هاجس
2009-04-06
وقفته أمام المتجر تذكره بهاجسه.
الآن يستطيع أن يزعم -أمام نفسه على الأقل- بأن هذا المتجر المرابط منذ سنين أمام "دوار فراس" يقع في قلب المنطقة التجارية لجبل الحسين، الذي ما يزال قلب العاصمة عمان. و مع أنها تمطت ومدت ذراعيها وساقيها في وجه الأفق الدائري كله، وافترشت لجسدها الشرق والغرب والجبل والوادي والسهل والوعر إلا أنه يراها تقبع أيضا في قلب الأردن. وربما جزم -لنفسه على الأقل- بأن الأردن يراوح بشكل ما كبندول الساعة في قلب العالم العربي. وبشكل ما أيضا يرى وطنه العربي مركز الصليب في المنظار الذي يصوب إلى قلب العالم الإسلامي الذي أغرقته سنوات حمراء قانية تستلهم طزاجة اللون من أنهر الدم.
وفي قلبه وعقله يعشش الهاجس.
وهاجسه يجبره على أن ينظر بتمعن في واجهة المحل الزجاجية الكبيرة التي ترى كل شيء وراءها من الخارج كجثث تبحث عن أرواح أتعبها الفرار، جامدة كأنما استقر الزمان في أشيائها. وسيكون غبيا لو لم يلحظ أنه لم يرها بهذا الشكل قبل اليوم، وهو يأتي كل يوم ليقف على الدوار، ويراقب المارين عبر التقاطع الذي كان اسمه "دوار فراس".
ومن خلف الزجاج العريض المضاء يرى بقايا وجهه يفترشها هاجسه أيضا.
هنا وقف قبل شهر أو أكثر فليلا، ولم تكن هذه الواجهة موجودة. وستكون ذاكرته صحراء جافة قاحلة لو خلت من تلك الحقيقة التي ترشح في دماغه؛ حقيقة أن الواجهة تغيرت خلال عام أو عامين ما يزيد على مئة مرة.
لكنه لا يدري سر جموده إزاء هذه الحقيقة المحيرة لكل من يتابع أو يهتم. فلا هو يسأل أحداً، ولا يسأل حتى نفسه. لماذا يحدث هذا في متجر في قلب جبل الحسين الذي كان يشغل يوما مقدمة قائمة الإيضاحات في بند خاص يسمى "الموقع المميز" في ملاحق الميزانيات العامة لأرفع الوكالات والشركات والبنوك التجارية قبل أن تزحف الجيوب وما نفخها، والحقائب اليدوية وما حوت إلى شوارع مثل الغاردنز والمدينة المنورة ومكة في غرب عمان الذي زرعت بناياته أقدامها الإسمنتية الرمادية، وفردت طولها في أخصب سهولها؟
ولماذا يسأل إذا كان هذا يعني جردا لميزانيته هو التي لها ملاحقها أيضا؟
لماذا لا يعترف الآن بأن حتى الرغبة في أن يسأل عن أي شيء ماتت منذ زمن ترملت أيامه، و دفن لحظاته الهانئة الوادعة المتيقنة.
ماتت حين اكتشف أنه أيضا بات كصاحب ذاك المتجر مهجوسا بوجهه وبالمعدل نفسه تقريبا.
قبل سنوات كان حليقا تماما، ويرتاد سينمات الدرجة الخامسة، ويستمع إلى همس الكبار الذين يملكون السجائر مع الصغار التواقين للسجائر، وفي العتمة يحدث كل شيء.
ثم قرر أن يطلق لحيته قليلا، ويرتاد مساجد أحياء الدرجة الخامسة، ويستمع إلى همس الكبار الذين يملكون العلم مع الصغار التواقين للعلم، وفي المحراب تستحضر الشياطين لترجم.
ثم عاد فحلقها مغفلا شاربيه، وصار له ركن في مقهى ثقافي يهمس فيه ما يشاء لمن يشاء،ويبشر بأن الجنة على الأرض ويعد الجميلات بنشر قصائدهن والقبيحات بأنشطة لا تنتهي في منظمات حقوق إنسان غير حكومية.
وبعدما تناهت الأخبار أن ناطحات سحاب في أمريكا ضربت بطائرات مدنية، وأن الدنيا صارت كامرأة مجنونة يطاردها صغار جهلة في أزقة قرية هجرتها الحضارة، قرر بدافع من تشف لئيم في أصحاب العمارات الذين طالما اعتقد أنهم يلصقون قبعات سوداء في مؤخرة رؤوسهم، ويطيلون سوالفهم، ويرتدون معاطف سوداء، ويتحدثون مع الدولار فيختبئ في معاطفهم كطفل يحتمي بوالده من شر مستطير، قرر بعدها أن يطلق لحيته حتى سُُرّتَه،وصار يدعو بالنصر للمجاهدين في كهوف أفغانستان.
لكنه حين أوشك على فقد وظيفته حين صار يقسّم وقته بين العمل وبين تمسيدها، ودون أن ينتظر الإنذار الثالث بالفصل اشترى آلة حلاقة كهربائية ماركة "براون" مع كفالة مدة سنة كاملة للمواظبة على تخفيفها، وقد قال لنفسه يومها بنشوة المنتصرين بأنه حل إشكالية الأصالة والمعاصرة التي "طلعت أرواح " المثقفين منذ "النهضة" وحتى شروق شمس يومه ذاك.
ثم وجد أن حتى اللحية بنمرة اثنين أو واحد و حتى نصف نمرة تفوح برائحة الأصولية التي تشبه رائحة الثوم من فم امرأة ساحرة الجمال تظل نفسك تهفو إليها وتصدك رائحتها، بل ووجد أن انخراطه بالمجتمع على علاقة عكسية مع طول لحيته، فلم يجد مندوحة من “السكسوكة" يختفي بين فكيها،ورغم الفتاوى كان قلبه مطمئنا، فقد اقتنع بأنها ليست علامة تجارية مميزة، ولا تشي بمنبت ولا أصل، علاوة على أنها مقبولة شرعا. وها هو يقرر اليوم وبعد أسبوع واحد على التفجيرات الإرهابية التي وقعت في مدينته أن ينزع بالزرنيخ كل شعرة من أعلى نقطة في رأسه حتى أظلم نقطة في بدنه قائلا لنفسه بصوت اخترق أذنيه:
" للشمس أن تطلع على بشرتي بعد اليوم. إنه زمن الفرز."
وهكذا كان: وجهه أمام رأسه، ورأسه بين كتفيه، وكتفاه يواجهان متجرا لا يدهشه تغيير واجهته مئة مرة في السنة. يدهشه فقط أنه يقف على تقاطع لا يحمل لوحة ترشده إلى الاتجاهات.
08-أيار-2021
11-آذار-2015 | |
15-آب-2009 | |
28-تموز-2009 | |
مناقشة مقال" لكي نصل بالإسلام إلى القرن الثاني والعشرين" للأستاذ سحبان السواح |
30-حزيران-2009 |
27-حزيران-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |