الحنين حكاية عودة ـ ج4
خاص ألف
2011-02-01
عاملني إخوة رباح لأبيه بوصفي أخاً لهم. وأصرّ الحاج عمر كبير الإخوة على أن يكون ديوان آل مهنا، الديوان الذي هو سيّده، المكان الذي أتلقى فيه القادمين لتهنئتي وتهنئتهم بعودتي. هذه الأريحيّة غمرتني بفيض العواطف العائليّة التي كدت أنساها، إلا أنها سببّت لي حرجاً لعلّ الحاج عمر المدفوع بأريحيته لم ينتبه له. فأنا حورانيّ، ولئن لم يبق في غزّة من آل الحوراني إلا قليلون فإن هؤلاء حرصوا على أنزل في ضيافتهم وليس في ضيافة العائلة الأخرى.
وفي أمسيتي الأولى في ديوان آل مهنّا، توافد ناس من أصناف شتى، أمّا الحورانيون فلم يجيء منهم أحد. وفي انشغالي بزحام الزوار، لم أنتبه إلى مغزى غياب أقربائي أنا الذي كفّ منذ زمن طويل عن الانتباه إلى ما تقتضيه العلاقات التقليديّة. غير أن أمر هذه العلاقات جبهني في المساء التالي. فقد جاء إلى الديوان ثلاثة حورانيين بدا أن العائلة انتقتهم من أقرب الأقرباء إليّ. دخل هؤلاء بسحن غاضبة، وحيّوا مضيفيّ باقتضاب، وجلسوا بجانبي لوقت قصير. وقال قائل هؤلاء لي هامساً إنهم أوفدوا ليبلغوا إليّ رأي العائلة: عليّ أن أنزل في ضيافة عائلتي وليس في ضيافة عائلة أخرى، وقد هيئ لي منزل لأستخدمه وأنا مطالب بالانتقال إليه.
لم أبرح منزل رباح، لم أفترق عن أمي. ولم أستبدل الديوان الذي يتصدّره الحاجّ عمر بأي ديوان. ولم أوثر بهذا عائلة على أخرى، وكل ما في الأمر أني لم أجد من اللائق تبديل ما بدأت به. وللحورانيين، كما لأيّ ناس غيرهم، أن يعرفوا أني أرفض الإنصياع للأعراف العشائرية ، خصوصاً الأعراف التي لا لزوم لها.
ويبدو أن أقربائي ناقشوا الأمر في ما بينهم وانتهوا إلى القبول بي كما أنا: الولد الذي قد يكون شاذاً عن التقاليد لكنه واحد منهم. وحين جاء موفدو العائلة من جديد ودعوني إلى وليمة يقيمها الحورانيون احتفالاً بعودتي، رحبت بالدعوة وغضضت النظر عن مخالفتهم تقليدين لا يخالفهما إلا مغاضب: أنهم دعوني دون أن يستأذنوا مضيفيّ، وأنّهم أغفلوا دعوة هؤلاء المضيفين إلى الوليمة معي. أغفلت المخالفة لأني لا يمكن أن أكون ضد التقاليد العشائرية في حال وأن أتشبّث بها في حال آخر، وما دام الحورانيون قد تسامحوا بالرغم من مخالفتي تقاليد يهتمون بها فلماذا لا أسامحهم إن خالفوا ما لا أهتم به.
مع لمى، ابنتي، وعَـدِيّ، زوجها، لم تـنشأ أي مشكلة لا بشأن مكان إقامتي ولا بشأن أي أمر آخر. فهما، مثلي، يغلـّبان دواعي المنطق على دواعي أيّ تقاليد. التقت لمى وعـَدِيّ في براغ بعد أن وفد كلاهما إليها من أجل الدراسة. قدمت لمى إلى عاصمة التشيك من دمشق حيث كنّا نقيم. وقدم عديّ من نابلس حيث كان مقيما مع أسرته اللاجئة إلى المدينة الضفـّاوية من يافا. درست لمى الاقتصاد السياسي، ودرس عدي الهندسة المدنية، وتزوجا فور تخرجهما. ومنذ زواجهما، تقدمت لمى بطلب لمّ شمل حتى تتمكن من العودة مع زوجها إلى أرض الوطن الذي نشأت، هي المولودة في دمشق، على الحلم بالعودة إليه. واقتضى الأمر انتظار خمس سنوات كابد الاثنان خلالها شتى أنواع المتاعب إلى أن تمت الموافقة على الطلب وأذنت إسرائيل للفلسطيني المقيم في نابلس باصطحاب زوجته إليها. ولمّا تعذ ّر أن يجد الاثنان كلاهما عملاً في نابلس أو في أي مدينة في الضفّة فقد اجتذبهما رباح إلى غزّة وشجعهما وجود أمي فيها وتوفـّر فرصة العمل لهما كليهما. وقد تصادف قدوم الشابين إلى غزة مع عودة الذين رجعوا إليها بموجب اتفاق أوسلو. وكان الاثنان بالطبع توّاقين إلى أن أعود أنا الآخر. وكان من المفروض أن أحلّ بمنزل ابنيّ هذين لولا إيثاري أن أبقى بجانب أمي، لكني ظللت التقيهما كل يوم واستنير بما يشيران عليّ به، خصوصاً حين يتعلـّق الأمر باللياقات الاجتماعية التي طوقتـني متطلباتها.
والواقع أني استهلكت وقتاً طويلاً في استقبال الوافدين للتحية أو التعارف أو تجديد التعارف وفي تلبية الدعوات إلى الولائم. وقد خصصت وقتاً، أو قولوا: إني اقتطعت هذا الوقت من أوقات الواجبات الاجتماعية للتعرف على البلد أو تجديد معرفتي به ودراسة الأحوال العامّة. أما أمي فظل لها بواكير الأصباح وأواخر الأماسي.
غزّة التي أقمت فيها طفلاً بين 1948 و1949، غزّة التي استقرت في ذاكرتي، لم أقع في ما رجعت إليه إلا على القليل منها، حتى ليمكن القول إن ما رجعت إليه كان غزّة أخرى. البحر وحده ظل هو البحر وما عداه تبدّل، العتيق القليل المطابق لما هو باق في ذاكرتي تهرّأ، والجديد الكثير لم يعد جديداً بعد أن جار عليه الإهمال. وبساط الرمال الذي كان يفصل بين بحر غزّة وبين عمائرها اختفى، أخفته العمائر التي تكدّست فوقه بغير رونق.
بحثت عن أشيائي التي تختزنها ذاكرة الطفل. لم أهتد إلى المدرسة التي أتممت فيها صفـّي الثالث الابتدائي. لم أجد محطة القطارات التي شهدت عبثي مع أقراني والتي كانت آخر ما شاهدته في غزّة حين حملني قطارها إلى خارج الوطن. لم أجد الحرش الذي كان في أيامي بعيداً عن العمار وكنا نمشي إليه من أعلى زقاق المنطار في حيّ الشجاعيّة ساعةً في الذهاب وساعة في الإياب كي نجلب أوراقه الجافة لأسرنا، وقود تلك الأيام المجاني. والشاطئ الذي كنّا نجيء إليه من أجل السباحة أو التفرّج على صيّادي السمك لم يَعُد خالياً وأنيقاً كما كان، بل نبتت فوق رماله معسكرات قبيحة أنشأها الاحتلال، وفنادق، ومطاعم متماثلة الطراز، وأندية لم يُعْنَ منشئوها بأن تلائم طرزها البيئة الفاتنة التي أنشئت فيها. وحال الناس تبدّل هو الآخر، تبدّلت أزياؤهم أو قولوا إنها اختلطت حتى لم يبق مما يميّزها إلا هذا الاختلاط. وتبدّلت الأطباع، وعلاقات الناس بعضهم ببعض، وحواراتهم التي فتك إزمان التوتر بسلاستها.
وتساءلت: هل سآلف غزّة التي أراها، أنا الذي تختزن ذاكرته غزّة غيرها؟
رافقني مؤنس في بعض جولاتي. ومؤنس هو ابن أخي رباح، الفتى الذي استقبلني عند المعبر. وصار على فتى الانتفاضة الموقوف عن الكفاح بموجب اتفاق أوسلو والذي انضاف إلى بغضه الاحتلال سخطَه على السلطة أن يتدرب على فهم هواجس المشرد العائد من الغربة. قلت لمؤنس وأنا أبحث بين أطلال أشيائي عن ما يعيدها إليّ:
- لك يا ابن أخي غزّة واحدة، أما أنا فلي غزّتان، غزّتك التي نراها كلانا معاً وغزّة التي في ذاكرتي، وهما لا تتطابقان، ويبدو لي أن الوطن الذي رجعت إليه لن يطابق أبداً الوطن الذي حملته في الذاكرة.
وعلى كثرة ما سمع الفتى من غرائب أقوالي كان هذا القول أصعب من أن يدرك معناه، فانطلقت من فمه"كيف؟" متسائلة ومدهوشة. وتبسّطت أنا في الشرح. لقد أنشأنا في الذاكرة وطناً جميلاً وجعلناه أجمل الأوطان، وهذا ما لن يجده أي عائد إلى الوطن الباقي فعلاً. كنت أشرح لمؤنس ولنفسي.
طيلة غربتي، ظللت أهجس بمخاطر ازدواج الشخصية، أنا الذي رأيت كيف يفتت اللجوء شخصية اللاجئ، وها أنا ذا، وقد رجعت إلى الوطن، أكاد أقع في ازدواجية المكان، وأي مكان، الوطن، المكان الذي طالما تُقتُ إلى أن أنهي فيه غربتي وأتحرر من الهواجس.
- أنتم الكُتّاب!
تجنّب الفتى غير المشغول بهواجسي أن يقرّ بأنه لم يفهم، وتحاشى أن يظهر برمه، فاكتفى بهذا التنويه.
لم أنتقل، إذن، من المنفى إلى الوطن فتنتهي غربتي. بل صار علي كي أنهي الغربة أن أنتقل من وطن الذاكرة الماثل في الروح إلى الوطن الواقعي الماثل أمامي، من الوطن الجميل والمريح والعابق بالوعود، إلى الوطن المهشّم والمعجون بالمشاكل. وصار عليّ أن أنسى المسمِيّة نسياناً تاماً، هي التي لم يعد لها في أيّ حال إلا وجودها في الذاكرة، وأن أقنع نفسي بأن هذا الحيّز الضيّق الذي لا تعرض أوسلو عليّ سواه هو وطني.
لكن، لئن أعوزني في المنفى الإحساس بالولاء لأيّ مكان حللت فيه. فها أنا ذا عاجز، أيضاً، عن الإحساس بالولاء لهذا المكان من وطني الذي رجعت إليه.
هل كنّا في المنفى غرباء عن وطننا الواقعي أو عن الوطن الذي تصورناه؟
يخيل إليّ أن ما تملكنا الحنين الدائم إليه هو الوطن الذي أنشأناه في أرواحنا. أسكنّا وطن الذاكرة في أرواحنا وأسكنّا أرواحنا فيه، وصار الولاء لأيّ مكان واقعي متعذراً. ولكي ينتهي المنفى
علينا أن نحلّ المعضلة، أن ننتقل من وطننا إلى وطننا، أن ننهي ازدواجية الوطن.
هل في المستطاع تحقيق هذا الانتقال، هل في اليد انتزاع وطن الروح من الروح وانتزاع الروح منه وجلبها إلى صلادة الواقع وأثقاله، هل يمكن تحقيق هذا دفعة واحدة، هل في اليد تغييب المسمِيّة والاقتناع بأن الرجوع إلى غزّة عودة إلى الوطن، هل يمكن نقل الروح مع انتقال الجسد والاحتفاظ بها مع ذلك حيّة؟
هذا الوطن المعروض علينا لا يشبه الوطن المستقرّ في الرّوح إلا إذا جاز أن يعتبر الفرع المقطوع من شجرة هو الشجرة ذاتها. حتى هذا الفرع الذي ذوى لكثرة ما ألحق به العدوّ من خراب هل يشبه ذاته حين كان فرعاً عفيّا. وهل يد العجوز هي جسدها كلّه، وهل تشبه هذه اليد يد صاحبتها حين كانت صبيّة. وهؤلاء الناس الذين عتّمت هموم الاحتلال أرواحهم وشوهت أطباعهم وسممت أمزجتهم، هل يشبهون ناس الذاكرة؟
لن يبرح الوطن الجميل ذاكرة أيّ منا. ولن تصير البقايا المهشّمة التي يعرضها أوسلو علينا بديلاً لأي وطن.
- أنتم الكـُتـّاب!
نعم، أنا كاتب ولا مجال لإنكار تأثير المهنة. لكن، ارفق بعمِّك يا ابن أخي فهو إنسان أيضاً، والإنسان، وليس الكاتب، هو الذي يبث شجونه. أما الكاتب فما أشدّ ما روّضه العقل والمروضات الأخرى الكثيرة!، انقضت عهود منذ كنت في الوطن طفلاً ينطلق على سجيّته. وها أنا ذا قد رجعت بعد أن تبدّل الحال، بعد أن لم يعُد الوطن هو الوطن، ولم يعد الناس هم الناس، ولم أعُدْ أنا ما كنته. ولم يعد معروضاً عليّ إلا هذا الوطن الذي فتك الظلم به ومزّقه أشلاء وفرق ناسَه بعضهم عن بعض وحجب عنه وعنهم فرص التطور. الاحتلال الإسرائيلي وأطماعه وسطوته، والسلطة الفلسطينية وعجزها. الفساد الذي نمّاه المحتل وحماه واستثمر نتائجه لإدامة سطوته، والفساد الذي يلغ فيه الفاسدون من ناس السلطة ومن يلوذون بهم، وكلّ شيء من هذا القبيل. صديد ينزّ. ورائحة تزكم الأنوف. غير أن في هذا الوطن، في هذا الباقي من وطني، أشياء من نوع مختلف وناساً ليسوا من هذا القبيل. في الوطن، على ضيقه وضيق الفرص المتاحة له، ناس، هم معظم ناسه، يسعون إلى رزقهم بالكدّ الشريف إلى جانب الفئة الفاسدة. وفي السلطة مؤسسات عامرة بالنشاط والإنتاج إلى جانب ما هو مخرّب أو مهمل. في الوطن الباقي لنا، هذا الذي لا يُعرض علينا سواه، شرفاء كثيرون أقرأ سخطهم على وجوههم وألمس استعدادهم لتقويم العوج، تماما مثلما أن فيه الذين لا همّ لهم إلا أن تبقى الأمور معوّجة. والصراع حام ٍ وأعباؤه ثقيلة، الصراع الذي تعدّدت ميادينه دون أن تقل أعباؤه أو تخف أثقاله في أي منها. وإذا وجدتني يا ابن أخي مضطرباً، مضطرب التعبير أو السلوك أو الموقف، فلأن في ذهني سؤالاً يُقلقني، هل أستطيع أنا المشرف على الستـّين المسكون بالأدواء المتعب لكثرة ما تطوّحت بين ظروف سيئة وظروف أسوأ أن أقاوم دواعي اليأس وأنمّي دواعي الأمل، هل أقدر على حمل الأثقال وأحمل ما يضاف إليها؟
- هل تلائمك الإقامة في هذا الخراب بعد أن رأيت أجمل بلدان العالم؟
أمي وهواجسها بشأن ما أعتزم فعله، وهي التي سألت، ليس لأنها تؤمن حقاً بأن ما يحيط بها كلـّه خراب، بل لأنها شاءت أن تتيقن من أني سأبقى.
أحاطتني المبتهجة بعودتي برعاية مثابرة ويقظة: تصحو مع الفجر، وتؤدي الصلاة الباكرة، وتتلو أورادها، وتطيل الدّعاء وتخصّني بفقرة منه، ثم تصبّر نفسها تصبيراً حتى لا تتعجل إيقاظي أنا الذي يساهرها كلّ ليلة إلى ساعة متأخرة. وحين يغمر ضوء النّهار الدار، أي حين تبلغ الساعة السادسة أو السادسة والنصف، ينفد صبرُ التواقة إلى استئناف الحديث معي، فتستحضر الحكمة التي تربت عليها: نوم الضّحى يقطع الرزق، وتوقظني بها، ثم تجيء بقهوة الصباح إلى سريري وتجلس على حافّة السرير وتشعل سيجارة لي وأخرى لنفسها، وتبثّ أفكارها.
- ما أراه ليس خراباً كلـّه. أن تتوفر الرغبة في الإصلاح فهذا، عندي، في حدّ ذاته، عمار.
قلت هذا لأمي كأني أقوله لنفسي. كنت محتاجاً لتقوية عزيمتي بمقدار حاجة أمي إلى إطفاء قلقها. وأدركت أمي مغزى قولي إلا أنها لم تطمئن.
- هل اعتزمت البقاء هنا؟
رجعت إلى غزة في الثالث عشر من تشرين الأول/ أوكتوبر 1995، فكان أسبوعان قد انقضيا وأنا فيها أدرس الأحوال كما عزمت منذ البداية لأرسم خطوتي التالية. وهذه المرّة كان رباح هو الذي يسأل فيما نحن في سيارته مع أمّنا عائدين من وليمة غداء أقيمت احتفاء بعودتي في منزل أهل نورا.
- هنا غربة جديدة، لكنها الغربة التي داخل الوطن، وعليّ أن أوازن بين النوعين. ومن السابق للأوان أن أتخذ قراري ما دام أن بقائي أو رحيلي مرهونان لقرار يرسمه غيري.
- متى سترى الرجل، إذن؟
أمي التي تمعنت في وجهي وأنا أنتقي كلمات إجابتي على سؤال رباح هي التي وجّهت هذا السؤال، الأم التي لا تطمئن أبداً تعرف أن قراري مرهون لنتائج لقائي مع ياسر عرفات، وهي تحثني على الذهاب إليه.
- سأراه قريبا، فاطمئني!
كنت قد حزمت أمري على طلب اللقاء، أتممت تقصّي الأوضاع، وتبيّنت الخيارات المتاحة. وما أن بلغت الدار حتى هتفت ل د. رمزي. وما أسرع ما ظفرت بالموعد!
- غدا الثانية عشرة ظهراً.
أمام المدخل الخارجي لمبنى المنتدى الذي اتخذه عرفات مقراً لإدارته، رحب بي ضابط شاب تـنبيء شاراته بأنه من أمن الرئاسة، وقال الضابط وهو حريص على أن يصلني مغزى كلامه بتمامه إن مكتب سيادة الرئيس اتصل به وأخطره بوصولي وكلّفه أن يرحب بي. ثم رافقني هذا الضابط إلى مدخل المبنى. وهناك، كان في الانتظار ضابط أعرفه من مرافقي القائد العام القدماء. وقد استقبلني هذا فارداً ذراعيه مشهراً مودّته الشخصية من طيّات المهمة الموكولة إليه، وهو الذي صحبني إلى الطابق الأعلى. ذراعا د. رمزي اللذان ينفردان وينطويان بحساب وترحيبه، وأذرُعُ آخرين علموا بوصولي وهرعوا للتحية، وقهوة، ثم دقـّات الساعة منتصف النّهار. لحظتها، جاء ضابط مراسم على كل من كتفيه ثلاث نجمات واقتادني قبل أن أتم شرب القهوة ومضى بي حتى بلغ باباً طرقه طرقة خفيفة ثم فتحه بمفتاح معه وأدخلني ودخل معي. وبهذا صِرنا في حجرة عمل بإسم عرفات. فَوقف ضابط المراسم وقفة استعداد وهتف باسمي، كما يفعل حاجب البلاط، وأضفى عليّ صفة الأخ، فصرت الأخ فيصل حوراني.
لا أدري لماذا تصوّرت للحظة أني في فيلم سينمائي وأن هؤلاء الذين تلقـّوني هنا ممثلون. كان ما رأيته جديداً عليّ في جوّنا وفي أي جوّ خبرته بنفسي، وكان، خصوصاً، مغايراً للبساطة التي ألفتها في مقرات عرفات العديدة، أنا الذي تعرفت عليه في سورية في العام 1964، أي حين لم يكن له أي مقرّ، ثم لقيته مراراً في مقرّاته المتعاقبة، في دمشق وعمّان والقاهرة وبيروت وتونس. وكان هذا الجديد مصطنعاً حتى ليصعب أن تقرّ بأنه واقعي. وكان الاصطناع رديئاً. ولكي لا أستغرق في هذا الذي لا أهمية كبيرة له، فكرت: صاروا سلطة، وللسلطة طقوسها، أرضتك أم لم ترضك.
وما دخلته كان قاعة توزعت أرجاءها قطع أثاث متنوعة الاستخدام. وقد وقع نظري على ياسر عرفات قابعاً وراء مكتب في صدر القاعة بجوار نافذة عريضة يُرى عبرها مشهد البحر. وكان عرفات منصرفاً إلى كومة أوراق أمامه وبيده قلمه الذي يوقـّع به على كلّ ورقة، تماماً كما وُصف حاله لي. وقبل أن ينسحب ذو النجمات الثلاث، وقبل أن أبلغ أنا ركنه، وضع عرفات القلم على المكتب ونحّى نظارة القراءة عن وجهه بحركة متأنيّة، ثم وجّه نظره نحوي وقال وهو ينهض لاستقبالي وفي صوته نبرة عاتبة:
- تأخرت عليّ يا فيصل.
لكم أعرفه! هو، إذن، لم يتبدل، فها هو ذا الذي أخّر وصولي إليه قرابة سنتين يعاتبني لأني تأخرت ويكاد يحمّلني المسؤولية. إنه الرجل لا يحرجه شيء لكنه يتفنن في إحراج الآخرين.
- المسؤولية على من أخّرني.
لم أقل هذا لأرد على العتاب بعتاب، بل لأذكـّر القائد الذي يعرفني بأني أنا الآخر لم أتبدل وما زلت من الذين يتعذر إحراجهم بالباطل. والتقط هو المغزى من دون شك، ولم يواصل العتاب. وكنت قد بلغت موقفه فمددت يدي. فأمسك هو اليد وجذبني إليه.
- بالحضن، أنا مشتاق لك.
استقباله إيّاي في الموعد هو الذي قلما يلزم نفسه مواعيد محددة، وطقوس الاستقبال التي لم أشكّ في أنّه هو راسمها، والكف عن الإنشغال بالأوراق، والمبادرة إلى العناق، هذه بداية طيبة، ولن يصعب، إذن، التفاهم.
- هل ترى كم هي جميلة غزّة.
قال عرفات هذا وهو يعود إلى الجلوس ويشير إلى البحر دون أن يحوّل نظره عنّي. ولأن الافتتان بجمال الطبيعة ليس من سمات هذا الرجل، ولأني لم أظن أنه يعدُّ جمال غزّة من منجزاته فيجتذب انتباهي إلى شيء أنجزه، فقد استخلصت أنه كان يبحث عن مدخل ملائم لحديث توجس هو الذي يعرف حدّة طبعي حين أؤذى أن يكون شاقاً.
- البحر جميل في كل مكان.
لم أشأ أن أنكر أن لبحر غزّة جماله الخاصّ به، بل شئت أن أؤكد على أني لست ممن يؤخذون بمناورات الكلام. لقد جئت من أجل موضوع بعينه وأنا راغب في أن أستثمر الوقت في الحديث عنه. ويبدو أن البارع في قراءة أفكار المتصلين به قد استخلص ما وراء عبارتي بتمامه. فقد تنّحت النبرة المستكشفة وحلّت محلها نبرة عملية وحازمة، نبرة قائد.
- ماذا نويت أن تفعل؟
إنه القائد المعتاد على معالجة المشاكل، وها هو ذا قد أعلن استعداده لمعالجة مشكلتي.
- طلبت الخلوة لأتمكن من التحدّث بحريّة.
- تعرف أن صدري مفتوح لك.
كان هذا إذناً بالدخول في الموضوع، فأطلقت كلامي دون تحفظ. قلت لمن أعلن أن صدره مفتوح إن استقباله الودّي قد سحب من صدري الغلّ الذي ملأه فلم أعد بعد مغلولاً، إلا أن لدي بعض كلمات أريد أن يسمعها لكي نطوي الموضوع الذي أسخطني برمته. قلت للذي أصغى دون استياء إني ختمت السادسة والخمسين وشرعت في السابعة والخمسين وأنا لا أملك مما يتنافس المحيطون به على امتلاكه لا قليلاً ولا كثيراً. قلت إن ما أملكه بالفعل، كل ما أملكه، هو حقيبة ملابس متوسطة الحجم وحقيبة أوراق ومكتبة ليست كبيرة. قلت إن أجدَّ قطعة في ملابسي هي التي اشتريتها قبل سنتين ونصف سنة، أي قبل أن يوقف هو صرف راتبي وإني لم أضف إلى مكتبتي طيلة هذه المدّة إلا ما أهديَ إليّ إهداء.
- هل أنا كسول، هل أنا مغفل، هل قال لك أحدٌ عنّي إني غاوي طهارة من أجل الطهارة.
- ...
- إذن، فلتعلم أن تعففي هو عندي سلاح أتسلح به لأصون حقي في أن أفكر بحرية وأكتب ما استخلصه، فلا يمون عليّ أحد بما يخالف قناعتي، ولا تفلح أيُّ ضغوط يصبُّها أيما أحد عليّ.
وذكـّرت الذي لم يقاطعني بأني اجتزت معه المسيرة كلها، منذ جاء إلى دمشق إثر تولي البعثيين السلطة فيها في العام 1963 ليبحث عن نقطة ارتكاز ل"فتح" في بلد مجاور لفلسطين إلى أن طُرد من دمشق في العام 1983 بعد التّمرد الذي نهض في وجهه داخل "فتح" واحتضان البعثيين المتمردين. وذكّرته بأني انحزت إلى صفـّه ضد المنشقين عليه بالرغم من أن معظم هؤلاء كان من أصحابي، كما ذكـّرته بأن التهديدات التي تعرّضت لها بسبب ذلك، ويضمنها التهديد بالقتل، لم ترهبني. وقلت للذي هزّ رأسه إقراراً بأنه لم ينس وقفتي تلك وما تعرضت له بسببها إني وقفت معه في كلّ مرة اقتنعت فيها بأنه على صواب تماما مثلما وقفت ضدّه في أي مرة رأيت فيها أنه على خطأ. وبلغت بيت قصيدي حين قلت مشدّداً كل كلمة إني لم أطلب منه أجراً حين وقفت معه، ولم أخش سخطه عليّ حين وقفت ضدّه، وقد مارست في الحالتين حرّيّة التعبير التي أعتز بأني لم أفرط بها أبداً.
- عندي، إذن، ما أملكه ويسعدني أنه أعظم من كل ما يتهافت عليه معظم المحيطين بك هذه الأيام. إني أملك استقلال الرّأي، والقدرة على التفكير الحرّ، وملكة التعبير، والجرأة على الجهر بقناعتي. ولا أنوي أن أفرّط بهذا الذي أملكه حتى لو صارت حياتي ذاتها هي المهدّدة.
- هذا حقك.
كان هذا هو أول ما فاه به ياسر عرفات منذ بدأت البوح بمخزوني. وقد نمّ جرس صوته عن ميل إلى استرضائي. وبدا لي أن كلامي ترك في نفس الرجل أثراً طيباً، وصرت أنا الآخر مستعداً لاسترضائه.
- لا أنسى أنك حميتني في كل مرة تطاول علي فيها أي من الذين يلوذون بك، حميتني فيما أنا أهاجم سياستك. وأنا لا أنسى أني هاجمتك بضراوة، ليس مرة واحدة بل مرات، وأثار هجومي عليك سخط بعض المؤيدين لك، فحاولوا إيذائي، بل آذوني فعلاً وهم يظنّون أن هذا يرضيك، لكنك، أنت وليس أحد سواك، أنت الذي رفع عني أذى مؤيديه وثبّت حقي في الاختلاف معه. كان هذا شأنك قبل اتفاق أوسلو، فما الذي تبدّل بعد الاتفاق، ومن الذي تبدّل، أنا لم أتبدّل.
استحضرت أمثلة من الوقائع التي ألمحت إليها. ذكرت حمايته لي منذ 1967، أي منذ رحت أجهر بالدعوة إلى القبول بتسوية سياسية مع إسرائيل في ضوء القرار 242 حين كان هو ذاته ضدّ هذا القرار. حمايته لي حين تحالف من تحالفوا ضدي في العام 1977 في موسكو لتدمير مكانتي في م.ت.ف. والإساءة إلى سمعتي الشخصية. حمايته لي وأنا أهاجمه في زاوية أسبوعية في مجلة فلسطينية على مدى أربع سنوات متصلات، منذ التوقيع على اتفاق عمان الشهير في العام 1984 إلى سقوط هذا الاتفاق في العام 1988، وما فعله حين رفع عني أذى المدير العام لمركز الأبحاث الموالي له الذي أوقفني عن العمل بسبب هجومي عليه. واستحضرت ما قاله لهذا المدير الذي كرّر العقوبة بعد أن ظنّ أن إمعاني في الهجوم أسخطه: "فيصل يهاجمني أنا فما دخلك أنت!". وفي استحضاري هذه الوقائع، استحضرت الأجواء التي رافـَـقَََََـَتـْها واجتذبت المصغي إليّ إلى استعادة الأيّام الخوالي، أيام الكفاح الثوري وأمجادها، أيام التعددية ومكاسبها. وذكرت كيف كان هو بالرغم من كثرة الذين ينتقدونه أخاً للجميع، الأخ الذي يلجأ إليه معارضوه قبل مؤيّديه.
و لما لاحظت أن حديثي يؤدي غرضه، فقد أمعنت فيه، ووصلت إلى المقارنة بين تلك الأيّام وبين أيّامه هذه. قلت إنكم عقدتم اتفاق أوسلو في الخفاء، لم تشاوروا حتى حلفاء الخندق الواحد، وأبرمتموه بالتحايل على أنظمة الهيئات الفلسطينية المخوّلة بإبرامه. قلت إن إسرائيل استدرجتكم إلى مصيدة، هكذا رأيت أنا الحال منذ البداية، نصب العدوّ مصيدته في قاع هوة واستدرج قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إليها. قلت إني أعرف أنكم أضمرتم النيّة على تخطّي الهوة وأثق بأن لديك أنت بالذات الجسارة. لكن العدوّ كبّل حركتكم حين دفع مفاوضه الفلسطيني إلى القبول بأن يجري الحلّ على مرحلتين حدود كل منهما فضفاضة ومعظم بنودها غامض. قلت إن أجسر الناس وأشدّهم عزماً وأصفاهم رؤية لا يستطيع أن يأتي المستحيل، ومن المستحيل تخطي أي هوة في قفزتين. وقلت لمن خالطت تعابيره مسحة أسى راح يُغالبها إن ضيقي اشتدّ وأنا أراهم يفاوضون حتى الآن بالأسلوب ذاته، حتى بعد أن ألقت بهم قفزتهم الأولى في المصيدة. وفي ختام المكاشفة، قلت إن كنتم أنتم مراهنين على تبديل الحال أو كان ما يزال لديكم أمل فإني أنا عاجز عن مجاراتكم في الرهان على أوسلو، فهل كثير منّي أن أنتقد.
- لك حق الانتقاد، كان هذا لك سابقا، ويظل لك لاحقا.
- نلت حقي منك أنت الكبير، فماذا عن الصغار، صغار النفوس والعقول محترفي إشغال القادة بالنمائم...
- تسلّ بنمائمهم! حين أقرر أنا...، أنت تعرف، ألست أنت ممن يتهمونني بالتفرد. أم أنك بدّلت رأيك. إني أنا الذي...
قال العبارة الأخيرة بنبرة فكهة ولم يُكملها، بل استعاد النبرة الجادة.
- إبق هنا! إن استطعنا أن نقنعك فهذا مكسب وإن لم تقتنع فسننتفع بملاحظاتك، وهذا، أيضا، مكسب.
نلت من ياسر عرفات في هذا اللقاء أكثر مما توقعت. ولكم أن تعرفوا أن غُلـّي الشخصي غاص. أما ما لم يغص أو يتبدّل فهو رأيي في السياسة التي ينتهجها من صار حقّا القائد المتفرد، السياسة التي أفضت إلى مصيدة أوسلو. على الصعيد الشخصي، رضيت وراق مزاجي. أما على الصعيد العام، فقد تفاقم لديّ الإحساس بعجزي عن التجانس مع سياسة القيادة أو إيجاد هوامش مشتركة معها تعيدني إلى وضعي السابق: الكاتب اللصيق بالقيادة الذي يؤيد أشياء وينتقد أخرى. ومع هذا، وبالرغم منه، عليّ أن أقر بأن إصغاء عرفات إلى ما بُحت به دون أن يبدو عليه أيّ استياء قد جذب انتباهي. وأنا حين شرعت في المكاشفة راهنت على شيء، على لحظة يتـّقد فيها الألق العتيق. ويبدو أني كسبت هذا الرهان. وقد تذكّرت ما نبهني رباح إليه حين قال إن عرفات صار محتاجاً لأمثالي. ويبدو أن القائد الذي تواضع وقال إن في بقائي مكسبا قد صدر في هذا القول الذي عرفت أنه قال مثله عنّي لغيري من فشل تجربته في تطويع المعارضة. وبعد أن استلّ غلّي الشخصي، وحتى لو أسرفت في الانتقاد في المستقبل، فسيظل بإمكان القائد أن يقدّم حالتي دليلا على سعة صدره، ألا يُعلن هو دائماً أنه مع التعددية وإن صدره مفتوح للنقد. وإذن، فقد كادت تكون مقايضة، مُقايضة نافعة لطرفيها، هذه النتيجة التي توّصلت إليها. وقد حانت اللحظة الملائمة لجلاء شروط هذا المقايضة.
- شيء واحد أطلبه منك: أن لا تشترك في أي تآمر على قيادة شعبك الشرعية. إن التزمت هذا الشرط، إن لم تتفلـّت كما تفلـّتَّ مما التزمته أمامي في تونس، فلن أسمح لأحد بأن يؤذيك.
هل كان يقرأ أفكاري فشاء أن يسهّل إتمام المقايضة؟ لقد تمّ الاتفاق بأعجل كثيراً مما توقعت وأيسر: حريتي في الكتابة مقابل الامتناع عن أي نشاط يستهدف مكانته. فهل كان بالإمكان الظفر بما هو أفضل في الظرف الذي تعرفونه.
بعد تسوية ما هو جوهري، سوّينا المسائل الشخصية العالقة. طلبت أن يأمر هو بصرف رواتبي الموقوفة، فقال إن صرفها يحتاج إلى إجراءات. فأدركت أن الذي لا يفتنه الالتزام الكلامي وحده بحاجة إلى أن يتيقن من أني لن أحيد عما التزمته. وفي الجوّ الذي نشأ عن المكاشفة، لم أجدني مستاء.
- أعرف الإجراءات. لكني محتاج لمبلغ أسدّد به ديونا يذلـّني عدم الوفاء بها.
فطلب مني أن أكتب طلب سلفة على رصيد الرواتب، ومدّ إليّ ورقة، فكتبت الطلب، ودفعت الورقة نحوه، فكتب هو حاشية على الورقة ذاتها وأعادها إليّ دون أن يقول شيئاً. ووجدت أن من غير اللائق أن أقرأ الحاشية، فوضعت الورقة في جيبي دون أن أقرأها. وعندها، علـّق هو.
- بقية رواتبك ستحصل عليها فور استكمال الإجراءات.
قال هذا وكتب شيئا على ورقة وأبقاها أمامه. فقدمت طلبي التالي.
- إذن الإقامة الدائمة، الإذن الذي تطلبونه من إسرائيل حسب الاتفاق، هذا الذي يسمّونه الرقم الوطني...
- ستحصل عليه.
فاه بالوعد، وكتب شيئا على ورقة أخرى.
- بحصولك على الرقم الوطني ينتهي وضعك الوظيفي في الخارج. ولا بدّ من تحديد وضع جديد لك هنا.
أرجأت الحديث عن هذه النقطة لأنها حسّاسة، وها هو ذا قد فتح الحديث. جئت إلى القائد دون أن أحسم هذه النقطة بالذات، ذلك أن حسمها كان مرهونا لحسم غيرها. ثم إنني لم أكن متحمساً لشغل وظيفة في سلطة عارضت أنا الاتفاق الذي أنشأها، ناهيك بأن نقلي من الخارج يهبط براتبي إلى ما دون نصفه. لكني كنت مدركاً أن لا بدّ مما ليس منه بدّ.
- ما الموقع الذي ترغب فيه؟
كان في مبادرته هو إلى عرض وظيفة وتركه حريّة الاختيار لي تكريماً، لكن التكريم انطوى على إحراج لي.
- هل عليّ أنا أن أحدد الموقع؟
- لك أن تتبع ما أتحته لزملائك، تختار ثلاثة مواقع أعيّنك لواحد منها، حسب المتيّسر.
لحظتها، حضرتني سخرية أمّي.
- قالت أمي لي إنّي تأخرت فلم يبق منصب أشغله أو شيء أسرقه.
قلت هذا في نحو يبدو معه فكاهة. غير أن ياسر عرفات بقي جاداً.
- الصحيح أنك تأخرت فعلاً. لكن مكانتك عندي محفوظة.
- ما دام الخيار متروكاً لي فإني أختار التقاعد حتى أتمكن من الاستمرار في الكتابة.
كنت أعلم أني أطلب ما ليس في يده تلبيته. فالعائدون مستجدّون، وصندوق التقاعد يخدم الموظفين القدماء، ولا مجال لأن يحصل المستجدّ على تقاعد. وهذا هو ما شرحه القائد الذي ظن أني أجهله. لكني حين طلبت ما ليس باليد كنت أمهّد السبيل لطلب في يده الاستجابة له.
- نحدّد لك موقعا لا يلزمك مسؤولية وظيفيّة فتستفيد من وقتك كما تشاء، كما كنت منذ فرّغناك للكتابة.
ما أسرع ما قرأ أفكاري ووجد الحل ووجهني إليه، تماماً كما فعل في العام 1989 حين طلبت أن أُعفى من مسؤولية الوظيفة وأتفرغ للكتابة فأعَدّ هو الترتيب الذي ابتكره مما يبيحه نظام م.ت.ف.
- أودّ أن أسمّى في هيئة مستشاريك، مستشاراً بغير وظيفة، فلا يكون لي رئيس غيرك ولا مرؤوسون.
استمع إلى رغبتي، وخطّ سطوراً على ورقة جديدة، ثم ضغط على زرّ، فهرع إليه ذو النجمات الثلاث، وحمل هذا الأوراق ومضى بها.
سوّينا ما كان عالقاً. وبقي في الجعبة ما أود أن يسمعه هو مني بشأن عدد من القضايا العامة. قلت هذا، فأرسل هو نظرة تتبعتها فوقع نظري على ساعة. كنا نقترب من الواحدة.
- عندما وصلت إلى المقر، استقبلني المحتشدون في غرفة الانتظار بالترحيب والعناق. الآن، أنا واثق بأنهم ساخطون لأني أطيل انتظارهم.
أظهرت فهمي لضيق وقته فيما أنا طامع في واقع الأمر في أن يمدّ هو وقت اللقاء أو يحدّد موعداً لخلوة أخرى. أما هو فلم يعد محتاجاً إلى الخلوة.
- ابق هنا حتى وقت الغداء. سلـّم على أصحابك في المقرّ ثم تغدّ معنا. نحن نتغدى في مكتبي هنا في الثانية والنصف.
عرف صاحبي الذي أطلقت عليه اسم عائد أني موجود في المقرّ الرئاسي، ورصد طريقة استقبال الرئيس لي، واستخلص النتائج من الأوامر التي صدرت بشأني. وتوقع عائد بالطبع أن أجيء إلى حجرة مكتبه؛ ألسنا صاحبين منذ زمن طويل، ألم يعرض هو عليّ أن يحلّ مشكلتي. بل لعلّ عائد توقّع أن أجيء إليه لأستشيره قبل أن ألتقي الرئيس. غير أني تنقّلت من حجرة إلى أخرى على مدى ساعة ولم آت إلى حجرة عائد، وذلك، ببساطة، لأني نسيت أن له مكتباً في هذا المبنى. وإذا لم أكن قد زرت صاحبي هذا خلال الأسبوعين اللذين قضيتهما في غزة قبل التقائي الرئيس فلأني، أنا الذي سمعت الكثير مما يسوء عن سلوكه، شئت أن أتيقن مما سمعت. ولما لم أزره وأنا في المقرّ، فقد ظنّ المقروص بسوء السمعة أني أتجنبه حرصاً على سمعتي. والحقيقة أن صاحبي استخلص ما هو منطقيّ، لكن استخلاصه لم يكن صائباً. فأنا لم أقرر مقاطعته، ولست ممن يقاطعون إنساناً بسبب سوء السمعة وحده. وحين تقابلنا في أحد ممرّات المقرّ، أزعجني أن أرى صاحبي القديم متحفظاً. وجاء دوري لأسيء الفهم. فقد تصورت أن صاحبي ساخط لأني رفضت وساطته هو وقبلت وساطة د. أسعد. واستكثرت أن يتصور عائد أن يكون هو عندي أو عند أيّما أحد أهمّ من أسعد عبد الرحمن.
- مرحبا بانضمامك إلينا!
بدت لي النبرة فاترة. وتهيأ لي أن عائد لم يقل العبارة إلا ليذكرني بما ظننت أنه مستاء منه. فأمعنت في سوء الفهم.
- هل يريحك حقا أن أنضم إليكم، وهل يرتاح آخرون لو عرفوا أني سأعمل هنا.
وبهذا، بلغ سوء الفهم ذروته على الجانبين.
- لا أحد يؤذيه وجودك بيننا. وجودك ليس هو المشكلة، إنه لسانك، وهي عينك النقّادة، فأيّ فرق بين أن تكون في هذا المكان أو غيره.
موقع عائد بجانب ياسر عرفات وفـّر له نفوذاً رأى كثيرون أنه لا يستحقه وجعله مطلعاً على أسرار قد يجهلها أقرب المقربين ومنهمكا في أعمال يحسده عليها الآخرون. لم تكن لموقع عائد شهرة واسعة، لكن الشهرة جاءته لكثرة ما تناولته الألسنة، هو الذي أمعن في ما يراه متناولوا سيرته فساداً. والحقيقة أن عائد إن استحق بعض ما رُمي به فقد رُمي أيضاً بما لا يستحق. وهذا هو ما استقصيته بنفسي إلى أن تيقّنت منه. فقد كان هذا الرجل كلب صيد حقق مكانته عند سيّده لأنه أكثر الكلاب أمانة مع هذا السيد ووفاء له. تعرفون جميعكم كم هم كثيرون كلاب صيد ياسر عرفات. وكثيرون منكم يعرفون أن هؤلاء يلتقطون الطرائد التي يُطلقهم سيّدهم وراءها فيستأثرون ببعضها لأنفسهم من وراء ظهره. أما عائد فقد تميّز بأنه يرجع إلى سيّده بالطرائد كلها ولا يخونه. ولأن عرفات صيّاد متمرّس فهو يمنح كلبه الأمين جزء من الطريدة. وإذا اشتملت سيرة عائد على ما يزكم الأنوف، فلأن الطرائد التي يوكل أمرها إليه ليست كلها نظيفة. ونقيصة عائد، أو فساده إن شئتم، كامنان في حماسه للجري وراء أي طريدة حتى لو كانت شديدة القذارة. وقد هيئ لي أن عائد والفاسدين الآخرين اللائذين بالمقرّ الرئاسي يخشون أن أحلّ في المقرّ وأرصد مفاسدهم.
- خشيتهم لا موجب لها، فأنا لن أعمل هنا.
والتقط عائد الذي لا يُعِدّ في الأغبياء مغزى قولي.
- أعرف أنهم في غزّة قالوا لك إني من رموز الفساد، أخوك رباح المعارض المزمن، ولسانه...
- لست ممن يؤخذون بالأقوال. ورباح لم يجيء على ذكرك، وهو مثلي يركّز نظره على رأس الحصان وليس على الذيل. أما أن تكون أو أن لا تكون في الفاسدين، فأنت أدرى بنفسك.
قلت هذا منساقا مع المزاج الذي أنشأه سوء الفهم. إلا أن عائد استخلص ما طاب له، فراق مزاجه، وفرد على وجهه ابتسامة، وأحاط وسطي بذراعه في حركة متوددة واقتادني إلى حجرة مكتبه، وأغلق الباب وراءنا.
- لماذا لا نتحدث بصراحة.
في تلك اللحظة، فيها بالذات، إزاء جرس الصوت الذي بدا لي ممالئا والدعوة إلى الصراحة التي بدت كأنها دعوة إلى المساومة، انبثق من داخلي كل ما تجمّع ضدّ هذا الصاحب العتيق وأحسست بأن صداقتنا تغور. هل راودني مثل هذا الإحساس من قبل؟ أكذب إن زعمت أني انتبهت إلى أي تبدّل في مشاعري تجاه عائد قبل هذا اللقاء. سمعت الكثير عن مفاسد عائد، لكني سمعت مثله أو أسوأ منه عن آخرين، وكان من هؤلاء أصدقاء لي أغوتهم الفرص المتاحة فأوغلوا في الفساد. ولم آذن لنفسي بأن ألبس جلباب الواعظ أو أدّعي بأنّي حامل راية مكارم الأخلاق. أما بعد أن عاينت على أرض الواقع الصلة بين السياسة الخاطئة والفساد، فقد راحت رؤيتي للمسألة تتبدل.
- في عمّان، عندما التقينا، كيف أقول، تحدّثنا بغير تحفّظ. حتى سخطك على اقتراحي بدا لي دليل مودة. هنا، بعد عودتك، لا تخطئ فهمي، فأنا سعيد بعودتك، يبدو لي أن شيئا ما تبدل.
- تبدّلت أشياء، وتبدل ناس. وإن أردت الحق فأنا أسأل نفسي: هل تستمر الصداقة بعد أن تفترق الدروب؟ أسأل، وسأظل أسأل إلى أن أجد الجواب. لا أتحدث عن الاختلاف في السياسة، أتحدث عن تباين القيم، تباين المعايير، وتباين أوجه السلوك.
- هل استنتج من هذا...
- لا تستنتج أي شيء! أنا لا أنوي أن أقيم الدين في مالطا أو أيّ مكان آخر. سأظل أكتب، غير أني لن أصير واعظاً. سأصف الواقع لكني لن أشهر أيّ رسالة. ألا تظن أن لديّ أنا الآخر ما يجعلني أتبدّل.
امتد حوارنا في هذا النحو. وبقي عائد في دائرة عدم اليقين بشأن موقفي منه. ولم أجد ما يلزمني جلاء هذا الموقف. فحاول هو اختراق الدائرة.
- ما دمت ستبقى هنا، فأنت بحاجة إلى مساعدة، وأنا صديقك أو قل إني أحدثك بدافع الصداقة وحده، ثم إنك كاتب لك علينا حقوق حتى لو نحّيت دافع الصداقة. وأنا في الخدمة، يُسعدني أن أخدمك.
- ...
- خذ كلامي كما هو ولا تغلط في فهمه! ستحتاج مثلا إلى شقّة. ارتفعت أجور السكن ومن الأفضل أن تكون لك شقة، وأنا أعرف أنك لن تطلبها من أحد، لكن بإمكانك أن تعتمد علي. ستحتاج إلى سيارة، عندي أكثر من واحدة، وسأحصل قريباً على وكالة سيارات...
أخطأ عائد، أخطأ الفهم. قلت إني لن أصير واعظاً، ولكني لم أقل إني أجيز الفساد. وقد أخطأ عائد فهم قولي. من يَِِِلغ في الفساد يظنّ أن الآخرين جميعهم قابلون للعطب. لا يفسد إنسان ويظلّ قادراً على إتيان الصواب.
- وبتصرفك مكاتب مكيّفة الهواء أحتاج إلى واحد منها، وشاليهات على البحر، ومطاعم، وربما فنادق، وقد تؤسس شركة طيران. لماذا لا توقف مسلسل العروض.
- كما تشاء.
قالها عائد غير مقتنع، في ما بدا، بأن رفضي باتّ، وأضاف بعد لحظة صمت:
- عرض واحد أرجو أن لا ترفضه، عدني بأن تجيء إلي أنا إن احتجت لشيء، حتى لو صدّقت أني رمز فساد!
لحظتها، وجدتني مدفوعا دفعا إلى إيضاح ما تجنبت إيضاحه في الحوارات التي انهمكت فيها منذ حلولي في غزة عن الفساد والفاسدين. الصالحون هنا والفاسدون، جميعهم، ضحايا. الفساد القائم هنا هو فساد خندق الضحايا حين تتجمع فيه دواعي اليأس، فساد ما قبل نفاد الفرص، وهو لهذا فساد شره ومتعجل. وهذا الفساد على ما يجلبه من منافع للوالغين فيه لن يخرج هؤلاء من خندق الضحايا. فما يُبقي الضحايا في الخندق هو الاحتلال، هو تفوّق القوة المسلّطة على الجميع، وهو البطش الذي يصبّه المحتلون، وهذه عوامل لم تتبدل. يقينا أني لا أجيز أي فساد غير أني لا أركز على الجزء وأغفل الكل. إني أرفض أن أقسر بوصلتي على التوجّه في الاتجاه الذي تعمى فيه الرؤية. الرأس أم الذيل، هذه هي المسألة على الدّوام. الاحتلال هو أساس الداء وهو مثير المواجع جميعها، الفساد وغيره، هذا حين يهتمّ التحليل بلباب الأمور. أليس الاحتلال هو راعي الفساد والفاسدين. وما دامت كل شؤون الخندق هي في يد المحتل، الوصول إليه والخروج منه والحركة داخله، الاستيراد والتصدير، الطعام والشراب، والدواء والكساء، فكيف يفسد أي من الضحايا إذا لم يسهّل المحتل فساده. أما الفساد الذي لم يصنعه المحتلّ فهو فساد السياسة، وهو الذي يسهّل مهمة المحتل في تعميم أي فساد. لن تنصلح الأحوال ما لم تنصلح السياسة ولن يرحل المحتلّ.
- تحاصرك ألسنة الناس وتخزك التهم. أما أنا فلي اهتمامات أخرى أنشغل بها.
وجاء من يدعونا إلى المائدة فانقطع الحديث. وعندما بلغنا الباب الذي سبقنا إليه آخرون فتحه ضابط النجمات الثلاث: "الأخ فيصل أولاً". فدخلت ودخل عائد والآخرون بعدي. كان أبو عمار قد اتخذ مقعده على رأس المائدة وقادني ضابط المراسم نحوه وسحب المقعد الذي على يمينه ودعاني إلى الجلوس، ثم وزّع الآخرين على بقية المقاعد.
حديثو السلطة مثل حديثي النعمة يبالغون في إتباع اللياقات لكنهم لا يتقنون ممارستها. فكّرت بهذا وأنا أرى كيف تزاحم المدعوّون على شغل المقاعد الأقرب إلى مقعد عرفات متفلـّـتين من إرشادات ضابط المراسم. حديثو سلطة كانوا، بل أدعياء سلطة، وقد بدوا لي مثل من يؤدون أدواراً في مشهد تمثيلي لم يدربوا تدريباً كافيا على أدائه. ولو أن مزاجي لم يكن قد راق في صورة استثنائية لتعذ ّر عليّ أن أحبس ضيقي. أما وقد راق المزاج بعد أن اجتزت امتحانين في وقت قصير، فقد رحت أرصد ما هو طريف في السلوك المصطنع وأتمتع بقدرتي على أن أسلك سلوكاً مختلفاً. وكما اشتطّوا هم في التكلـّف، أمعنت أنا في التبسّط؛ نبرتهم المتوقرة في حضرة سيادة الرئيس أو فخامة الرئيس طغت عليها نبرتي المستريحة وأنا أخاطبه بكنيته، أبو عمار؛ تأمينهم على أي قول يفوه به هو وتطييبهم أي رأي يصدر عنه قابلهما حرصي على إبراز رأيي المعارض؛ التحفظ الذي قيّد حركاتهم والتحسّب الذي رسم على الوجوه ابتسامات وتعابير محسوبة بحساب مزاج الرئيس أو محاها قابلتهما طلاقة حركتي وعفوية التعبير؛ والتزلّف، والنفاق، وما إلى ذلك مما تعرفون أني لا أمارسه. ولما لاحظ هؤلاء أن فخامة الرئيس يصغي إلى الآراء المعارضة دون أن يسخط، فقد بدا عليهم الارتباك، وصمت بعضهم فيما راح بعضهم ينافقني أنا الآخر ويصطنع الرضى. وبهذا أبلغني المشهد ذروة المتعة.
بسطت آرائي في السياسة المتبعة. قلت ما كنت أنوي قوله لو أن ياسر عرفات مدّ وقت خلوتنا أو منحني خلوة جديدة. وبسطت انتقاداتي كلّها ومخاوفي. ألم يشأ القائد أن يختبرني، فلأستثمر سعة صدره وليعرفْ، إذن، أن لي الحق في اختبار قدرته على احتمال الانتقاد. وإذا صبر الذي أجاز لي أن أنتقد على جهري بآرائي أمام هذا الحشد الذي يغلب فيه المنافقون فلن يجرؤ أحد على إيذائي إن جهرت بها في أي مكان.
- اعتراضاتك سمعتها وأنت تعرف رهاننا. إن اتضح أننا على صواب وهو ما أرجو أن يتضح قريبا فالربح للجميع. وإن فشل الرهان فأنا المسؤول. حطّوا المسؤولية عليّ. قولوا عني ما تشاؤون، العنوني وقولوا خائن إن كان هذا ينفعكم وبدّلوا السياسة واتبعوا طريقاً آخر!
أوجز القائد رده، ثم نهض. كان قد بدأ ينطفي في نهاية فترة عمله النهاري الطويلة وقد حان وقت قيلولته، وخصّني بتحية وداع، ثم بارحنا بخطوات متأنية يحفّ به مرافقوه.
****
الحنين، حكاية عودة هو أخر ما نشر من كتب فيصل حوراني. صدرت منه طبعة خاصة عن دار كنعان في دمشق ، تعيد ألف نشر هذا الكتاب على حلقات حصريا على النت بالاتفاق مع الكاتب
08-أيار-2021
26-شباط-2012 | |
27-نيسان-2011 | |
11-آذار-2011 | |
01-شباط-2011 | |
11-كانون الأول-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |