Alef Logo
كشاف الوراقين
              

الحنين ج 5 الأخير

فيصل حوراني

خاص ألف

2011-03-11

5

- طال اللقاء، بَشِّر!
بهذا هتف رباح الذي كان في انتظاري.
- لا لي ولا عليّ. أو لي وعليّ إن شئت. خمسون بخمسين. أعطيت وأخذت. بعت واشتريت. فعلت ما يفعله غيري.
استقصى رباح التفاصيل، واحتار في الحكم عليّ: أن يتشبث أخوه الذي طالما سمع وهو بعيد عنه أنه من ناس عرفات بموقفه المعارض، أن يقاوم المغريات، فهذا مما حسبه لي.
- لكن ما معنى أن تظل معارضا وتتعهد عدم الانهماك في نشاط المعارضة، هل تشرح لي؟
- ليس الأمر كما تصورته. لعل وصفي الهازل لما جرى هو الذي جعلك تسيء الفهم. سأواصل بثّ آرائي، هذا هو الأمر في جوهره حين تكون كاتباً. معارض يعزف على قلمه، هذا هو أنا. أنا لا أعزف على سيف. عازف منفرد؟ أي بأس في هذا ما دام العزف للجمهور. كل كاتب، حتى أمتن الكتاب التزاماً بالشأن العام، هو، بمعنى ما، عازف منفرد. المهم ألا يصير العزف نشازاً أو تستراً على أخطاء وأن لا يجري في الحجرات المغلقة وحدها.
أقلقني تحفظ رباح دون شك. لماذا لا يُدرك رباح أن الكتابة هي المجال الوحيد الذي لا أتطلع إلى أي دور لي خارجه. ومع مَنْ مِنْ معارضي عرفات يريد لي رباح أن أنشط. مع الذين ينتضون سيوف الرفض القومي التي عتقت أم الذين ينتضون سيوف الأصولية الدينية الأعتق، مع الذين يشهّرون بعرفات، الفساد، والتفرّد، والديكتاتورية، فيما هم أنفسهم مفتونون بهذا الديكتاتور أو ذاك من حكام العرب ووالغون في مفاسده.
أسعد الجميع كانت أمي. استخلصت أمي أني سأظفر بحق البقاء معها وليس مهماً بعد هذا أن يكون لي في السلطة منصب أو لا يكون، أن أعارض بقلم أو سيف، أن أصاحب ياسر عرفات أو أصاحب خصومه أو أن أخاصم الجميع.
- هل عرفت تلك الأجنبية حين تزوجتها أنك ستجيء بها في يوم من الأيام إلى البلاء الذي نحن فيه.
قالت أمي هذا بعد أن سمعتني أحدث زوجتي على الهاتف دون أن تفهم هي الحديث. ولم أشأ أن أزيد هواجس الأم. فقد استمعت زوجتي إلى روايتي واستخلاصي وعرفت ما لم أبح به لغيرها من هواجسي فقررت أن ترجئ طلب التقاعد إلى أن استقرّ أنا على رأي بشأن وضعي الجديد.
أما لمى الإبنة الراغبة بالطبع في أن أبقى بجانبها فقد عرفت ما يدور في خاطري بالضبط. فأنا أعتزم أن لا أظل بعيداً عن ربعي، هؤلاء الذين انتقل مركز ثقلهم إلى الوطن بعد أن كان في المنفى، ولن أظل منصرفاً إلى التأليف وحده، كما كنت منذ تفرغت للكتابة. سأنهمك في السياسة بقلمي، سأواصل التأليف لكني سأحرص على العودة في الوقت ذاته إلى متابعة اليومي ونشر رأيي في ما يجري. الكتابة، وليس غير الكتابة، لكن مع الإنهماك في ما ينشغل به الربع من الهموم العامة. أما ما عدا ذلك، ما ينهمك كثيرون في السعي إلى الظفر به، فسأظل بمنأى عنه. ولا بدّ من أنشئ لنفسي الوضع الجديد الذي يلبّي رغبتي في الانهماك في شؤونٍ والنأي عن أخرى. وهذا هو ما أفكر فيه.
- لك عندي بشارات، وليس بشارة واحدة.
وعندما بلغته، ناولني د. رمزي أوراقاً ممهورة بالتواقيع والأختام، ناولني إياها ورقة ورقة ومع كل ورقة شرح. فحصلت على قرار تسميتي مستشاراً دون تحديد مسؤولية بعينها، تماما كما طلبت، وقرار صرف رواتبي الموقوفة على أقساط جعلها هذا القرار أربعة، وإذن الإقامة أو الرقم الذي يسمّونه الوطني الذي تمنحه إسرائيل.
وبحصولي على إذن الإقامة، صار عليّ أن أغادر البلاد من المعبر الذي جئت منه بإذن الزيارة لأعود بعد ذلك وفق إجراءات جديدة بعد إتمام ما يسمّونه التنسيق، أي بعد أن تطلب السلطة الفلسطينية من المحتلّ موعداً لعودتي وتأتي موافقة المحتلّ عليه. إنه تعقيد قد يبدو لمن لا يعرف الاحتلال الإسرائيلي أن لا لزوم له. لكن هذا هو بعض ما تفرضه سطوة المحتلّ، ولا مناص من الانصياع.
كان قد بقي من الشهر الذي أباحه إذن الزيارة عشرة أيّام. وكنت توّاقاً بالطبع لزيارة الضفـّة. وفكـّرت في قضاء الأيام الباقية في رام الله التي أقام فيها عدد كبير من أصحابي العائدين. وكانت زيارة الضفـّة تقتضي أن أحصل على إذن من المحتلّ. فتوجهت إلى الموكـّلين بطلب الإذن فطلبوه لي. وفي اليوم التالي، جاء الرد الإسرائيلي: ممنوع لأسباب أمنية. فبدا الأمر بالنسبة لي أقرب إلى نكتة سمجة.
- أسباب أمنية وأنا كاتب لم يستخدم في حياته غير سلاح القلم؟
- حين يتذرّعون بالأسباب الأمنية، أنت تعرف الإسرائيليين، لا يقدّمون إيضاحات. سنعترض، نملك حسب الاتفاق حق الاعتراض، لكنّه ليس الحق الوحيد الذي نملكه ولا نستفيد منه.
هاشم محاميد، العضو العربي في الكنيست الإسرائيلي الذي كانت علاقتي به قد توثقت في الخارج، تدخّل، فوجّه لي دعوة رسمية لزيارته، وأرسل نسخة من الدّعوة إلى الجهة الإسرائيلية المعنية، وأظن أنها كانت مكتب رئيس الحكومة اسحق رابين، فجاء الرد ذاته: الرفض لأسباب أمنية. يوسي ساريد زعيم ميرتس الإسرائيلية الذي كان آنذاك وزيراً في الحكومة ندبه أحدٌ ما للتدخل، يائيل دايان عضوة الكنيست تدخلت، لطيف دوري الموكـّل بعلاقات ميرتس الخارجية، وإسرائيليون آخرون، عرب ويهود، تدخلوا، ولا فائدة. وحين استقصى يوسي ساريد السبب، قيل له عني إنني استفزازيّ. وهذا يعني، لو أمكن أن نترجم لغة المتجبرين إلى لغة البشر العاديين، أني أكتب ما يستفزّ محتلـّي وطني وإني لا أحبهم. وقلت للطيف دوري الذي نقل إليّ على الهاتف ما قالته الجهات الأمنية لرئيسه ساريد: "هل تتذكر، أنت الإسرائيلي الذي ما زال بالإمكان أن نتبادل معه حديثاً دون مضاضة، أن إسرائيل فعلت ولو شيئاً واحداً يجعلنا لا نكرهها، شيئا واحدا فقط"؟
الموكـّل بالطلب، وقد خاب مسعاه حتى بعد الاعتراض، وجّهني إلى ما ينبغي عمله، إلى ما يقترحه هو معتمداً على خبرته أو قولوا: معاناته مع الإسرائيليين.
- عندما ترجع من الأردن بإذن الإقامة، سيكون عليك في معبر اللنبي أن تملأ استمارات، فاجعل مكان إقامتك أريحا وليس غزّة، وبهذا يصير لك الحق في زيارة أي مكان في الضفة، رام الله وغيرها. وفي هذه الأثناء أواصل أنا السعي لرفع اسمك من قائمة المنع الأمني وأُحصّل لك إذن زيارة لغزّة، وإذا...
بدا أن الشرح سيطول فأوقفته مكتفيا بالاقتراح الذي قبلته من الرجل الخبير.
وقبل أن أبرح غزة، في مساء الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1995، فاجأنا مشهد مصرع اسحق رابين رئيس وزراء إسرائيل على يد قاتله الإسرائيلي. وعندما سألتني عميرة هاس مراسلة هآرتس الإسرائيلية التي تعرّفت عليها في منزل رباح عن أول رد فعلي إزاء الحادث، قلت لها إني خشيت العواقب، خشيت ما ستفعله إسرائيل بالفلسطينيين. وشرحت سبب خشيتي: تعاقب إسرائيل الشعب الفلسطيني إن قتل فلسطيني إسرائيليا، وإن قتل إسرائيلي فلسطينياً، وإن قتل إسرائيلي إسرائيلياً، وإن لم يقتل أحد أحداً. أمّا عمّا إذا كنت قد ابتهجت لمقتل صاحب سياسة تكسير العظام، فقد قلت إني أنتمي لثقافة لا ترى في الموت ما يبهج، لكن من المؤكد عليه أني لم أحزن.
و في الأيّام التي سبقت مغادرتي، واصلت تقصّي الأحوال فيما كان الإغلاق الذي فرضته إسرائيل على الفلسطينيين بسبب مقتل رابين يحتجزني. ومع وجع الإغلاق، اشتدت الأوجاع الأخرى التي يثيرها ما أعانيه، الفساد، والفوضى، والتهافت على الدنايا، والاستغراق في النمائم الصغيرة. واتصلت بمؤسسة شومان وأبلغت إليهم أني سأحلّ بعمان فور انتهاء الإغلاق، وطلبت أن يتيحوا لي فرصة التحدّث إلى جمهورهم. واقترحت العنوان: "راجع إلى غزّة راجع من غزّة".
وكان هذا هو ما لخّص بلبالي بشأن القرار الحاسم، أبقى أو لا أبقى، البلبال الذي نشأ بعد أن عاينت ما عاينت، هل أواصل غربتي خارج الوطن أو أنقلها إليه، وهل بإمكاني أن أحتمل هذا الوضع الذي أنشأه أوسلو. وفي طيّات البلبال، تمدّد السؤال الكبير: هل هذا الذي وقعت عليه وأنا أقترب من الشيخوخة هو الوطن الذي تنتهي فيه غربة امتدت منذ الطفولة؟ وما هو الوطن؟ وكيف سأستقرّ ما دمت لم أشعر بأن ما عدت إليه هو الوطن الذي طالما حننت إلى العودة إليه، وما الذي سيعيدني إلى المسمية والوطن الجميل الذي أنشأته في الروح؟ لا ينبغي أن يدهشكم افتقاري أنا الكاتب إلى اليقين. وهل يدهشكم أن يعجز فاقد البصر عن التيقن من ألوان الأشياء، حتى لو وصفها له أبرع المتحدثين.
وفيما أنا منصرف لإعداد حقيبتي من أجل التوجه إلى عمّان، حطّ في جعبة الأوجاع أوجع نبأ.
- عرفت هذا قبل أيام قليلة فقط، وكتمته عنك حتى لا أزيد أوجاعك، أما وأنك مسافر فلا بدّ من أن تعرف: أمّنا، كيف أقول، إنه الكبد وإنذاره قصير الأجل، فلا تـُطل غيبتك هذه المرّة!
انشغلت بما انهمكت فيه منذ حللت في غزّة ونسيت قلقي الأول على صحّة أمي. رأيت هزال جسد أمي فنسبته إلى ما عانت طيلة حياتها، لاحظت كلال حركتها فنسبته إلى تقدم السنّ، انتبهت إلى أن نومها قلق فلم يخطر ببالي أن آلام الداء هي التي تحرمها النوم وهي لم تتحدّث عن أي آلام، لفتني شحوب وجهها فنسبته إلى شرهها في التدخين، هي التي تحرق أربعين سيجارة على الأقل كلّ يوم، تواترت الإغماءات، فنسبتها إلى أسباب طارئة. وها هو ذا النبأ يدهمني دفعة واحدة: سرطان الكبد، فيا قلبي احتمل وتجلّد إن استطعت!
لم أكن قادراً على إرجاء السفر، فالمحتلّ صارم في إلزامنا الإجراءات التي يرسمها لحركتنا، وهذه لا ترتسم على خارطة أي عاطفة. وفي عمّان، بقيت إلى أن تمّ تنسيق عودتي ووافق الجانب الإسرائيلي على موعدها. وفي غضون ذلك، توجب أن أجيب على سيول الأسئلة. وألقيت حديثي الموعود في مؤسسة شومان فظهر فيه سخطي على السلطة الفلسطينية والمعارضة كليهما. وواجهت في المؤسسة جمهوراً سخط بعضه لأنه رأى أني لم أهاجم اتفاق أوسلو والسلطة بما فيه الكفاية، وسخط بعضه لأني هاجمتهما، ولم يتقبل كلامي بالرضى إلا قليلون. وكان ملخص ما قلته أنّ مهمة إصلاح الوضع الذي وصفته أثقل من أن تنجزها السلطة أو المعارضة حتى لو لم تفسدا، وقد تعجز الجهتان عن إنجازها حتى لو اتـّحدتا.
و في أحد الأصباح، بكـّرت في مغادرة عمّان. ستّ ساعات أخرى، متاعب ومهانات على المعبر وما إلى ذلك مما كان متوقعا فخفّ وقعه. أريحا ووقفة في منزل الكاتب الصحافي الذي توقف عن الكتابة أحمد نجم، المنزل الذي انتقاه أحمد منذ عاد إلى مهوى فؤاده من بين أقرب المنازل في أريحا إلى استراحة الركاب فتحول إلى استراحة لعائدين كثيرين من أصحابه ينهكهم عناء المعبر فيستردّون في هذا المنزل عافيتهم. ساعتان مع الصديق أحمد وزوجته والأولاد الذين انتعشت أرواحهم بوجودهم في البيئة التي نشأوا على الحلم بالعودة إليها، وجولة مع أحمد للتعرف على معالم البلد وأطلال المخيمات. ثم ساعتان للطريق بين أريحا ورام الله، أو قولوا: أقلّ من ساعة لهذا الطريق وبقية الوقت للحواجز العسكرية الثابتة أو الطيارة التي تعترض رحلة المسافر بين المدينتين. وفي رام الله التي بلغتها مع نهاية النهار، حللت في منزل صديق العمر سميح شبيب. وفي المنزل الذي له عندي مكانة منزلي ومع الأسرة التي لها مكانة أسرتي، قضيت ليلتي الأولى في الضفـّة.
كان أول ما فعلته فور حلولي في المنزل الحفيّ أني هتفت لغزّة. وعندما قال رباح الذي سألته عن أمّنا: "خذ كلمها!، "ن أدركت أن أخي هذا، المحزون مثلي، يتجنب أن يحدّثني عن مرضها وهي بجانبه فهم، إذن، ما زالوا يخفون عنها حقيقة دائها. وجاء صوت أمي. كان الصوت قويا، ولو لم أكن أعرف ما أعرفه لما هجست بأي سوء. غير أني كنت أعرف. وما كان أقسى التجلّد الذي فرضته على نفسي كي لا يتسرب أساي إلى صوتي!.
قلت للتي تساءلت عن موعد قدومي إني سأمضي في الضفـّة الأيّام التي أحتاج إليها إلى أن يتمكنوا من الحصول على إذن يبيح لي زيارة غزّة أنا الذي سجّلت نفسي مقيماً في أريحا. وهوّنت الأمر، ثلاثة أيام أو أربعة كما وعدني الموكلون بطلب الإذن.
- لا تتأخر، ارجع إليّ قبل أن أموت.
لم تكن قد عرفت ما ينتظرها، إلا أنها طريقتها في الكلام.
- لا تموتي قبل أن أصل إليك!
قلتها كأني أجاري طريقتها، لكني عنيت ما أقول.
- إذن، عجّل عودتك!
ولكي أصل إليها بأعجل ما يكون، اتصلت بالحاج اسماعيل جبر الذي كنت قد التقيته أثناء وجودي في عمان وعرض علي المساعدة في أي أمر أحتاج فيه إلى مساعدته. إنه عميد الشرطة الذي يرأس أجهزة الأمن الوطني في الضفـّة ويقيم مكتبه في أريحا. وطلبت من الذي رحّب بمكالمتي أن يتدخل، فتعهّد أن يبذل أقصى جهده، وأظن انه قد فعل. أما النتيجة فحدّدها الرفض الأمني الإسرائيلي. وقد أبلغ الحاج اسماعيل هذه النتيجة إليّ دون أن يكون قد أسقط في يده: "سأواصل السعي"، قال الحاج، "ولديّ ما أحتج به"، مرض الأم سبب إنساني للزيارة يوجب الاتفاق على الجانب الإسرائيلي أن يستجيب له، وهذا هو ما عوّل الحاج عليه.
وفي الصباح الذي لا أنسى أساه، رنّ جرس الهاتف في منزل سميح قبل أن تشرق الشمس وأيقظني رنينه كما أيقظ غيري. وانتهى إليّ في الحجرة التي أنام فيها جَرْسُ صوت سميح الناعس، وهجست بشيء، ومنّيت النفس بأن لا يصدق هاجسي. ولما لم يجيء سميح إليّ فقد حاولت أن أعود إلى النوم، لكن النوم جافاني. فتوجهت إلى المطبخ بنيّة أن أعدّ لنفسي فنجان قهوة. ولم يستوقفني غياب سميح، بل تصورت أنه عاد إلى النوم. وفيما أنا جالس إلى مائدة المطبخ وفنجان القهوة في يدي، فُتح الباب، وظهر سميح وزوجته سعاد ومعهما جارهما في السكن أحمد المجدلاني الذي استقدمه سميح ليستعين به على أداء المهمة القاسية. وتلقيت ما بثته تعابير الوجوه الثلاثة، فلم يبق مجال لمخادعة النفس.
- ماتت أمي؟
فقال أحمد:
- البقية في حياتك.
واحتضنني سميح الذي يعرف أمي ويعزّها، وبكى. وأجهشت سعاد في البكاء
في ليلتها الأخيرة، الليلة الواصلة بين الثالث والعشرين والرابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 1995، فيما الرفض الإسرائيلي يبقيني بعيداً عنها، قالت أمي لمساهريها قبل أن تتوجه إلى فراشها إنها تحسّ بأنها لن تشهد الصباح. وفي هذه الليلة كررت أمّي، وهي في السرير ورباح ونورا يحفـّان بها وصيّتها القديمة: "في عزائي قدّموا الشربات والحلوى، الحزن لا يلائمني، واطلبوا من كلّ معزيّة أن تزغرد زغرودة وتهاهي، وغنّوا، لا أحب الندب، واجعلوا قبري بجوار الطريق لتؤنسني حركة الناس، لا أحبّ الوحشة!". وقبل أن تهجع هجعتها الأخيرة، انتبهت أمي إلى أصداء غناء، كان لدى بعضهم في الحيّ عرس فكانوا يغنّون: "هل تسمعان، انفتحت أبواب السماء، وهذا هو غناء الملائكة". وحين جاءت نورا مع الفجر لتتفقد حماتها وجدت الحجرة مضاءة والمريضة صاحية. كان الغناء قد توقف. غير أن التي رأت أبواب السماء مفتوحة كانت ما تزال تصغي. وطلبتْ أمي كأس ماء. وجلبت نورا الكأس، إلا أن التي طلبته لم تعد قادرة على شربه.
فقدت أمي، وقبلها فقدت الوطن الذي في الذاكرة. أمي والوطن، فما الذي بقي. هل ستسعف هذه البقية من حياة المشرف على الستين الذي أضنى شقاء المنافي روحه وفتكت بجسده الأدواء. وبقايا الوطن الذي مزّقه الغاصبون، البقايا التي خرّبوها، هل من الممكن حقاً استخلاصها من أيديهم، ومن الذي سيستخلصها، هل سيستخلصها هؤلاء الواقعون في مصيدة أوسلو. وهل يمكن إصلاح هؤلاء الذين فتك العناء والشقاء بأجسادهم وأفسد الطمع أرواحهم. أو إن علينا أن ننتظر إلى أن ينشأ الجديد ويبدأ دورة جديدة من دورات الصراع المتعاقبة مع العدو الغاصب. ومتى ينشأ هذا الجديد إن أمكن أن ينشأ، وما هو الوقت اللازم حتى تصير له الغلبة. وإذا انصلح العتيق الفاسد أو نشا الجديد العفيّ، فمتى يمكن وصل بقايا الوطن بعضها ببعض وترميم الخراب.
أمضيت عمري في الحنين إلى أم ووطن أُقصيت عنهما. أدرك بالعقل أن أمي كانت مثل أيّ أم، ولعل مزاياها لم تزد عن مزايا غيرها حتى وإن لم تنقص. لكن الحرمان من الأم طيلة عقود متصلة جعل أمي هي الأعظم والأجمل. والوطن، ربما كان الوطن الذي أقصيت عنه في العام 1948 جميلاً حقا ولعله كان عظيماً، لكن أغلب ظني أنه كان مثل أي وطن. إلا أن الحنين الذي ألهبه الحرمان المتصل وغـــذ ّاه أنشأ في الروح وطناً هو الأعظم والأجمل بين الأوطان. وها أنا ذا قد فقدت الجميلين العظيمين معاً،فماذا بقي لي، الأم لا يمكن تعويضها، فهل تسعف البقية الباقية من العمر والبقايا الباقية من العزائم لبناء وطن واقعي يعوّضني وطن الرّوح الذي فقدته.
قال سميح وهو يتابع ما فثأه الحزن من مراراتي: لا وطن لنا غير هذا الوطن أياً ما كانت عليه سماته، وقد عدنا إليه ولا بدّ من أن يعود الآخرون، وعقب:One Way Ticket، بطاقة سفر لاتجاه واحد. وقلت أنا مجارياً أفكار صديقي التي أوافقه عليها: مواصلة البقاء، مقاومة محاولات إفنائنا، وتجميع البقايا، تجميع ما يمكن تجميعه منها، بقايانا وبقايا وطننا، ووصلها بعضها ببعض، وترميمها، وتجميل ما يمكن تجميله.
تجميلنا الوطن الذي أنشأناه في الذاكرة، الوطن الذي أحللناه في أرواحنا، مكـّننا من البقاء على خط الحياة إلى اليوم وصاننا من التبدّد، حدث هذا بالرغم من أنه كان وطناً في الخيال. فهل ننكص الآن، هل نيأس وقد صار في اليد شيء واقعي. جمّلنا ما كان حلماً، فلماذا ننكص حين يتوجب تجميل الواقع. أدمنّا الحنين إلى وطن لم يكن هو ما حصلنا عليه، فلماذا لا ننحّي الحنين ونصلح ما صار في أيدينا ونستخلص من أيدي الغاصبين المزيد ونحميه. لماذا لا ننشئ ما لا نحتاج إلى أن نحنّ إليه.
- المريضة التي طلبت لي إذن زيارة غزّة كي أكون بجانبها أعطتك عمرها، فهل أحصل على إذن يمكّنني من اللحاق بجنازتها؟
واساني الحاج اسماعيل، وانتخى.

- ستحصل على الإذن، وإذا رفضوا فسأتصل بسيادة الرئيس الموجود الآن في أوروبا وأطلب تدخله.
هتفت للحاج اسماعيل في أول الصباح. وفي الرابعة بعد الظهر، في الرابعة وليس قبلها، بعد أن فاتني موعد الجنازة، هتف الحاج.
- حصلنا على الإذن، إنه الآن في مكتبي في أريحا، فتعال فوراً لأن عليك أن تعبر إيرز قبل السابعة، الإذن لا يبيح أن تعبر بعدها.
يا له من إذن، ثلاث ساعات فقط لكي أتوجه من رام الله إلى أريحا، ثم من أريحا إلى غزّة، وكل هذا في اليوم الذي قبروا فيه أمي وأنا ممنوع عن المشاركة في جنازتها!
كان خالد الحوراني، قريبي، الرّسام الذي تعرفت عليه في رام الله، قد انتظر رجعة زوجته الحيفاويّة حاملة الجنسية الإسرائيلية من عملها في القدس ثم جاء وإيّاها لمواساتي. وقد أدرك الاثنان ما أدركه الجميع. من المتعذر إتمام المشوارين قبل السابعة إذا استخدمت المواصلات العامّة. وانتخت ميساء الصبية زوجة خالد العائدة لتوّها من عملها الشاق: "سيارتي معي، لوحتها إسرائيلية وسأنقلك بها بأعجل ما نستطيع".
منحني تجبّر المحتلّ إذناً بزيارة غزّة لثلاثة أيام لا تزيد، أولها اليوم الذي كنّا فيه، اليوم الذي انقضى جلـّه وستنقضي بقيته على الطريق. وفي الجوّ الغائم حدّ حجب الرؤية وتحت مطر يجعل قيادة السيارة بسرعة مخاطرة، قادت ميساء المجهدة سيارتها كأنها في سباق. وكما يقع لأي مستعجل، فات ميساء أن تنتبه وسط القتام إلى اللوحة الصغيرة غير المضاءة التي تدلّ على المنعطف المفضي إلى غزة، فوجدنا نفسينا ماضيين على الطريق السريع المفضي إلى بئر السبع، وتبددت عشرون دقيقة ثمينة في الطريق الخطأ. وبهذا، بلغنا أول محرس عند حد معبر إيرز في الساعة السابعة تماما. واستغرق إيقاف السيارة ووصولنا إلى حيث يقف عسكريّ المحرس دقيقة واحدة، فأبى هذا العسكري أن يأذن لنا بالدخول إلى منطقة المعبر: "تأخرتم".
كنت مثقلاً بأحزاني، القديم منها والمستجد. وكنت ذاهلاً. واستوى عندي أن يؤذن لي أو أن لا يؤذن، أن أعبر أو أن لا أعبر، أن أظل واقفاً تحت المطر الذي يغمرني ببلله أو أن أجد ما يقيني البلل. وتابعت بغير تركيز الجدل الصاخب الذي يدور بالعبرية، بين ميساء التي يبللها المطر هي الأخرى والتي تجهد كي لا يفطن العسكري إلى أنها عربية وبين هذا العسكري الذي يحميه محرسه المسقوف ولا يهتمّ بها أو بي. وفي ختام جدل بيّن لي كم هي صلبة قريبتي هذه، قال العسكري شيئاً على هاتفه، وعرفت أن أحداً ما سيأتي إلينا من داخل المعبر. ومضى وقت لم أقسْه، أنا الذاهل، بأي مقياس، ثم أقبل نحونا ضابط قدم في سيارة جيب يسوقها بنفسه. وتفحّص هذا الضابط أوراقي في ضوء مصباح يدوي، واستمع إلى شروح قدمتها ميساء التي أفهمته أنها، هي الإسرائيلية، وقعت عليّ في رام الله وأشفقت على المنكوب بفقد أمه فأوصلتني إليه.
نفعت شروح التي تتحدث العبرية بأتمّ طلاقة وظهر تأثيرها على الفور في حديث الضابط الإسرائيلي الذي كلمني بالإنجليزية.
- ليس من حقك أن تعبر بعد أن تجاوزت الوقت المقرر. لكني سأبذل جهدي. ولا أستطيع أن أعِدَ بشيء، لكني سأحاول.
جلست مستكيناً في سيارة ميساء التي أبت أن ترجع قبل أن تحلّ مشكلتي، وبقيت ذاهلاً. ولم أدر كم انقضى من الوقت حين رجع الضابط ليحدثني عن مشكلة أخرى تعيق دخولي غير مشكلة التأخير. فحصولي على الإذن من أريحا لم يكن سوى خطوة على سياق يوجب أن تنسّق جماعتي أمر وصولي إلى إيرز، أن تتفق مع الجانب الإسرائيلي على موعد الوصول، وهو ما لم تفعله الجماعة. ووعد الضابط بأن يبذل جهده لحلّ هذه المشكلة أيضاً، وقال إنه شرع في الاتصالات وإذا رجع إليّ فلكي يفهمني أن حل المشكلة سوف يستغرق وقتاً قد يطول فلا ينبغي أن أظن أنه نسيني.
وجاء الضابط في نهاية المطاف بالموافقة على عبوري. وأوصلني بسيارته إلى الجانب الفلسطيني حيث استقبلني رجال شرطة كانوا يستدفئون على نار حطب أوقدوه داخل محرسهم. واستدعى هؤلاء بالهاتف سيارة تاكسي، فبلغت الديوان الذي ينعقد فيه مجلس العزاء قرابة التاسعة. وكان الديوان قد خلا إلا من الأقرباء الحميمين. وعلى كتف رباح الذي احتضنني، أفرغت الكثير من توتري.
أما يوم العزاء الثاني فشهدته من أوله. ومنذ الصباح، تدفق ألوف المعزّين على الديوان، واستمر دفقهم متصلاً حتى المساء. ولأقرّ: إني أحبّ من تقاليدنا تقليد المبادرة إلى مواساة المحزونين. ولأقر أيضاً: إن تواتر قدوم المعزّين خفـّف أحزاني وأخرجني من ذهولي.
وفي آخر المساء، بعد اتصالٍ هاتفي مهّد لقدومه، وبعد أن جاء حرّاسه واستطلعوا المكان وانتشروا فيه، جاء ياسر عرفات ومعه سرب من قادة "فتح". وكعادته، تصرف عرفات وكأن الراحلة تخصه شخصيا بمقدار ما تخص ذويها. اعتذر ياسر عرفات، وسط دهشة الذين يلتقونه لأول مرة، عن تأخره، أي عن مجيئه إلى مجلس العزاء في اليوم الثاني وليس الأول، وقال إنه كان خارج البلاد ولم يعلم برحيل الفقيدة إلا قبل ساعات، هو الذي رجع في الصباح. وعاتب عرفات في حضورنا مدير مكتبه العسكري العميد غازي مهنّا بدعوى أنه تأخر في إبلاغ النبأ إليه. وجارى غازي رئيسه في مناورته، فقال إنه تردّد في الإبلاغ لأن الفقيدة تخصّه، هو غازي ابن آل مهنا. وهنا، أبلغ عرفات مناورته الذروة: "الله! هي المرحومة بتخصّك أكثر مما تخصّني!".
كنت أجلس منطوياً على نفسي وأتابع ردود فعل الأقرباء. وكنت ما أزال أفكر في مغزى سلوكه الذي ذكرني بما لا أرتاح إليه. وعندما نهض هو للإنصراف، كنت ما أزال أسير ألمي، ففاتني أن أجاري الذين نهضوا لوداعه وتبعوه وهو يتوجه نحو باب الخروج. وحين صار قرب الباب، والحاج عمر ورباح وبقية الإخوة يحيطون به، فطن هو، أو لفت أحد مرافقيه نظره إلى غيابي، فتساءل بصوت مسموع: "أين فيصل؟"، ولم ينتظر أن أبلغه، أنا الذي توجهت نحوه، بل رجع لملاقاتي فارداً ذراعيه. وكما يحدث في كل مرة، غسلت هذه البادرة ما ساءني، ووجدتني أستجيب لمبادرته بامتنان.
في أيّام العزاء، وعلى الغداء الذي ختم مراسم العزاء، استقبلت كل من أعرفه أو أسمع به أو أتوق إلى معرفته من القاطنين في قطاع غزة، وتلقيت مكالمات من أصحابي في الضفـّة، وأصحابي من عرب 48، وتأكـّد لديّ الإحساس بأني أنتمي إلى ناس هذه البلاد، صالحهم مثل طالحهم، نزيههم مثل فاسدهم، مخادعهم مثل المستقيم. ولئن رحلت أمي وافتقدت الوطن الذي في الذاكرة، فقد بقي لي ناس ووطن، الناس المحيطين بي والوطن الذي لا وطن لي سواه.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

سنة الربيع العربي الأولى

26-شباط-2012

جنكيز ايتماتوف وتحولاته•

27-نيسان-2011

الحنين ج 5 الأخير

11-آذار-2011

الحنين حكاية عودة ـ ج4

01-شباط-2011

الحنين حكاية عودة ـ ج3

11-كانون الأول-2010

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow