. بانتظار ما سيقول كتمت أنفاسي كغواص متدرب. فجأة خطر لي أنه سيعرف أن القصة ليست لنجيب محفوظ. فهو قارئ نهم، دودة كتب. ولا بد أن القصة ستجد مقابلها في ذاكرته ومخزونه المعرفي كما تجد الطنجرة غطاءها. وتوقف قلبي عن الخفقان حين خيل إلي أنه سيسأل:" إذا كانت لنجيب محفوظ ، فلماذا نسختها ولم تأت بمجموعة القصص القصيرة التي كانت من ضمنها؟"
ولكن هل يسأل النقاد أسئلة ذكية كهذه؟؟!
تلاقت نظراتنا أخيرا ، فابتسم وبادلته الابتسامة بحذر واضعا على شفتي المغلقتين العبارة التي سأبرر بها ما فعلت.
لكنه لم يسأل.
لم يكن هناك سوى ابتسامة مستوطنة شفتين أغلظهما الحديث عن الإبداع والفن في الندوات، ابتسامة فقط كشفت عن أسنان أصفرها التبغ المحروق في صالونات النخبة.
لم يبق إذن إلا أن يقذف الورق في وجهي. ولن يكون في عينيه بعدها سوى نظرة ساخرة تروم أن تشويني تمهيدا لتقطيعي بسكين نابية. وتحت شاربيه المرقطين بشعيرات بيضاء خلت أن جيشا من الكلمات اللاذعة ينتظر الأمر بالهجوم على صرصور دخل عالم الأدب من بالوعة نسي أهل البيت العظام إغلاقها.
وضع الناقد الكبير الورق بهدوء على الطاولة بعد أن تأكد من أنها نظيفة. وبان الحرج في صوته وهو يقول:" من تظنني؟ أنا ناقد يا محمود عدسات. أيها القاص المبتدئ الذي سيظل يحلم بأن يسمع كلمة اعتراف بكتابته ، أنا ناقد. لكني ناقد بسيط أمامي الكثير كي أملك الحق بأن أرتقي إلى نقد قامة كنجيب محفوظ. ومع هذا سأتجرأ وأقول إن من المؤكد أن نجيب محفوظ قادر على تجديد نفسه، وتغيير أساليبه،حتى ليبدو كاتبا مبتدئا أحيانا.
عنوان القصة الذي وضعه المؤلف
أنا هو.. نجيب محفوظ
ليسامحنا على تعديله
08-أيار-2021
11-آذار-2015 | |
15-آب-2009 | |
28-تموز-2009 | |
مناقشة مقال" لكي نصل بالإسلام إلى القرن الثاني والعشرين" للأستاذ سحبان السواح |
30-حزيران-2009 |
27-حزيران-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |