ليَسْقــط النّافــــع ! برنار نويــــل / ترجمة
2009-11-03
كل الكلمات، في عالم التواصل، مفخّخة بدءاً من كلمة 'التواصل' ذاتها التي كانت، منذ وقت ليس بالبعيد، تعني الجانبَ الأوفرَ من العلاقة بين البشر: فهي كانت تمنح نفسها هالة مقدسة فيما هي أصبحت اليومَ تسمِّي فضاءً للتواصل يقتصر فيه الاعتبارُ على الدعاية والتجارة. كان 'التواصل' فيما مضى يعثر على معناه في حالة من الارتباط بخارج كان يتناسب مع قدرتنا على التعبير، ويمثل أساسَ إنسانيـتنا. وممّا له بالتالي دلالة على نحو خاص هو استحواذ عالمنا الحالي على هذه الخصيصة الأساسية. فهل لنا وعي بأن تعديلاً جذرياً يكمن في ذلك الاستحواذ إلى هذا الحد الذي يعمل فيه الآن على تغيير الطبيعة البشرية بوضع شهية الاستهلاك في الموضع الذي كان مكاناً، على الدوام، لدخيلتنا؟
هذا التغيير لطبيعة التواصل، الذي هو قيد التعميم، متأصلٌ إلى درجة أننا لم نعد نقيس تأثيره. فنموُّه الشديد السرعة يلتـبس بنجاح المجتمع الإعلامي. لقد أصبحت الغواية، لأول مرة في التاريخ، هي ما يمارس الاضطهادَ وليس العنف. فكيف لا تستسلم لمشهد يحتلّ فيه التدفّق دخيلتكَ ويزوّدُكَ باستراحة ومتعة؟ ليس لهذا التدفق من معنى آخر غيرُ حركته الذاتية، وهذه الحركة ساحرة بما يكفي لأنْ تبعثَ على قابلية سلبية استلمت بطاقة 'الذهن الجاهز'. فهذا العضو اللامادي (لا أجرؤ على قول لاعضوي) مَزروعٌ فوق جسدنا كفمٍ لا يتوقف جشعُه عن أن يكون مُحتدماً.
يشتغل هذا الجشعُ على الحرمان: إذ لا يتعلق الأمر على الخصوص بإشباع الحرمان بل بخداعه مرة تلو مرة حتى يجعله نهماً. والغريب هو أن هذه الشهية تشبه شهية المعرفة فيما هي تشوّهها. ويمكن للمقارنة بينهما في جميع الأحوال أن تصلُح هنا مؤشراً على التقدم في التحليل مع محاولة فكّ بعض الغموض. والوسيلة المثلى للمحافظة على جاهزية الذهن هي أن ندفعه لاستهلاك منتوجات تبدو وكأنها تعود، إن لم يكن للمعرفة، فللدراية على الأقل. ومظهرُ الدراية من السهل اختراعُه على شكْل خبَرٍ لأن لكل شيء حجة في الإخبار: السياسة، الرياضة، الأسفار، العلم، التاريخ، الصناعة، المجتمع... إضافة إلى أن الخبر، بعد أن تم التلاعب به هو الآخر، يُعطي الانطباعَ دائماً بأنه موضوعيٌّ لأنه يظهر وكأنه ينتمي للمجَال العمومي، أي بصيغة أخرى موجّه للجميع.
على هذا النحو يكون الخبرُ هو النموذجُ الكامل لهذه المنتوجات اللامادية التي يتجه استهلاكُها بشكل كبير لتصبحَ ثقافة فيما هي تمثل مداخيلَ هائلة لمنتجيها. وتتطلب مصلحة هؤلاء أن تكون وضعية جميع ما هو لامادي مساوية للنموذج الأكثر شيوعاً، وبالتالي لنموذج الخبَر.
نرى، إذنْ، كيف أن تحوّلاً جارفاً أخذ يحتل المكانَ ويعمل، بعد أن شوّهَ التجربة الداخلية، على تشويه الأنشطة واحدة فواحدة حتى ينزعَ عنها خصائصَ جميع الإبداعات. فإرادة أن تروجَ الأعمالُ الإبداعية، التي تعتبر حسب التقليد الثقافي كأعمال الروح'، مثلما يروج الخبرُ عمليةٌ مُـزوِّرٍ ولكنها تنبئ على نحو خطير عن إرادة تدمير طبيعتها. لا أحب كلمة 'الروح' بسبب أنها استعملت بكثرة لنكران الجسد؛ لا أحب أكثر من ذلك بالطبع كلمة 'الروحي' لكن كلمة 'اللامادي' تشوّش بخطورة كبيرة على مكانها لدرجة أنه من الأفضل الرجوع إليها. وربما ليس من المناسب الإشارة بهذا الصدد إلى أن كلمة 'مُضارَبة' كانت لمدة أطول تفيد [في الفرنسية] معنى نشاط الفكر أكثر مما تعني المال: نهاية بائسة !
إن اللامادي هو عكس الروحي كالخبر الذي هو عكسُ عمل الفكر: فنفْعُ الخبر يَستنفَدُهُ فيما لانفْعُ الأعمال الإبداعية يشحن المعنى بدون توقف. ويمكن اختصارُ هذه الظاهرة بقول إن الخبر يمّحي في فهْمه فيما العملُ الإبداعي يرفض أبداً أن يكونَ مفهوماً لأنه يتطلب إعادة إبداعه. وإعادة الإبداع هي، بطبيعة الحال، ضدّ الاستهلاك، الذي يتطلب منْ جهَته النفاد الدائم لمنتوجاته. ومن ثمّ فإن فكرة الاستهلاك الثقافي نفسَها انحرافٌ لأن كلَّ ما هو أساسي في الثقافة لا يُستنـفَد.
هذه النظرة الإجمالية هي إلى حد بعيد عبارة عن خطاطة. مع ذلك بودي، وبطريقة تخطيطية دائماً، أن أضيفَ أنّ صناعة اللامادي ـ أليس من المفارق الجمع بين هاتين الكلمتين؟ ـ عثرتْ على أحسن وسيلة لإعطاء مظهر لا واقعي عن العالَم وعن أنفسنا لا في الصورة، رغم أن الصورة تبدو لغتها العامة، بل في تدفق الصُّور. هذا التدفق البصريّ يحتلُّ، كما نعلم، الفضاءَ الذهني، لكننا لا ننُصّ أبداً بما يكفي على أن سلطة احتلاله تعودُ إلى أنها موجودة في الوقت نفسه في العينين وأمامهما لدرجة أنه لم يعدْ ثمة فرق بين ما هو يتمثلُ في دخيلتك وبين التمثيل الخارجيّ الذي على هذا الأخير أن يعْكسه لوْ لم يكن احتدادُ التدفق يمنعُهُ من التفكير. لا هامش للتفكير، لا هامش للخيال. وبالإجمال، لا هامش لحرية التفكير، وهو هدفُ هيمنة اللامادي...
وأختم باستدعاء وضعية جسد، ربما كانت حكائية، لكنها وضعية تدخل المادية في فعْل مظهرُهُ لامادي. فطنتُ ذات يوم بأن وضعيتي كقارئ كانت تضعُ عموديةً، هي بالضبط عمودية القارئ، في علاقة مع أفقيةٍ، هي وضعية الكتَاب أو، إن فضلتم، الصّفحة. يحْدُث فعْلُ القراءة في فضاء الزاوية الذي يتشكّل على هذا النحو من حيث يأخذ مكانَ علاقة. وتمنعنا العادة من أن ندركَ الأخذ الذي يقوم به النظرُ في النص، ثم نقلَه إلى الذهن. لكن عندما يستيقظ الانتباه، يصبح تغييرُ مكان المادة اللغوية محسوساً على غرارِ حركة عضوية، وينتج عن ذلك تجديد التجسيد... أتساءل عما إذا كان تغييرُ وضعية الجسد التي يَتضمنُها الوجهُ لوجْه مع شاشة مختلفِ آلات التواصل ـ لأن الوجه لوجْه هو، من جهة أخرى، دائماً الوضعية الرمزية للعلاقة الإنسانية ـ يقوّي اندفاعَنا نحو اللامادي على حساب انحراف إضافيٍّ لطبيعة العلاقة...
عن القدس العربي
08-أيار-2021
19-تشرين الأول-2019 | |
14-أيلول-2019 | |
03-تشرين الثاني-2009 | |
14-تشرين الأول-2009 | |
09-نيسان-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |