عام 1948ختام رحلة التهجير / الفلسطينيون بين جفوة العرب والعدوان الصهيوني
2010-01-17
خاص ألف
تتابع ألف نشر فصول مثيرة وهامة من كتاب الباحث والأديب الفلسطيني فيصل حوراني من مؤلفه دروب المنفى" وهو كتاب من خمس مجلدات هي "الوطن في الذاكرة" "الصعود إلى الصفر" "زمن الأسئلة""الجري إلى الهزيمة"أين بقية الحكاية؟" ويعتبربمجلداته الخمسة شهادة الكاتب الملحمية التي رسمت بلغة الأدب صورة شاملة للحياة الفلسطينية المعاصرة ومحيطها العربي.
-25-
لمّ الشمل،
الطريق تمرّ ببور سعيد
بعد الجهود التي بذلتها الأسر التي افترق أعضاؤها بعضهم عن بعض للتعرف على أشطارها المشتتة، بدأت محاولات هذه الأسر لتجميع هذه الأشطار في مكان واحد، وانصبت الجهود في هذا الاتجاه. لقد تمت العملية الأولى بسهولة نسبية، فكانت الأخبار عن مصائر الأشطار المتباعدة تنتقل، كما رأيت، عبر السعاة المتطوعين والمحترفين. ثم دخلت أجهزة الصليب الأحمر الدولي على الخط، فصارت تنقل الرسائل، وتلتها البرامج التي خصصتها الإذاعات العربية لتنقل رسائل المهاجرين إلى ذويهم المشتتين. أما العملية الثانية، أي عملية لمّ شمل الأسر الممزقة، فهي التي كانت صعبة، بل في غاية الصعوبة.
ولكي تدرك مقدار صعوبة لم الشمل ما عليك إلا أن تتذكر ما آلت إليه التقسيمات التي أودت بوحدة البلاد الفلسطينية في تلك الفترة بين 1948 و 1949. لقد قامت إسرائيل في شطر من البلاد ثم شملت سيطرتها خلال شهور قرابة أربعة أخماسها. وهكذا سيطر الإسرائيليون على منطقة امتدت من حدود سورية ولبنان، شمالاً، إلى خليج العقبة على البحر الأحمر، جنوباً. وبهذه السيطرة، فصلت إسرائيل بين قطاع غزة، في جنوب غرب البلاد، وبين الضفة الغربية لنهر الأردن، في شرق البلاد، وهما المنطقتان اللتان تجمعت فيهما جموع المهاجرين ممن لم يغادروا إلى البلاد العربية الأخرى. ولكي تتصل أشطار الأسر المتفرقة في هاتين المنطقتين، كان لا بد من عبور المنطقة التي تفصلهما الواحدة عن الأخرى والتي تسيطر عليها إسرائيل، وهذا ممنوع، أو كان لا بدّ من السفر إلى البلد العربي المجاور للقطاع، وهو مصر، والانتقال منه عبر البلاد العربية إلى البلد المجاور للضفة، وهو الأردن، أو العكس، وهذا متعذر أو شبه متعذر بسبب الإجراءات التي اتخذتها مصر وغيرها من الدول العربية فحدّت من إمكانية التحرك عبر أراضيها.
ثم، لكي أوضح الأمر بصورة أجلى، عليّ أن أبيّن لك أن قطاع غزة ليس سوى شريط ساحلي ضيق المساحة، طوله بضعة وأربعون كيلو متراً ومتوسط عرضه ثمانية كيلو مترات. وقد احتشد في هذا الشريط الفقير بالأرض الزراعية مئات ألوف المهاجرين بالإضافة إلى سكانه، فاكتظت المساحة بالمحتشدين فيها، ولم يكن فيها ما يغري قاطني المناطق الأخرى بالمجيء إليها. وعلى هذا، فإن التوجه للمّ الشمل سار في الأغلب في اتجاه الخروج من القطاع وليس المجيء إليه. ومع خطر العبور عبر مناطق السيطرة الإسرائيلية وإقفال الحدود المصرية إقفالاً تاماً في وجه المهاجرين، بقيت الوسيلة الوحيدة المتاحة هي التسلل إلى الضفة الغربية تسللاً، مع ما تنطوي عليه العملية من مخاطرة مثلثة الوجوه، حيث يتوجب عبور المواقع المصرية والأردنية، والتعرض للدوريات والكمائن الإسرائيلية المنتشرة في المسافة الطويلة الممتدة بين الجانبين. وهكذا، لم يقدم على المخاطرة إلا من كانت حاجته طاغية التأثير فتغلّبت حتى على الخوف من الموت الذي يترصد المتسلل في كل ناحية. وقد أوجدت الحاجات التي من هذا النوع أدلاء احترفوا قيادة الراغبين في الانتقال من القطاع إلى الضفة. وكان أقلَّ وسائل الانتقال خطراً هو المشي عبر صحراء النقب، حيث الدروب غير المطروقة، وإن لم تكن هي أقصر الدروب إلى الضفة.
على هذه الدروب، سار المخاطرون، بصحبة الأدلاء: الابنُ الذي انفصل عن أسرته ولم يجد في القطاع من يؤويه، والزوجة التي وجدت نفسها دون معيل أو حام، والطامحُ في الحصول على فرصة عمل على الجانب الآخر، ومن في حكمهم. وكان على العازم على التسلل أن يبحث عن دليل، وأن يساومه حتى يتفقا على المبلغ المطلوب. ثم كان على هذا المتسلل أن ينتظر الليلة المناسبة للتسلل. وأنسب الليالي هي، بالطبع، أشدها ظلمة. والحقيقة أن كثيرين لجأوا إلى هذه الوسيلة، إلا أن قليلين منهم فقط بلغوا الطرف الآخر. فمن المتسللين من اعتقل هنا أو هناك أو في الوسط، ومنهم من تاه إذ تاه دليله وسط الظلمة، ومنهم من هلك واختفت أخباره. بالرغم من ذلك، بقي أدلاء وبقي متسللون، وإن ارتفع السعر حتى صار دفعه تضحية حقيقية.
كنّا، في أسرتنا، ونحن الراغبون في الالتحاق بشطر الأسرة الذي لجأ إلى دمشق، نتابع الأنباء عن المتسللين باهتمام خاص، فنتفاءل حين نعلم أن أحدهم حقق مأربه، ونتشاءم حين تشيع أنباء المآسي التي تعرض لها الآخرون. وكنّا نتلقى في الوقت ذاته أنباء المساعي التي يبذلها جدي عبد المجيد لاستقدامنا إلى دمشق عبر مصر بصورة شرعية، فيشيل أحد الأنباء تفاؤلنا إلى الأوج، وينحدر نبأ آخر بتشاؤمنا إلى القاع، ويزداد اهتمامنا بمسألة التسلل أو ينقص حسب الأحوال. وقد عرفنا أن الجدّ لم يسوّ العقبة مع السلطات السورية وإن كان من الممكن أن يذللها. أما العقبة التي لا تذلل فهي مع السلطات المصرية، حيث تعذر الحصول على إذن لنا باجتياز الأراضي المصرية في الطريق إلى سورية. ثم جاء وقت يئس فيه الجدّ نفسه من الحصول على إذن كهذا. وقد أدرك الجدّ ترددنا في المخاطرة بالتسلل وفهم دوافع هذا التردد، بل إنه كان يخشى هو نفسه ألا ينجح ابنه الفتى عمر في تنظيم العملية على نحو يضمن سلامتها. وقرر الجدّ أن يخاطر بنفسه، فيجيء إلينا متسللاً ليشرف على العملية.
توجه الجد إلى الأردن، ولكي يؤمن نفقات الرحلة، حمل التاجر القديم معه قنابيز وعباءات وعُقلاً وحطات، أخذها من مخازن معارفه من التجار في دمشق بأمل أن يتّجر بها في الضفة الغربية فيدفع لهم أثمانها بعد أن يعود. وحين وصل الجدّ إلى الضفة وتفقد أقرباءه المشتتين في أنحائها وعرض في الوقت ذاته بضاعته للبيع، اكتشف أن الجميع، أقرباء وغير أقرباء، عازفون عن الشراء وغير قادرين على دفع ثمن البضائع الجديدة. كما اكتشف الجدّ أن أعزّة القوم من أقربائه وأصدقائه الكثيرين صاروا أذلة، فلم يجد ما يواسيهم به سوى إهدائهم ما حمله من دمشق مفوضاً أمره إلى ربّه في مسألة سداد الديون. وفي الضفة، تلقى الجدّ تحذيرات متوالية من المخاطرة بالتسلل إلى غزة، إلا أنه، وهو المهرب العتيق، عزم على المخاطرة، واتفق بالفعل مع أحد الأدلاء، وانتظر حلول الليلة الملائمة كي يجيء إلينا. لكن ما وقع للجدّ لم يكن في الحسبان. فقد وصلت إلى سلطات الأمن الأردنية وشاية تقول إن عبد المجيد الحوراني، وهو من الأنصار المعروفين للهيئة العربية العليا لفلسطين ورئيسها الحاج أمين الحسيني، جاء إلى الضفة الغربية بتكليف من الهيئة التي كان مكتبها الرئيسي قد
08-أيار-2021
26-شباط-2012 | |
27-نيسان-2011 | |
11-آذار-2011 | |
01-شباط-2011 | |
11-كانون الأول-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |