جنكيز ايتماتوف وتحولاته•
خاص ألف
2011-04-27
تقاسيم زمار الحي مجموعة مقالات جمعها الباحث والروائي الفلسطيني فيصل حوراني، من بين مجموعة مقالات كتبها في الصحافة عبر تاريخه الطويل .. اخترنا هذه المقالة من الكتاب، لشبهها ببعض كتابنا الذين يتحولون ليس من اليسار إلى اليمين فهذا أمر فرغنا منه، وإنما يتحولون عن مواقفهم ومبادئهم من أجل الشهرة والمال وأشياء أخرى ربما كانت حلما في وزارة ما!!!!!!!
ألف
قرأت في الأنباء أن جنكيز ايتماتوف صار عضوا في مجلس تشكّل في موسكو وأوكلت إليه مهمة الإشراف على طبع التلمود باللغات التي تتحدثها شعوب ما كان الاتحاد السوفييتي. هذا النبأ ذكرني بالكثير مما كان وأثار خوالجي إزاء الكثير مما هو قائم.
في روايته الخالدة "وداعاً غولساري!" يقدم الروائي القرغيزي أوضح صورة قدمها الأدب السوفييتي عن سلبيات عهد ستالين: البيروقراطية الحزبية وقرينتها الحكومية التي فتكت بالمناضلين التقدميين من الشيوعيين وغير الشيوعيين وخصت غولساري الحصان الجواد وربطته إلى مقدم عربة نقل ليجرها بعد أن أخرجته من ميادين الطراد الفسيحة التي كان يمرح فيها ويبز سواه. وهي ذاتها البيروقراطية الفاسدة التي أحلت محل هؤلاء موظفين فاسدين خانعين لها، ففتك هؤلاء بمنجزات المجتمع الروحية والمادية الحقيقية وأحلوا محلها منجزات صورية لا وجود لها إلا في التقارير التي يكتبونها على هواهم ويتداولونها ويروجونها وسط الجمهور الذي تحجب عنه الحقائق.
في هذه الرواية، كما في كثير غيرها، صور ايتماتوف بموهبة عظيمة وكفاءة فذة التحولات التي فرضتها البيروقراطية السائدة في ظل تسلّط السلطة المتفردة على شخصيات المناضلين القدامى ونضالات الذين قاوموا التسلط، صور من استسلم ومن صمد، لم يزوّر كما يزوّر الآن الذين لا يرون في عهد ستالين أيّ حسنة. ولم يكن غريبا، إذاً، أن صارت روايات ايتماتوف إنجيلاً يهتدي به الذين يتطلعون إلى الإصلاح، الإصلاح الذي يسعى إليه الصامدون على المبادئ، الذين يريدون للتجربة أن تستقيم وللمنجزات المطابقة للتضحيات أن تتكرس، وليس مدعو الإصلاح، هؤلاء الذين يفتكون بالمنجز السليم ويكرسون الفساد، وحده. مجد ايتماتوف الثابتين في الاتجاه الصحيح وحرض القراء ضد ركاب الموجات السلطوية المتعاقبة، هؤلاء الذين يقولون نعم لكل متسيّد ويتوخون من وراء ذلك التمتع بالمنافع، وليس بأي شيء آخر.
"وداعاً غولساري" ومثيلاتها من روايات ايتماتوف صنعت سمعة ايتماتوف في العهود السوفييتية التي شهدها الرجل كلها، عهد ستالين وعهود غيره، والتي جعلت منه أديبا على قد عصره وأكبر، وحققت له بين الملايين من قرائه في الاتحاد السوفييتي وبقية العالم مكانة الروائي العظيم والداعية الجريء إلى مقاومة البيروقراطية والفساد.
لم أكف عن تذكر هذا كله فيما رحت أراقب تحولات ايتماتوف نفسه في السنوات الأخيرة وانحداره هو نفسه ناحية الحضيض الذي لم يدن هو نفسه شيئاً بمقدار إدانته للذين انحدروا نحوه من مجايليه.
لم يتعرض ايتماتوف للاضطهاد في أي عهد من عهود السلطة السوفييتية، ولم يشك أحد من تقصير السلطة في تكريمه وإتاحة فرص الانتشار له، لم يكتب رواية فيفتقر إلى ناشر، ولم تطبع له رواية فتمنع من التداول، ولم تبخل مؤسسات الدولة على رواياته بالورق الكثير الذي تحتاجه ملايين النسخ، بل إن دور النشر، وهي جميعها مما كانت تملكه الدولة، تبارت في طبع رواياته وإعادة طبعها مثلما تبارت دور التوزيع في إيصالها إلى القراء، وقد بلغت أرقام المطبوع من رواياته حدودا لم تبلغها إلا كتب قليلين غيره.
وفي عهود السلطة السوفييتية، وهي كثيرة امتدت مع امتداد عمر ايتماتوف الطويل، لم يعرف أن الرجل مناوئ للسلطة ولم يدع أي عهد عليه بذلك. والنقد الذي رحب به الجمهور رحبت به السلطة السوفييتية، ونسب الجميع دوافعه إلى النقد إلى رغبته في تقويم العوج وإخلاصه للنظام وتعاملوا معه على هذا الأساس.
بهذا، لا يستطيع ايتماتوف أن ينسب تحوله عن موقفه إلى ما ينسبه الآخرون من أمثاله حين يقولون عن حق أو غير حق إنهم كانوا ممنوعين من الجهر بآرائهم في العهود السابقة، فهو لم يكن يحمل في تلك العهود أيّ آراء مخالفة.
لقد بدأت تحولات ايتماتوف بعد انهيار السلطة السوفييتية فقط. فبعد هذا الانهيار، ظهر ايتماتوف بوجه مختلف وتسارعت خطواته على طريق التحولات التي أبعدته عن صورة المصلح النزيه ووضعته في عداد الوصوليين. فما الذي خصى الجواد الذي كان روائيا عظيما؟
هل تحول ايتماتوف بدوافع انتهازية كان تأثيرها كامنا في نفسه إلى أن واتت الفرصة لظهوره، أم أن بذوراً للتحول من نوع أخر كانت هي الكامنة وهي التي انتعشت مع مواتاة هذه الفرصة ؟ أضع السؤال أمامي وأنشغل به، ويضعه كثيرون من قراء ايتماتوف وينشغلون به، كما يضعه كثيرون من المعنيين بدراسة العوامل التي أدت إلى انهيار السلطة السوفييتية وينشغلون به أيضا.
وإلى أن يكرس البحث إجابة صحيحة على هذا السؤال، توجب دوافع النزاهة ألا نتعجل في إصدار حكم بات، خصوصا إذا كان هذا الحكم مما يمس واحدا شغل في ثقافة البشرية قمة من قممها. وقد يتوجب ألا ننسى أن كثيرين من الأدباء تحولوا قبل ايتماتوف. فمن الذي ينسى أن جون شتاينبك لم يدر الظهر لمضمون رواياته العظيمة فحسب، بل وصل إلى حد تأييد العدوان الأميركي على الشعب الفيتنامي وسافر بنفسه إلى فيتنام ليقدم التحية إلى الجنود الذين ينفذون هذا العدوان!
من جهتي، ترتجف يدي قبل أن أفكر بالنطق بأي حكم وكتابته. غير أني أملك شهادة شخصية، قد تكون قليلة الشأن أو متواضعة الدلالة في هذا المجال، وعندما قرأت نبأ انضمام ايتماتوف إلى الموكلين بطباعة التلمود رأيت من المفيد أن أدلي بها.
لقيت جنكيز ايتماتوف مرة واحدة، وسعيت مرة أخرى إلى لقائه فلم يستقبلني. جرى هذا في ظرفين مختلفين كل الاختلاف. لقيت ايتماتوف حين كان الاتحاد السوفييتي في عز قوته في أوائل السبعينات، وتعذر اللقاء معه حين كانت سلطة السوفييت تلفظ أنفاسها الأخيرة في أواخر الثمانينات.
جرى اللقاء الوحيد مع الأديب الكبير في دمشق. لبى هو وقتها دعوة طيبة وجهتها له دائرة الإعلام والثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية أيام كان عبد الله الحوراني مديراً عاما للدائرة. وقتها كانت م.ت.ف. ناشطة وكانت الدائرة جمة النشاط. وقد لازم صديقنا المسكون أبدا بهاجس إبراز الوجه الفلسطيني المتحضر أحمد دحبور ضيف المنظمة الكبير. خصص أحمد للضيف وقته كله ورافقه في جولاته في المواقع الفلسطينية في لبنان وسورية وحرص على أن تتوفر للضيف أوسع فرص المشاهدة والحوار. وقد ترتب على أحمد، الذي أثق بأن ذاكرته الممتازة تحتفظ بوقائع كثيرة نسيتها أنا، أن يوازن موازنة دقيقة بين حرصه على التعبير عن رأيه الخاص به وبين الحاجة إلى إتباع اللياقات التي توجبها الضيافة، مثلما توجب عليه أن يتصرف في الحالتين بما يلبي رغبته في صيانة العلاقات الطيبة بين م.ت.ف. والاتحاد السوفييتي. وقد كان أحمد في هذا المجال الأخير أقدر من عرفت من الفلسطينيين ممن ينتقدون بعض أوجه السياسة السوفييتية لكنهم لا يتوانون في العمل على صيانة العلاقات الفلسطينية-السوفييتية وتعزيزها.
في هذا اللقاء مع ايتماتوف، دارت أحاديث تناولت، بالطبع، مواضيع متعددة.وقد ضم اللقاء، إلى عبد الله الحوراني وأحمد دحبور، عددا آخر من كتاب فلسطين وسورية. وكان بين هؤلاء الشاعر علي الجندي، هذا الذي لم تفارقه تأثيرات بعثيته حتى بعد أن انقطعت صلته التنظيمية بحزب البعث وصار يقدم نفسه بصفته معارضا لسلطة الحزب. وكان في دائرة الاهتمام في ذلك الوقت حكاية الشاعر السوفييتي الطالع كالصاروخ في عالم النشر في ديار الغرب: يفجيني يفتيشنكو. وقتها، كتب يفتيشنكو قصيدة نشرتها "نيوز ويك" الأميركية ونشرت صحف عربية ترجمة لها، تمجد تضحية فتاة سوفيتية يهودية أعدمها النازيون بدم بارد أثناء احتلالهم للاتحاد السوفييتي. وكان تمجيد الشاعر للفتاة اليهودية، التي تحولت إلى أحد رموز البطولة في مقاومة الفاشية، قد أثار حفيظة القومجيين العرب. وانشغل بال علي الجندي بالحكاية فراح يردد الحديث حولها من موقع الانتقاد للشاعر في كل لقاء جمعه في بيروت أو دمشق مع ايتماتوف. كان المأخذ الذي يأخذه على الجندي على الشاعر السوفييتي الشهير هو هذا: لماذا يخص يفتيشنكو الفتاة اليهودية وحدها بالتمجيد، ولماذا لا ينتبه إلى الضحايا من الفلسطينيات اللواتي فتكت إسرائيل بحياتهن، وهن لسن أقل بطولة من تلك الفتاة.
لم يضق ايتماتوف برأي علي. أما أنا فقد ضقت بمسلك الشاعر السوري الصديق الذي لم يقرأ كل ما كتبه يفتيشنكو والذي يفرض حكاية واحدة ويرددها بلا انقطاع في كل مجلس يضم زوارا من الدول الاشتراكية. كان لدي، وما يزال، الكثير مما يؤخذ على يفتيشنكو، لكني لا آخذ عليه تركيزه على حكاية أو غيرها، فهو في ختام كل حساب ليس شاعرنا، وقصيدته التي ينتقدها القومجيون تستحق في الواقع أن ينوه بها. وقد ظننت أني أفعل ما يريح الضيف حين جهرت بهذا الرأي وأضفت إليه أن تضحية الفتاة اليهودية تستحق حقا التنويه، وإذا لم يكن يفتيشنكو قد انتبه إلى تضحيات الفلسطينيات فهذا شأنه، وليس لنا إلا أن ننشط بما فيه الكفاية لنفرض لحكايات التضحيات الفلسطينية الحضور ذاته الذي خلقته دعايات مثابرة لحكاية الفتاة الأخرى. ثم حاولت توجيه الحديث إلى موضوع جديد.
هنا، فاجأني أن ايتماتوف يحمل حول يفتيشنكو الرأي ذاته الذي بسطه على الجندي بإلحاح. وقد اتهم ايتماتوف زميله السوفييتي بالانتهازية وممالأة الغرب على حساب الموقف النزيه والسعي وراء فرص الانتشار في الإعلام الغربي بأي وسيلة. فسكت أنا تأدباً، من جهة، ولأني أشارك الآخرين القناعة بشأن السعي الرخيص إلى الانتشار، من جهة ثانية، ولأني خشيت أن يكرر علي إتهاما قديما لي ويجد جديداً يؤكد رأيه فيّ بأني سوفييتي أكثر من السوفييت.
بعد هذا، سألت ايتماتوف عن دأبه في كثير من رواياته على منهج مثير: إماتة البطل الطيب أو الذي يرمز إلى الخير، وسألته لماذا يموت غولساري الحصان الجواد وينهزم صاحبه، وهل تتطابق هذه النهاية مع واقع الحال في الاتحاد السوفييتي. هذا السؤال أتاح لي أن أسمع إجابة عميقة: الموت في الأدب له دلالة تختلف عن الموت في الحياة، يموت البطل الطيب في الرواية فيزيد موته من قوة التحريض ضد الشر.
ثم راح ايتماتوف بعد ذلك يحدثنا عن ناس حقيقيين عرفهم في مواقع الحياة في بلده واستلهم من حياتهم الكثير. ناس إيجابيون، يقاومون البيروقراطية والفساد، ويواصلون العمل البناء ويصنعون تقدم البلد. لم يش حديث ايتماتوف بما يظهر أنه يائس أو مناوئ للنظام أو معارض لسياساته. ولم يجار الرجل الذين من محاوريه راحوا يتبارون في استحضار الأوجه السلبية للعديد من الممارسات السوفييتية الخارجية والداخلية. وحين تطرق الحديث إلى مواضيع الصراع العربي – الإسرائيلي، لم يصدر عن ايتماتوف قول واحد يشي باختلاف رأيه عن الآراء التي تنطوي عليها السياسة السوفييتية، ولم يبد عليه أنه يضمر ميلاً ما إلى إسرائيل أو الصهيونية أو مؤيديهما في أي مكان أو أن موقفه منهم مختلف عن موقف أي شيوعي صحيح العقيدة.
أما حديث ايتماتوف عن التفاعل بين قوميات الاتحاد السوفييتي، هو الذي ينتمي إلى شعب صغير مقيم في جمهورية صغيرة من جمهورياته، فقد كان مفعماً بالتنويه بالتعاون الطوعي القائم بينها في ظل النظام السوفييتي وبما توفر للقوميات الصغيرة من فرص التطور الروحي والمادي. وأتذكر أن ايتماتوف ضرب مثلاً بالتقدم المادي الهائل الذي حققته جمهورية قرغيزيا، بلده، هذه التي تحولت إلى بلد حديث، هي التي لم تعرف قبل انضمامها إلى الاتحاد السوفييتي ما هو أكثر من نمط الحياة الرعوي، كما أتذكر أنه ضرب مثلاً بالشاعر الكبير قيسين كولايف ابن بلقاريا غبردينيا أي القومية التي لا يزيد ناسها على بضع مئات من الألوف والتي لم تكن لها لغة مكتوبة، وقد ظهر منها بعد انضمامها للاتحاد السوفييتي هذا الشاعر الذي تترجم أعماله إلى لغات الأرض جميعها.
بكلمات قليلة، لم يظهر في حديث ايتماتوف ما يشي بالتحولات التي انتهى إليها، ولا ما يشي بما يسوغ انتقاله من موقع الولاء التام إلى موقع العداء المطبق.
كان هذا في أوائل السبعينيات، فكيف صار الأمر في أواخر الثمانينيات؟
سعيي إلى اللقاء الذي لم يتم مع جنكيز ايتماتوف جرى في أواخر الثمانينيات، في وقت ما لم أعد أتذكره في شتاء 1988 – 1989. كنت في زيارة إلى الاتحاد السوفييتي، حملتني على القيام بهذه الزيارة رغبة طاغية. كانت دعوة البيروسترويكا في إبانها، أطلقها من كان حتى ذلك الوقت أمينا عاما للحزب الشيوعي ورئيسا للدولة السوفييتية ميخائيل غورباتشيف. شاقتني الدعوة دون أن يفتقر الأمر إلى هواجس تتناوشني بشأن هدفها ودوافعها والنتائج التي تترتب عليها، رأيت فيها دعوة حمالة أوجه، وشئت أن أعمق معرفتي بها، فطرت إلى موسكو.
هناك، حللت ضيفا على صديقي العزيز ألكسندر سميرنوف الكاتب الصحافي الذي يعرفه الفلسطينيون ويعرف هو عنهم أكثر مما يعرف بعضهم عنهم. اخترت أن أكون ضيفا على هذا الصديق لأني أعرف أنه مكافح قديم ضد البيروقراطية والفساد ومتفهم لحاجتي للإطلاع على ما أود الإطلاع عليه بحرية تامة. كان سميرنوف وقتها واحدا من المسؤولين الكبار في إمبراطورية وكالة أنباء نوفوستي السوفييتية، شغل هذا المنصب بعد أن عمل سنوات كثيرة في عدد من البلدان العربية، آخرها كان لبنان، واحتك فيها بالأوساط الفلسطينية المختلفة وقدم لها من الخدمات ما لا ينسى. وقد طلبت من هذا الصديق أن يجعل برنامجي جولة حرة ألتقي خلالها بممثلي الرأي العام السوفييتي والمؤثرين فيه دون رسميات. ولما كان ايتماتوف بين أشد المتحمسين للبروسترويكا فقد طلبت تنظيم لقاء معه.
كنت أظن أن الأديب الكبير مقيم في موسكو أو أنه يمضي جل وقته فيها فاكتشفت خطأ ظني، فهو لا يجيء إلى موسكو إلا عند الضرورة، أما وقته فيمضيه في الأجواء القرغيزية التي تستلهمها إبداعاته، يقيم في مزرعة تعاونية هناك، ويشغل منصب رئيس اتحاد كتاب قرغيزيا وله في مقر الاتحاد في العاصمة القرغيزية مكتب يجئ إليه كلما اقتضى الأمر.
تم الاتصال مع مكتب ايتماتوف، وبعد أخذ وعطاء تم تحديد موعد لي للالتقاء به. وتوجب علي أن أطير أربع ساعات ونصف ساعة وأحل في المدينة التي بنيت كلها بعد نشوء السلطة السوفييتية، في وقت كان الصقيع يجللها والحرارة تهبط درجات كثيرة دون الصفر. وفي الصباح، حين يكون البرد مما يفري الأكباد بالمعنى الحرفي للكلمة، توجهت مستعجلا إلى الموعد المضروب. ولجت ممرات تفضي إلى ممرات، وعبرت أمام حجرات تجاورها أخرى عديدة، إلى أن وصلت إلى المكان الذي يشغله مكتب الرئيس. هناك، قالت السكرتيرة إن ايتماتوف غير موجود، "لم يتمكن من الحضور"، فسرت غيابه على هذا النحو الوجيز، ولم تقدم أي إيضاح آخر.
لن أحدثك عن خيبة أملي ولا عن اللقاء المرتبك مع نائب ايتماتوف الذي لا أعرف اسمه ولا أعرف ما الذي يكتبه، وسأبقى في ما يصلنا بالموضوع. فقد عدت إلى موسكو دون أن تساورني الشكوك بشأن تخلف ايتماتوف عن موعد طرت إليه ألوف الأميال في ظروف قاسية في الجو وعلى الأرض. لقد ظننت أن الرجل تخلف لسبب قاهر. إلا أن صديقي سميرنوف جمجم حين عرف الحكاية بكلمات أثارت شكوكي، كان واضحا أنه لا يصدق حكاية السبب القاهر، ولكن الرجل الذي لا يلغ في الغيبة لم يقل كثيراً.
هذه الجمجمة أججت فضولي. فلجأت إلى رجل في اتحاد الكتاب السوفييت أعرفه وأعرف فيه عنايته بالزوار العرب واستعداده الدائم للثرثرة بما يلبي فضولهم. كان هذا موظفا قديما في إدارة الاتحاد بالإضافة إلى أنه مترجم للأدب العربي، وأغلب الظن أنه كان، أيضا، مخبرا لدى أحد الأجهزة الأمنية التي تهتم بالأجانب. قال الرجل إنه يريد لنا نحن الفلسطينيين أن نفتح أعيننا ونزيد اهتمامنا بايتماتوف:"يحب ايتماتوف المال، خصوصاً العملة الصعبة، فبادروا حتى لا يسبقكم غيركم إلى شراء ولائه!". جهر الرجل بهذه النصيحة بعد أن أفاض في الحديث عن استهانة ايتماتوف بالعرب عموما، قال إن الروائي الكبير يعد العرب مجرد ثرثارين يقولون أكثر بكثير مما يفعلون وهو لذلك يستهين بهم ويستهين بالتالي بقضاياهم.
والحقيقة أن الدعوة السافرة إلى تقديم رشوة لأديب كبير بلبلتني بل احنقتني، وقد تجاهلتها بالطبع، بل قلت: أنا استكثر أن يكون كاتب "جميلة" من هذا الصنف. وبقيت أستكثر التهمة حتى بعد أن تواترت شهادات كثيرة تؤكد حكاية استهانة ايتماتوف بالفلسطينيين والعرب.
وعندما بدأ ايتماتوف، مع تحوّل البيروسترويكا من دعوة إلى الإصلاح إلى مبرر لتخريب الاتحاد السوفييتي، بالتقرب إلى إسرائيل وممالأة الصهيونيين، تذكرت ما قاله لي الموظف السوفييتي في اتحاد الكتاب وتحذيره لي من أن يسبقنا غيرنا إلى شراء ولاء الأديب الكبير.
والآن، حين ينضم ايتماتوف إلى مجلس هدفه نشر كتاب ديني، هو الذي لم يكن متدينا أبدا وهو الذي ينحدر من أسرة تدين بكتاب غير هذا الكتاب، لا أملك أن أنحي عن بالي هذا الذي تذكرته عن حبه للعملة الصعبة، لا يعني هذا أني أنسب تحولاته إلى هذا السبب أو إليه وحده، بل يعني أني آخذه في الحسبان حين تنداح أسئلة كثيرة حول أسباب الارتداد.
لماذا يتخلى ايتماتوف عن الشيوعية باسم إصلاحها ثم ينسى الإصلاح ويؤيد أكثر الأنظمة فسادا في تاريخ روسيا منذ ما قبل بطرس الأكبر. ولماذا يتحول الألوف من كبار المثقفين وأعتى المناضلين فينتقلون من مواقع التقدم إلى المواقع الرجعية. لماذا ينتقل ايتماتوف من موقعه بما هو أهم محرض على مكافحة الفساد إلى هذا الموقع؟
لقد علمتني جدتي ألا أضع أحدا في ذمتي، وعلمتني التجربة أن الظواهر لا تنشأ بالضرورة بفعل سبب واحد وحيد. وحين يعم الفساد لا ينجو من تأثيره إلا القليلون، يستوي في ذلك أن يكون الفاسدون من صانعيه أو من المستفيدين منه.
أدان ايتماتوف خصي الجواد غولساري وإذلال فارسه الذي صمد على المبدأ. وعندما ساد الفساد، لم يصمد ايتماتوف نفسه. وأنا مستعد لأن أضحي بالكثير من أجل أن أعرف الموقف الحقيقي لكاتب "وداعا غولساري!" حين يعيد الآن قراءة هذه الرواية.
08-أيار-2021
26-شباط-2012 | |
27-نيسان-2011 | |
11-آذار-2011 | |
01-شباط-2011 | |
11-كانون الأول-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |