فوضانا وفوضاهم
2009-06-02
أدركني وعيي لذاتي في وسط عمان البلد. كنت أبحث عن كتاب. كتاب يخرجني من حيرتي. فحيرتي طالت أكثر مما يجب. صارت وسيلة مفضلة لإضاعة الوقت في التنقل بين عدد من البدائل، ولكن دون أن يشكل أي منها محطة وقوف وانطلاق دائمة. فمثلا كتبت الفصل الأول لروايتين، وكتبت عشر قصص قصيرة تنتظر التنقيح. وترجمت عشر صفحات من كتاب عن الخرافات والسعود والنحوس ولم أعد لأي منها، وشاهدت فلما معادا أربع مرات على الفوكسموفي مع أنه فلم آكشن تافه "دفشوا" فيه اسم عربي وألصقوه بالارهاب، وذهبت إلى الطبيب حين أوشكت على الشفاء من سعال ديكي، وخجلت من إطلاع الطبيب على ألم البواسير الذي يجعلني أجلس بزاوية 45 درجة، واكتشف الطبيب بالصدفة أن ضغط دمي مرتفع، وطلب مني أن أقيسه كل ثلاثة أيام، ففرحت ونسيت الموضوع(هل أعاني من ميل الى تدمير الذات؟)، وكي أقنع ابني بأن يدرس لأن الامتحانات اقتربت، وعدته بدينارين كاملين(لمن يعتقدون أن الدينارين شيء لا يذكر فليعلموا أن مصروف ابني اليومي ربع دينار، فأنا لست مختلسا ولا مستغلا ولا مرتشيا ولا أتوسط حتى لأمي ولست فاسدا ولا تمطر السماء عليّ دنانير حتى أعطي لابني مصروف يومي عشر دنانير وأحمله جهاز نقال..الخ) فعاد بعد نصف ساعة، وقال وعيناه لا تطرفان إنه انتهى من قراءة الكتاب "من الجلدة إلى الجلدة". في العادة أنا حمار وتيس، ولكن ليس إلى درجة أن أصدقه. فضربته وحرمته من المصروف ثمانية أيام حسوما، ومنعته من الخروج حتى يتم الكتاب بالشكل الصحيح، ولا أعرف حتى الآن – مر شهر على الحادثة- ماذا فعل.
عندما تتجه إلى البنك العربي قادما من شارع طلال، توقفك إشارة مرور شارع الشابسورغ بأدب. لكن الأدب من ذهب، والإشارة بجانب سوق الذهب. ومع ارتفاع سعر الذهب في الأسواق العالمية والمحلية، يعزف الناس عن شرائه، ويعزفون أيضا عن انتظار الضوء الأخضر المنبعث من شكل بشري تعرفه من ساقيه المنفرجتين. فيقطعون الإشارة ضاربين بعرض الرصيف باحترام السائقين لهم واحترامهم لأنفسهم. أنا أقف احتراما لكتلة الغباء المتجمدة في مخيخي الأسفل والمسماة أحيانا مبادئ، ومنها احترام القانون حتى لو أتيحت لي الفرصة. أتذكر مقولة مدرب الدروس النظرية في مركز العباسية لتدريب قيادة سيارات الركوب الصغيرة :" لو كنت أنا وحدي في العالم، وكنت أمام الضوء الأحمر لإشارة مرور، فسأقف حتى يظهر الضوء الأخضر ".
حين وصلت إلى الإشارة ، كانت هناك سائحتان شقراوتان. أتذكر أنهما سارتا بمحاذاتي حين كنت قريبا من دخلة بنك القاهرة عمان السفلى. وأتذكر أيضا أن شيئا غريبا يحدث لي كلما خرجت متجولا في المدينة. ففي جردة آخر النهار أستطيع أن أتذكر كل النساء اللواتي صادفنني في الطريق بكامل تفاصيلهن، ولا أذكر وجه أي رجل أبدا. وهو أمر لا أجد له تفسيرا سوى أن هناك شيئا فقد مني لا أعرف ما هو وأن من أخذته امرأة. حين وقفنا جميعا تخيلت أن السائحتان ستنتظران مثلي، وتخيلت أن السبب هو أيضا كتلة الغباء ذاتها. ولوهلة قصيرة شعرت بالرضا عن ذاتي. وغبطتها وقلت : أنت متحضر يا ولد و تحترم القانون. يمكنك أن تبدأ بسلالة تمهد لمجتمع مدني ودولة مؤسسات وقانون، ومن يدري ربما تنتشر الديمقراطية الحقيقية غير التطبيلية في عهدها.
الساقان الحمراون أمامي لإنسان الإشارة تصرخان وتحذران الجميع" لا تقطع الشارع، وإلا انقطع خبرك". لكن خلو الشارع من السيارات مؤقتا جدا جعل الجميع يندفعون غير عابئين بخبرهم، ويعبرون الشارع إلى الجانب الآخر، وفي طليعتهم الشقراوتان الغربيتان.
الحقيقة شعرت بطعنة نجلاء أيقظت مكامن الغباء والتياسة في كياني المتحضر. فشعرت أنني كخروف شد من أذنيه إلى مكان ما ، ودفنت رأسي بيدي من الأسئلة التي تساقطت كحجارة من منحدر أنا أسفله.
كيف تعلمتا الفوضى منا بسرعة ؟ كيف تخلصتا من كتلة الغباء دون تردد؟ هل تفعلان ذلك في بلادهما؟ أم إن شمس آخر أيار في بلادنا تبخر النظام، وتنشر الفوضى في أركان الأدمغة أيا كانت ماركتها؟
احتاج إلى كتابين الآن لإزالة الحيرة. الكتاب الثاني يجب أن يشرح لي كيف يعيثون في بلادهم نظاما، وينظمون الفوضى في بلادنا؟ ليس هذا تلاعبا بالألفاظ. فقد تلاعبوا بمصائرنا وحياتنا ومقدراتنا، وقدموا ذلك لنا تحت مسمى الفوضى الخلاقة.
لا!. أظن أني سأستغني عن كشك "أبو علي"، لأنني بحاجة إلى مكتبة. مكتبة بحجم مكتبة الإسكندرية . إسكندرية ليه؟ مكتبة الكونغرس بالتأكيد أكبر، فمنها قد أتعلم الفوضى على أصولها رغم أنني من أمة تعيش الآن في الدرك الأعلى من قمة قاع الفوضى( فوضى حتى في دلالات الألفاظ ).
فوضانا هي نظامنا الذي اعتدنا عليها، وصرنا نجدها أمرا طبيعيا كإطلاق النار في الأعراس بصورة تضمن قتل اثنين أو ثلاثة ممن يقفون متفرجين على أسطح المنازل، والوقوف طوابير لقبض دعم المحروقات مع استئجار تاكسي يكلفك نصف ما ستقبضه من دعم، والشكوى من سوء الأحوال المعيشية على البث المباشر، وفي استقصاءات التلفاز لرأي المواطنين، مع أن ما ننفقه على الدخان والمكالمات الخلوية وحدهما يكفي لدفع أجرة البيت أو فاتورة الكهرباء أو الاستغناء عن الدعم كله. ولهذا لا خوف علينا من فوضانا. سنعيش وتعيش، وسنعيش معها وتعيش معنا، وسنعيش فيها وتعيش فينا،كما عاش أجدادنا مع السرطان والفالج عقودا من عمر الواحد منهم لا يمنعه من ممارسة حياته.
روى الحافظ ابن الديلمي القشتالي في كتابه" الديجور" أن عبد الرحمن بن جويشة الزرافيلي المكنى بأبي المهابة أصابه الفالج في شقه الأيمن وقد أربى على الخمسين عاما، فعاش بعدها حتى التسعين يسير على جنب واحد، ويأكل من طرف واحد من فمه، ويخطب في الناس كل جمعة يختار في خطبته الكلمات التي لا تحتاج إلى أصوات كاللام والراء والياء وقيل في ذلك كل غريب وعجيب منها أنه كان يأتي امرأته مستندا إلى الحائط.
إذن لا خوف علينا حتى من الأمراض الفتاكة بل ونحتال لمصائبنا.
الخوف هو من فوضاهم حتى في قطع إشارة حمراء في بلادنا.
08-أيار-2021
11-آذار-2015 | |
15-آب-2009 | |
28-تموز-2009 | |
مناقشة مقال" لكي نصل بالإسلام إلى القرن الثاني والعشرين" للأستاذ سحبان السواح |
30-حزيران-2009 |
27-حزيران-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |