من: (الصعود إلى الصفر)/ اقتحمت الشرطة حرم الجامعة فاستقال عميد الجامعة
خاص ألف
2010-02-15
تتابع ألف نشر فصول مثيرة وهامة من كتاب الباحث والأديب الفلسطيني فيصل حوراني من مؤلفه دروب المنفى" وهو كتاب من خمس مجلدات هي "الوطن في الذاكرة" "الصعود إلى الصفر" "زمن الأسئلة""الجري إلى الهزيمة"أين بقية الحكاية؟" ويعتبربمجلداته الخمسة شهادة الكاتب الملحمية التي رسمت بلغة الأدب صورة شاملة للحياة الفلسطينية المعاصرة ومحيطها العربي
*****
سنتي الأولى في المرحلة الثانوية كانت سنة الاضطرابات المتواصلة التي وسمت حياة سورية في المواجهة مع نظام أديب الشيشكلي الديكتاتوري. وقبل أن أجدني منخرطاً في هذه المواجهة، شأني في ذلك شأن العديد من التلاميذ، توجب عليّ أن أخوض مواجهة أخرى في المنزل. وكانت شهادة خليل جبري عن عملي معه وسلوكي خلال الصيف قد أقنعت خالي نافذ بأني أعود إلى الطريق المستقيم الذي يريده هو لي. وقد خفّ تشدد الخال إزائي، واستعادت علاقتي به تلك الموّدة التي افتقدتها منذ هاجرنا من بلادنا. لكن المشاكل تجددت في نهاية العطلة الصيفية حين صار عليّ أن أحدد الاختصاص الذي سأتبعه في الصف الجديد. كانت المرحلة الثانوية، في ذلك الوقت، تدوم سنتين وتضمّ فرعي اختصاص أحدهما علمي والثاني أدبي. ولم يساورني أي شك في أن رغبتي وإمكاناتي تؤهلني للانتساب إلى الفرع الأدبي. أما الخال فقد أصر على أن أنضم إلى الفرع الآخر.
كان لي منطقي الواضح والمحقّ بالنسبة لي. فقد بتّ أجد صعوبة كبيرة في هضم مادتي الفيزياء والرياضيات، وخصوصاً في حفظ القوانين والرموز وبالتالي معالجة المسائل، ولا يُستبعد أن تزداد هذه الصعوبة في السنوات القادمة. ثم إنني كنت، بالمقابل، متفوقاً في دراسة المواد الأدبية، بالإضافة إلى أن طموحي لدراسة الأدب في الجامعة كان قد تبلور بدرجة كافية من الوضوح منذ بعض الوقت. وما استجدّ في هذا الصدد هو تفكيري بأن أدرس القانون لأصبح محامياً. والفرع الأدبي يؤهلني للانتساب لكلية الآداب أو كلية الحقوق في الجامعة، فلا داعي، إذاً، لهذه المعاناة التي سأتكبدها حين أدرس العلوم. وكان لخالي، من جهته، منطقة الواضح والمتماسك. فعند الخال، ليست رغبتي سوى نزوة أوجدها تعلقي بهذه المطالعة التي لم يؤيدها هو في أي وقت، ومن الممكن لهذه النزوة أن تختفي عندما أكبر وأنضج وأعرف مصلحتي. وفي يقين الخال أن مصلحتى تكمن في دراسة العلوم، حيث تؤهلني الثانوية العلمية للانتساب إلى كلية الطب أو كلية الصيدلة، أي للظفر بمهنة من هذه المهن المحترمة التي حرمته منها الظروف. أما الصعوبة التي أجدها في دراسة العلوم فالخال ينسبها إلى إنصرافي أنا عن التركيز على هذه المواد واستغراقي في التركيز على المواد الأسهل، أي إلى إرادتي، وهو يجزم أن الذكاء والمقدرة لا ينقصاني، وكل ما ينقصني هو الإرادة والعزم على تخصيص الوقت والجهد للدراسة وليس لهذه المساخر التي يرى أني أنشغل بها دون طائل. وكان الخال يضيف إلى الحجج التي يوردها بهذا الصدد أن الشهادة العلمية تؤهلني، هي الأخرى، للانتساب إلى كلية الآداب أو كلية الحقوق إذا تمسكت بعد سنتين بالانتساب لواحدة منهما. وكان الخال يردد أني كنت، أنا نفسي، قبل أن يفسدني المشايخ ومساخر الأصحاب، متفوقاً في المواد العلمية وليس الأدبية، وحدها.
وأيّد أهلي كلّهم، بمن في ذلك جدّتي المتفهة وخالتي الحانية، وجهة نظر الخال. ولم أملك، في نهاية المطاف، إلا أن أرضخ. ولكن رضوخي عنى إنطوائي على آلام ممضة، وجعلني أحسّ بأني ضحية تزمّت الأهل وإصرارهم على أن يصنعوا مني ما يريدون هم لا ما أريد أنا أو ما تؤهلني له إمكانياتي. وهكذا، توجب عليّ أن أعاني الأهوال مع الفيزياء والرياضيات ومعادلاتها ورموزها التي توجع رأسي. وقد صرت واحداً من أضعف تلاميذ الصف العاشر في المواد العلمية، دون أن أكون بليداً أو خامل الذهن. وظهرت المفارقة سافرة إذ كنت، في الوقت ذاته، أفضل تلميذ في مواد اللغة العربية وآدابها والتاريخ والتربية الوطنية. بل إني كنت، حين يتعلق الأمر باللغة العربية، وخصوصاً قواعدها، أعدّ، في الصف ندّاً للمدرس ذاته، وكان المدرس والتلاميذ يعاملوني على هذا الأساس.
وفي تنظيم عرب فلسطين، كنا ما نزال تحت تأثير الخوف من انكشاف أمرنا. وقد تسبب هذا في تضاؤل النشاط الخاص بالتنظيم. وتزامن هذا الوضع مع اتساع العمل السياسي المعارض للسلطة في البلاد كلها وزيادة مساهمة المدارس والجامعة فيه. كل هذا أدى إلى اجتذاب عدد من أنصار التنظيم للانخراط أكثر فأكثر في الحياة العامة السورية وبهوت فكرة الدعوة للعمل الفلسطيني المستقل.
والواقع أنه كان من المتعذر الاستمرار في الترويج لفكرة العمل الفلسطيني المستقل عن مجرى الحياة العامة في البلاد بينما كان تأثير الديكتاتورية السلبي منصباً على الجميع، مواطنين ولاجئين. كانت النضالات التي تخوضها قوى المعارضة السورية هي التي تجتذبنا، بينما تدنى إلى حد كبير الاهتمام بالنشاطات الفلسطينية المنفصلة عنها. وكانت قوى المعارضة، على كل حال، تطرح في دعايتها التحريضية مآخذ كثيرة تمس مواقف الديكتاتور من القضية الفلسطينية وتَعاوُنَه مع الدول الاستعمارية التي تدعم إسرائيل. بل كان بعض القوى يتهم أديب الشيشكلي بالعمالة للمخابرات الأميركية والتواطؤ مع إسرائيل. وكان هذا كلّه يستخدم في الدعوة إلى تشديد النضال ضد الديكتاتورية وتحريض الجمهور، فيزيد انجذابنا، نحن الفلسطينيين، إلى نشاط المعارضة.
هنا، قد ينبغي أن أذكر لك أن هذا الجوّ اجتذبني أنا بأكثر مما اجتذب زملائي في التنظيم. كان هايل يدعو إلى أن نساهم في النشاط ضد الديكتاتورية على أن نفعل ذلك بطريقة تؤكد استقلالنا. وكان هذا رأياً وجيهاً. لكن التنفيذ كان متعذراً. فلم يكن حجمنا كلّه يسمح لنا بالتميز وسط المعامع الكبيرة التي تشهدها البلاد. وأصغر منه كان حجمنا في كل مدرسة على حدة. وإلى هذا كلّه، كانت هناك حاجتنا للتخفي. لا يعني هذا القول أننا لم نحاول أن نتصرف وفق اقتراح هايل. إلا أنني كنت واثقاً من أن أحداً غيرنا لم يحسّ بأن اشتراكنا في نشاط ينخرط فيه ألوف الناس كان عملاً مميزاً لتنظيم عرب فلسطين. يضاف لهذا أن الواحد منّا كان يشترك في النشاط الذي يدور في مجاله، سواء صدرت له بذلك تعليمات من التنظيم أم لم تصدر.
ومهما يكن من أمر، فقد وجدتني منخرطاً بكليتي في النشاطات التي تنتظم تلاميذ المدارس. وكنت مساهماً نشيطاً في حلقات النقاش التي تشهدها أروقة مدرستي كل يوم والمظاهرات التي تعاقبت بتواتر سريع منذ افتتاح العام المدرسي. وكان الجوّ في المدرسة جوّ غليان متزايد. فصار من شأن أي سبب، مهما ضؤلت أهميته، أن يحفز التلاميذ على التظاهر. وفي ذلك الوقت من عمر النظام الديكتاتوري، صارت كل مظاهرة تنتهي بصدام مع الشرطة، وصار المتظاهرون يظهرون جرأة أوضح وإقداماً أشدّ وشجاعة أكبر في تحدّي قوة السلطة.
كان النشطاء من التلاميذ المتصلون بهذا أو ذاك من أحزاب المعارضة أو زعمائها هم الذين يوجهون حركة التلاميذ الآخرين. وكانت المدارس الخاصة هي التي تأخذ في أغلب الأحوال المبادرة للإضراب أو التظاهر فتتبعها المدارس الحكومية. ففي المدارس الخاصة، تكون سطوة السلطة أقل، فالمعلمون أقلّ ارتباطاً بالحكومة وكذلك التلاميذ. وهنا، لا تستطيع دوائر التعليم الرسمية أن تفرض العقوبات المباشرة على المتهمين بالتحريض كما تستطيع أن تفعل بسهولة في المدارس الحكومية.
وكانت المظاهرات غالباً ما تبدأ على هذا النحو: نجيء إلى المدرسة في الصباح، فنعرف عبر التحريض الذي يبثه موجهو النشاط أن علينا التظاهر اليوم لهذا السبب أو ذاك. وتشيع روح الاستعداد. فما أن ندخل حجرات الدراسة حتى يبدأ صف واحد على الأقل بإنشاد النشيد المتعارف على أنه إشارة انطلاق: "يا ظلام السجين خيّم ..."، وتستجيب الصفوف الأخرى، فتصطخب أجواء المدرسة بالهدير الموحد، ويخوض كل صف مواجهته مع مدرّسه. فإن كان المدرس من أنصار المعارضة، وغالباً ما يكون كذلك، فإن الخروج من الحجرة يتم دون مانع. أما إن كان المدرس من الهيّابين فإنه يستدعي المدير. ومع الأستاذ سليم الذي يعرف عنه كل تلميذ أنه من أنصار المعارضة، كان الأمر ينتهي، بعد جدل شكلي قصير، بالخروج من الصف دون مانع حقيقي. وحين يستكمل الخارجون من الصفوف احتشادهم في الباحة فيما تستمر أناشيدهم المدوية، تنفتح البوابة الكبيرة، يفتحها تلاميذ مقدامون أو يفتحها بواب متحمس لهؤلاء الفتيان الذين يتحدّون سلطة لم يعرف هو في ظلها إلا العوز والكمد. وينبثق الجمع من البوابة وتمتد طوابيره في الزقاق، وتنفرد اليافطات المعدة مسبقاً فتعلوا الرؤوس، وتتردد الهتافات التي يحفظها التلاميذ عن ظهر قلب والأخرى التي يبتكرونها لهذه المناسبة. وقد أوجد تراكم الخبرات أعداداً كبيرة من الزجالين الذين يتفننون في تأليف الهتافات وتلحينها، وهي الظاهرة التي أعطت لمظاهرات دمشق سمتها المميزة المشهورة. ثم يأخذ الجمع مكانه في شارع سوق ساروجه، فيتسرب منه من يتسرب من التلاميذ غير الراغبين في التظاهر، وينضمّ إليه من ينضمّ من المواطنين الموجودين في المنطقة. ويتجه الجمع، أول ما يتجه، إلى الكلية العلمية الوطنية القريبة، ويكون تلاميذها قد سبقوا جيرانهم في الخروج إلى الشارع أو أصبحوا جاهزين في الباحة للإنضمام إليهم. ويكبر الجمع، وتتكرر الوقفات أمام كل مدرسة على الطريق، ويصبح الهدف هو التجهيز الأولى.
كان المتظاهرون القادمون إلى هذه المدرسة الحكومية الكبيرة يتجمعون في الفضاء العريض الممتد أمام المدرسة والذي يفصلها عن الجزء الشرقي من منتزه المنشية. ولأمر ما، كان النجاح في حمل هذه المدرسة على التظاهر من عدمه هو الذي يقرر نجاح المظاهرة كلها أو فشلها. والواقع أن الشرطة كانت تحشد قوتها الرئيسية أمام هذه المدرسة بالذات وتضرب نطاقاً حولها قبل وصول المتظاهرين من تلاميذ المدارس الأخرى. فهنا، كانت تدور، إذاً، الصدامات مع رجال الشرطة في أوقات التوتر: ينتشر المتظاهرون في الفضاء، ويُشاغِل بعضهم الشرطة، فيما يوالي الآخرون الهتاف وإنشاد الأناشيد كي يسمعها تلاميذ التجهير وهم في صفوفهم. وغالباً ما كانت إدارة التجهيز تبذل جهدها لتهدئة تلاميذها، فيما يبذل زعماء التلاميذ جهدهم للتغلب على الإدارة. وتفعل الهتافات المنطلقة في الفضاء فعلها في التحريض، فيقع الشرطة بين ضغطين، ضغط الخارج وضغط الداخل. وحين ينتهي الأمر بتغلب الشرطة يتشتت المتظاهرون، فتعتقل الشرطة بعضهم وينجو الآخرون، ويضطر تلاميذ التجهيز إلى الرضوخ. أما حين يتغلب المتظاهرون، وهو ما كان يحدث في أغلب الأحوال، فإن رجال الشرطة كانوا ينسحبون أو يفرّون، ويرفد تلاميذ التجهيز المظاهرة بجمعهم الكبير، ويَصيرُ الهدف هو الجامعة. فهناك بحرُ الطلاب الأشداء في مواجهة الديكتاتورية. ومن هناك ينطلق نهر المتظاهرين الذي ترفده الجداول القادمة من مدارس المدينة من شتى أنحائها.
كان الصدام مع الشرطة غالباً ما يتم بتبادل القذائف، يقذف التلاميذ جمع الشرطة بالحجارة، ويلقى هؤلاء الشرطة على التلاميذ قنابل الغاز المسيل للدموع. وكانت هذه القنابل شديدة التأثيرعلى المتظاهرين وذات وقع حاسم في تفريق صفوفهم وتشتيت المظاهرات. غير أن هذا لم يستمر إلا لبعض الوقت. إذ سرعان ما تعلم المتظاهرون سبل المناورة للتخفيف من تأثير القنابل والعودة للتجمع من جديد. كما تعلم هؤلاء كيف يمسكون القنبلة التي تحطّ بينهم قبل أن يفرغ غازها ويرمونها ناحية الشرطة ويتلذذون بالتفرج على رجال الشرطة المذعورين. ثم اكتشف بعض المتظاهرين السلاح المضادّ للغاز. وكان هذا هو البصل، فشاع استخدامه. وصار العازمون على التظاهر يجلبون البصل في حقائب الكتب منذ الصباح ويوزعونه على الآخرين قبل الشروع في الصدامات.
وبمضي الوقت، ومع تواتر المظاهرات والنجاحات التي يحققها المتظاهرون في التخلص من مطاردة الشرطة أو في إلحاق الهزيمة بهم، ومع افتقار الشرطة لحوافز الثبات في الصدام وتعجلهم الفرار، تضاءل تهيّب المتظاهرين وصاروا أشدّ جرأة.
أعطت مظاهرات طلاب الجامعة وتلاميذ المدارس الصورة الأشدّ بروزاً أمام الجمهور لمقاومة السلطة. لكن المظاهرات لم تكن الشكل الوحيد لهذه المقاومة ولا الحاسم. ولقد اتفقت الأحزاب والشخصيات الوطنية كافة على التعاون لإسقاط الديكتاتورية وإعادة البرلمان المحلول ورئيس الجمهورية المنتخب شرعاً. وكان من شأن المظاهرات أن تزعزع هيبة السلطة المهيمنة وتشتت قوى النظام. لكن الأمل بتوجيه الضربة النهائية انعقد على الجيش. ومن هنا، توحّد عمل المعارضة لزعزعة مكانة الديكتاتور في الجيش واكتساب أنصار للمعارضة فيه. وقد شاع في المدارس أن الأحزاب شكلت قيادة واحدة لتنسيق عملها وأن بين ضباط الجيش من يناصرون هذه القيادة، وأن الجوّ في الجيش يتحول بسرعة ضد الديكتاتور. ثم تواترت الأنباء عن ضباط معارضين يجري اعتقالهم وعن وحدات عسكرية تتمرد وأخرى يشيع التذمر بين صفوفها. وفعلت هذه الأنباء فعل السحر في تنشيط همم المتظاهرين وتشجيع الجمهور على إظهار سخطه وتوسيع دائرة المعارضين. تماماً كما أن جرأة المتظاهرين فعلت فعلها في الحفز على التذمر داخل الجيش وتوسيعه.
ولا بدّ من أنك تقدّر أني لم أكن في سن أو وضع يسمحان لي بالتعرف على دهاليز السياسة ومناوراتها في سورية. كل ما في الأمر، أو أهمّ ما فيه أن الانضمام لمقارعي السلطة كان يلذّ لي ما دامت هذه السلطة مبغوضة، وما دامت إجراءات قمعها تطال أعداداً متزايدة من الناس كل يوم. ولا أظن أن بين النشاطات العامة التي تستهوي الفتيان ما هو أمتع من مقارعة سلطة مبغوضة.
وها أنا ذا أتذكر تفاصيل واحدة من المجابهات الكبيرة. كنّا، كما تدل على ذلك الصور المختزنة في ذاكرتي، في فصل الشتاء. وقد علمت المدارس أن طلاب الجامعة يعتزمون القيام بمظاهرة كبيرة وهم يطلبون دعم تلاميذ المدارس. وفي الثانوية الأهلية, احتاج الأمر إلى وصلات قليلة فقط من "يا ظلام السجن خيّم ..." لنخرج إلى الشارع. وعندما بلغنا الكلية العلمية الوطنية، كان تلاميذها يتدفقون من بوابتها، فاندمجنا بهم. وسار الجمع نحو التجهيز الأولى. هناك، كان الفضاء مكتظاَ بالتلاميذ الذين قدموا من مناطق أخرى. وكان نطاق الشرطة المضروب على المدرسة محكماً. وعندما وقع الصدام الذي لا بدّ منه، انهالت رمايات التلاميذ على الشرطة من الجانبين، من داخل المدرسة ومن الخارج، واكتسح الطرفان حاجز الشرطة الفاصل بينهما، فانهار الحاجز بسرعة. ومن التجهيز، توجهت مظاهرة ضخمة نحو الجامعة. لم يمش المتظاهرون مشياً، بل جروا بأقصى سرعة وأشدّ عزيمة، فاكتسحوا في طريقهم حاجز الشرطة المقام في طرف الشارع المفضي إلى مدخل الجامعة. وهناك، عند المدخل، كانت الشرطة التي تحظر عليها الأنظمة دخول الحرم الجامعي قد أقامت حاجزاً ثانياً. وتوقعنا أن تنشب معركة حامية. غير أن الأمر جرى على غير ما توقعنا. فقد تنحى رجال الحاجز من تلقاء أنفسهم عن المدخل ، وأذن لنا بولوجه بسلام. وبانضمام الحشد القادم إلى الحشد الذي يكتظ به الحرم الفسيح، بلغت المعنويات أوجهاً، واشتد دوي الهتافات على نحو لم أسمع مثله من قبل.
وعندما أمكن تنظيم الصفوف، اندفعت من بوابة الجامعة طلائع مظاهرة هائلة الحجم. وفُردت فوق الرؤوس اليافطاتُ التي كتبت عليها شعارات المعارضة. وبدأت المسيرة الصاخبة التي فرض الازدحام أن تسير ببطء. وكنت ما أزال وسط الجموع التي لم تغادر الحرم، بعد، حين بلغت طليعة المسيرة المنعطف المواجه لتكية السلطان سليم. وقد تسنى لي أن أرى ما جرى من موقعي وراء سياج القضبان الحديدية الذي يطوق منطقة الجامعة. فقد انتظم عند المنعطف صفٌ من الشرطة وبأيديهم بنادق مسددة ناحية المتظاهرين. وعندما لم يعد يفصل بين الجانبين إلا مسافة قصيرة، دوى صوتٌ في مكبر للصوت، طالباً من المتظاهرين التراجع، وصدر الإنذار: العودة إلى حرم الجامعة أو إطلاق النار. وقد أهاج الإنذار متظاهري الصفوف الأولى بدل أن يخيفهم، فعرّى هؤلاء صدورهم في مواجهة البنادق، واندفعوا، وهو يهتفون بإيقاع مجلجل: "حريّة! حريّة! حريّة! ...". وأزّ الرصاص، فحصد عدداً من القتلى والجرحى. وإزاء انهمار الرصاص، تراجع المتظاهرون، وأغلقت بوابة الحرم. ووجدنا أنفسنا محاصرين فيه.
في ذلك اليوم، تواصل الاشتباك بين الطلاب والشرطة عبر السياج. وانهالت قنابل الغاز المسيل للدموع. وامتلأت الأجواء برائحة البصل. ومع انتصاف النهار، نفدت الحجارة التي هيأها الطلاب مسبقاً. فتكونت فرق مهمتها البحث عن حجارة وتوفير الذخيرة للمحاصَرين. وانضممت إلى واحدة من هذه الفرق. كنا ننحدر من الناحية الشمالية للباحة لتجميع الحجارة من طرف النهر الذي يفصل الباحة عن الملاعب البلدية، ثم ننقل ما نلتقطه إلى ناحية السياج، في حركة دائبة لا تتوقف. وكنت فرحاً بالمهمة التي أتولاها، وقد عددت نفسي، أنا القادم من الريف، خبيراً في إنتقاء الحجارة الملائمة للمقاليع. وبرع من الطلاب رماةٌ فائقو الدّقة، وأوقع هؤلاء إصابات موجعة في صفوف الشرطة. ولا بدّ من أن استمرار الرمي الكثيف قد أدهش الشرطة وأنهم اكتشفوا مصدر الذخيرة التي لا تنضب. فلم يلبث أن وجه هؤلاء قنابلهم الغازية ناحية ضفة النهر ما أوجب علينا أن نتسلح بمزيد من البصل الواقي.
في غضون ذلك، صبّ الشرطة الذين يحاصرون المكان نقمتهم على الطلاب الذين يغادرونه. لم يكن الطلاب كلّهم منخرطين في المواجهة. وقد آثر بعضهم الإنصراف كي لا يُحسبوا في عداد المتمردين. وهناك حتى من بين المنخرطين في المواجهة من توجب عليه الإنصراف لسبب أو لآخر. وكان على المغادر أن يمرّ، بالطبع، على حواجز الشرطة التي توزعت المنعطفات المحيطة. هنا، كان الطالب يتعرض لتفتيش دقيق واستجواب متعجل. وكانت لدى الشرطة قوائم بأسماء المحرضين المعروفين. وكانت الحقائب تفتش، وكذلك الملابس، والأيدي تُفحص وتُشمّ بحثاً عن آثار الحجارة ورائحة البصل. وقد انتشرت الأنباء عن اعتقالات كبيرة طالت من يستحقها ومن لا يستحقها من المغادرين.
وعندما حلّ الوقت الذي لا أستطيع أن أتأخر بعده في العودة إلى المنزل، برزت هذه المشكلة أمامي، فكيف أنجو من الحصار دون أن أقع في أيدي الشرطة؟ والحقيقة أني غالبتُ حاجتي إلى الانصراف فترة أخرى. ولم يلح في الجوّ ما يشير إلى أن الاشتباكات ستتوقف. وبالرغم من خجلي الشديد، تبعتُ حاجتي وفاتحت أحد الطلاب الكبار بهواجسي. انتقيت طالباً من بين الذين كانوا يوجهون النشاط. فسلمني هذا لطالب آخر أخذني إلى الحمامات. وهناك، تولاني آخرون، فغسلوا يديّ بإمعان وتشمّموهما، ونفضوا الغبار عن ملابسي، وعندما إطمأنوا إلى تغييب أيّ آثار أطلقوني.
ولما لم يكن في هيئتي أو سنّي ما يوحي بأني طالب جامعي، ولما كان اعترافي بأني تلميذ في الثانوي يعادل الإقرار بأني جئت إلى الجامعة من أجل التظاهر، فقد هداني الطالب الذي رتبّ أموري إلى الحكاية التي أرويها حين تستجوبني الشرطة. وهكذا، غادرت البوابة وأنا موزع المشاعر بين الشجاعة التي نمّتها المواجهة وبين التهيب الذي اعتراني لوجودي في الشارع وحدي. وعندما استوقفني الحاجز ورماني أحد رجاله بالسؤال المتشكك، قلت إني ابن الجنايني الذي يعمل في حديقة الجامعة. ورويت لسائلي أن أبي جاء بي لأساعده، ثم فرقتنا الأحداث، ولما فشلت في العثور عليه فقد قررت العودة وحدي إلى المنزل. ولا بدّ من أن هيئتي الزرية قد لعبت دورها في إقناع الشرطة بصدق الرواية، فلم يأبهوا لشأني، حتى لقد مررت دون أن أتعرض للتفتيش.
انتشرت حكايةُ المجابهة الجارية في الجامعة وتداول الناس وقائعها في منازلهم. واستمعت إلى أهلي وهم يتحدثون عن معركة الجامعة، دون أن أجرؤ على الإعتراف بأني اشتركت فيها. وفي الصباح، حين وصلت إلى المدرسة، كان التلاميذ في حالة غليان. وقد تقرر الاستمرار في التظاهر فلم ندخل حجرات الدرس، بل رحنا نتداول أنجح السبل للوصول إلى الجامعة المحاصرة كي ندعم الذين باتوا الليلة الماضية فيها. وكان هؤلاء قد استأنفوا الهجوم على الشرطة منذ ظهر ضوء النهار. كان من المتعذر أن نتوجه في مظاهرة ونخترق الحصار، فقد استنفرت السلطة قوات الشرطة كلها، وجاءت إلى المدينة بوحدات من قوات الدرك التي تعمل في الريف، وأقامت حواجز حصينة، ومنعت عبور الطرق المؤدية للجامعة. وعلى هذا، تقرر أن يتدبر كل واحد منّا أمره حتى نتسلل إلى الجامعة فرادى. وقد تحددت طرق التسلل التي اكتشفها منظمو الإضراب. فكان على البعض أن يعبروا مخاضات بعينها في النهر من ناحية الملاعب البلدية، وعلى سواهم أن يذهبوا للعيادات والمشافي التابعة للجامعة فيدخلونها بحجة أو بأخرى ويجدون هناك من يرشدهم إلى سبيل الالتحاق بالمحاضرين. وهكذا، وجدت نفسي في المعمعان من جديد، والاشتباكات دائرة على أشدها.
في هذا الجوّ، صمم الطلاب، هم الذين أمضوا أكثر من أربع وعشرين ساعة دون طعام، على اختراق الحصار مهما تطلب الأمر من تضحيات. ولم يكن النهار قد انتصف حين بلغ الحماس حداً لم يعد بإمكان أي تعقل أن يسيطر عليه. وهكذا، تجمع عند البوابة حشد كبير من الطلاب المقدامين، وقد تزود كل منهم بكمية وافرة من الحجارة. وكرّ هؤلاء في الطليعة، وتبعتهم الجموع في هجوم مفاجىء على الشرطة. وانهالت قذائف الطلاب على الحواجز بكثافة لم تُبق للشرطة فرصة للمناورة. وما هي إلا دقائق حتى خلت الحواجز من المتمترسين عندها. فرّ رجال الشرطة في اتجاهات متعددة، فتراجع قسم منهم ممن كان على يمين الحرم الجامعي ناحية الثكنات العسكرية المجاورة، وانحدر الذين كانوا عند نزلة التكية ناحية شارع القوتلي وتجمعوا وراء الجسر، وفر آخرون باتجاه وسط المدينة حتى بلغوا ساحة الحجاز وتجمعوا بجانب فندق الأوريان بالاس. وبهذا، انتقلت الحواجز إلى نقاط أبعد عن الجامعة. وسيطر الطلاب على المنطقة المخلاة، وصارت مباني المشافي والعيادات تحت سيطرة الطلاب.
صار الطلبة في وضع أفضل للمناورة. ووفرت منطقة المشافي الواسعة مصدراً طيباً للحجارة. وصار بإمكان الجائعين أن يحصلوا على طعام. كما صار بإمكان المجهدين أن يظفروا بالراحة. واطمأن الجميع على إمكانية توفير العلاج السريع لمن يتعرض للإصابة. وقد وفّر الوضع الجديد ميزة أخرى، لأن الطلاب صاروا على تماس مع حي الحلبوني السكنيّ وأهله المتعاطفين معهم، الأمر الذي سهّل الحركة عبر هذا الحي ودُورِه وأزقته لمن يحتاج لمغادرة المنطقة المحررة أو يرغب في المجيء إليها.
وفي هذا الوضع، حيث لا تستطيع قذائف الشرطة أن تحط إلا على أرض الشارع، لم يعد المتظاهرون كلهم مجبرين على التجمهر في مكان مكشوف. والحقيقة أن هؤلاء سرعان ما توزعوا إلى فرق. فراح بعضهم يناوش الشرطة على هذه الناحية أو تلك. وانصرف بعضهم لنقل الذخيرة والتموين من منطقة المشافي. ولجأ بعضهم إلى الاستراحة في أبنية هذه المشافي. وصار بالإمكان استبدال الفرق المجهدة أو الجائعة بأخرى ظفرت بالراحة والشبع. واستمرت الاشتباكات طيلة اليوم، ثم تجددت في الصباح مستهلة اليوم الثالث لإضراب الجامعة.
لم يقتصر تأثير هذا الإضراب على دمشق، بل حفز المدن السورية الأخرى على التظاهر. ووجدت السلطة نفسها بمواجهة تحركات واسعة ترغمها على تشتيت قواها. ولأن ولاء الجيش للسلطة لم يكن مضموناً بعد أن تكاثر ظهور المتمردين والمعارضين في صفوفه، فقد صرف الديكتاتور، والذي هو، أيضاً، قائد الجيش، النظر عن استخدام الجيش في قمع المتظاهرين. وبقيت المهمة في أيدي الشرطة والدرك. وكان المتظاهرون يتطلعون إلى كسب تأييد الجيش بالكامل، ويضعون في الحسبان تشجيع العسكريين على دعم المعارضة. وراعى المتظاهرون هذه النقطة مراعاة دقيقة، فامتنعوا عن التعرض للعسكريين الموجودين في الثكنات المجاورة. وكان هؤلاء يَعْبُرون المنطقة التي يسيطر عليها الطلاب بأمان شديد، يمرون بها مشاة أو في آلياتهم فلا يتعرضون لأي أذى. بل إن من المتظاهرين من كان يتقصد توجيه نداءات التشجيع للعسكريين. وشاع في أوساط الطلبة أن بعض وحدات الجيش يرسل موفدين من قبله للإطلاع عن كثب على ما يجري. فزاد الإهتمام بالعسكريين وغالى المتظاهرون في التعامل معهم بإيجابية.
أروي لك هذا كله لتعرف كيف أمكن للسلطة أن تفضّ الإضراب في نهاية المطاف. ففي ظهر اليوم الثالث، بدا أن قوى الشرطة التي تواجه الطلاب قد ضعفت. وأخذ الطلاب يفكرون بانقضاض جديد يوسعون به دائرة سيطرتهم وينقلون الاشتباكات إلى مركز المدينة. هنا، حيث كنتُ قد انضممتُ منذ الصباح إلى المتظاهرين، ظهرت قافلة من الشاحنات العسكرية بألوانها وأرقام لوحاتها المميزة. أقبلت القافلة من ناحية الثكنات وترادفت شاحناتها على امتداد الشارع الذي يشغله قاذفو الحجارة، سائرة بالبطء الذي تتميز به حركة القوافل العسكرية. وقد أفسح المتواجدون في الشارع الطريق للشاحنات، فيما راحوا يوجهون نداءات التحية والتشجيع لركابها. وفجأة، توقفت الشاحنات كلها دفعةً واحدة، وانثال من صناديقها أعدادٌ كبيرة من الرجال الذين تبين أنهم من الشرطة والدرك. واخترق هؤلاء فرق المتظاهرين الموزعة على امتداد الشاعر، وبدأوا حركة ناشطة للاعتقال والمطاردة. وكانت المفاجأة كاملة ونتيجتها مذهلة. فقد تشتتت جموع الطلبة المباغتة. وحُشر معتقلون كثيرون في صناديق الشاحنات. وأسقط بيد الجميع. ثم تردد هتاف واحد: "إلى المشافي، احتموا بالمشافي!".
جريت مع من جرى بإتجاه المشافي، دون أن أحدد مكاناً بعينه لألتجىء إليه. والكل كان يجري تحت وقع المطاردة المثابرة مؤملاً أن يبتلعه واحد من الأبنية المنتشرة في المنطقة. ولم أهتد إلى شيء أفعله سوى مواصلة الجري. وفي لحظة كان فيها أحد المسلحين يطاردني أنا بالذات ولا يفصلني عنه إلا مسافة قصيرة، رأيت يداً ممدودة من نافذة صغيرة في حجرة قامت منفردة وسط المباني. وكانت اليد تشير لي كي أجيء إليها. كانت الحجرة تعلو مصطبة تصلها بالأرض بضع درجات، فقفزت هذه الدرجات بنطة واحدة. وإهتديت إلى الباب المفتوح في الناحية الخلفية وألقيت نفسي داخل الحجرة، وانقفل الباب فوراً. وأغلب الظن أن المسلح الذي كان يطاردني لم يلمحني في تلك اللحظة التي انعطفت فيها إلى خلف الحجرة. لقد وقف هذا المطارد أمام المصطبة دون أن يصعد إليها، ولم يتمكن بالتالي من رؤية أي باب، ثم ابتعد من تلقاء نفسه. ولا بدّ من أن الرجل كان إما محتاراً أو خائفاً من اقتحام مكان مجهول. وأيّا ما كان عليه الأمر فقد نجوت من الاعتقال.
اليد التي هدتني إلى النجاة كانت يد فتاة في مقتبل العمر تشغل هذه الحجرة وتخيط فيها الأردية البيضاء التي يستخدمها الأطباء والممرضون. وكانت أم الفتاة التي ألفت أن تجيء لمساعدة ابنتها موجودة معها. وقد أنقذت المرأتان أربعة طلبة قبلي. وبإنضمامي إلى الجمع، صار من المتعذر أن تتسع الحجرة للمزيد. وقد توجس الذين سبقوني أن يعود مطاردي للبحث عني بعد أن رآني وأنا أختفي في هذا المكان، فبادروا إلى إتخاذ بعض الاحتياطات. بدأ هؤلاء بإطفاء نار المدفأة حتى لا يلحظ أحد في الخارج الدخان، وحمل اثنان منهم ثوبيّ قماش ووقفا بإزاء الباب متحفزين لتطويق من قد يقتحم الحجرة بهذا القماش. ودعينا جميعاً لالتزام الصمت التام حتى يمكن أن نتبين طبيعة أي حركة تدور قرب الحجرة. ووقفت الفتاة خلف ستارة النافذة لتراقب المحيط. والحقيقة أن المسلح الذي طاردني رجع بعد قليل وتوقف من جديد أمام الحجرة، فاشتدت الاستعدادات. لكن الرجل لم يطل الوقوف، وقد أنبأنا وقع خطواته بإنصرافه قبل أن تنبئنا الفتاة بذلك. فاسترخت الأعصاب المشدودة وأذن الجميع لأنفسهم بتبادل الحديث.
غمرتني لفتة الفتاة ومبادرة هذه الجماعة لإنقاذي بمشاعر دافئة؛ كان بإمكانهم أن يتجاهلوني فلا يجازفوا بلفت النظر إلى ملجئهم الآمن، ولكنهم جازفوا. وأحسست بإلفة شديدة مع المكان ونزلائه بالرغم من أني أراهم لأول مرة. وعندما قدمت لي أم الفتاة كوب الشاي الطافح، شعرت كأني أتناول الكوب من يد أمي وأنا جالس بين إخوة متضامنين. كان الجميع لا يعرفون كيف ستكون الخطوة التالية، وكان هذا الأمر يشغل تفكيرهم. أما أنا، وأرجو أن تفهمني حين أقول هذا، فقد تمنيت أن يدوم الدفء الروحي الذي توفر لي وأن لا تكون هناك خطوة تالية.
كنت بين الملتجئين إلى الحجرة أصغرهم سناً والوحيد القادم من مدرسة ثانوية. أما الآخرون فكانوا طلاباً في الجامعة. وكان من الطبيعي أن أُسأل عن اسمي واسم مدرستي وإنتمائي. وقد أجبت على الأسئلة، وأضفت، دون أن أسأل، أني فلسطيني. وشعرت بأن هذه الإضافة أحدثت وقعاً طيباً في نفوس مستمعيّ وسرني ذلك. ثم انطلق الحديث بمشاركة الجميع، وما كان ليدور إلا حول الأحداث التي تعصف بالبلد.
في غضون ذلك، اجتذب انتباهنا صُواتٌ نسائي جماعي ينطلق من المشافي المحيطة بنا ويتكرر بين وقت وآخر. ولا بدّ لك من أن تعيش في دمشق لتدرك كم تتقن نساؤها إطلاق الصُوات وكم يكون تأثيره عميقاً. والصوات، في العادة، يجيء حزيناً. أما الصوات الذي راحت تلتقطه مسامعنا فكان ممزوجاً بنبرة احتجاج لا تخطئها الأذن. وكان بإمكاننا أن نفترض أسباباً مختلفة لهذا الصوات، غير أن الرغبة في التيقن حرقت الجميع. وانتهى الأمر إلى قرار وافقت عليه الخياطة الشابّة وقبلته أمها بالرغم مما ينطوي عليه من مجازفة، فصار على الشابة أن تذهب لاستطلاع الأمر بنفسها. وهكذا، لبست مضيفتنا المقدامة زي ممرضة كاملاً، واستطلع أحدهم الفضاء أمام الحجرة فوجده خالياً، فانطلقتْ إلى الخارج. وعندما رجعت الموفدة للاستطلاع، كان في جعبتها حزمة من الأخبار. فقد اقتحمت قوات الشرطة والدرك، التي نشط عزائمَها النجاحُ في تشتيت المتظاهرين، منطقة المشافي والجامعة بكاملها واعتقلت ألوف الطلبة والأساتذة. ولأن في اقتحام الحرم الجامعي مخالفة صريحة للقانون، فإن عميد الجامعة الدكتور قسطنطين زريق قدم استقالة فورية ضمّنها احتجاجه الصريح على انتهاك السلطة لحرمة الجامعة. وأمعنت السلطة في انتهاك الحُرمات، فصدرت الأوامر للشرطة بإقتحام مهاجع المرضى لتصيّد المتظاهرين الذين اختفوا فيها. وقد اتضح أن ممرضات المشافي وأطباءها آووا الفارّين من وجه الشرطة. فلما بدأت الشرطة باقتحام المباني فقد أُلبس الطلبة أردية الأطباء والممرضين، أو وُضعوا على عجل في أسرّة المرضى وغُمروا بالأغطية. وحين انكشفت الحيلة، راح الشرطة يداهمون المهاجع ذاتها ويقبضون على المختفين تحت الأغطية. وكان اقتحام المهاجع هو مبعث هذا الصوات الذي تطلقه الممرضات تعبيراً عن الأسى والاحتجاج. وقد عرفت الموفدة أن الشرطة والمخبرين ضربوا نطاقاً حول المنطقة كلّها، وهم يعتقلون من يشتبهون به ممن يصل إلى أيديهم.
شيء هام فعلته الموفدة في جولتها الاستطلاعية هذه، فقد اتفقت مع صديقات لها على أن يبلغن إليها نبأ أي تطور جديد. وكان هذا مبعث الأمل بأن لا ننقطع عن الخارج.
ما أكثر الذي سمعته أو تعلمته خلال الساعات الطويلة في تلك الحجرة. ففي ساعات الانتظار الذي لا نعرف نهايته، امتدّ الحوار بين الطلاب الأربعة. وشكلت أنا والفتاة وأمّها جمهور المستمعين. وتصادف أن كل واحد من الأربعة كان ينتمي لحزب مختلف عن حزب الآخر. فتهيأ لي أن أسمع الآراء المتعددة، وأتعرف على خبرات متنوعة. كانوا جميعهم متفقين على ضرورة التعجيل في العمل الذي بدأ للخلاص من الديكتاتور، وبدوا واثقين من أن ساعة الخلاص قد اقتربت، ولكن أراءهم تباينت بعد ذلك. فجابر القادم من اللاذقية والذي ينتمي إلى حزب البعث ويدرس الحقوق كان يصر على أن تحرير البلاد التام لن يستكمل الإ بتحقيق الوحدة العربية وإقامة النظام العربي الإشتراكي الواحد. وكان جابر يعزو كل المصائب التي حاقت بسورية إلى بقاء العرب مجزئين. والطالب الثاني الذي نسيت اسمه، وهو كردي قادم من الجزيرة ويتحدث كما يتحدث الشيوعيون دون أن يفصح عما إذا كان منهم، كان يرى أن دوافع الصراع مع الديكتاتورية هي طبقية تماماً ولا دخل للشأن القومي العربي فيها، كما كان يرى أن ظفر البلاد بالديمقراطية سيساعد على تطويرها إلى الأمام، بصرف النظر عن مسألة الوحدة العربية. وأما الطالب الثالث، وهو ابن عائلة حلبية تعيش في دمشق وتؤيد حزب الشعب الذي ينتمي إليه رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان المخلوعان، فكان يتجنب مجادلة زملائه في آرائهم، دون أن يخفي عدم إيمانه بها؛ وكان يركز على ضرورة عودة الشرعية والحياةة البرلمانية العادية، ويرى أن عودتهما ستفتح المجال لكل صاحب رأي كي يعبر عن رأيه، وأن هذا هو مفتاح التطور. وكان الرابع دمشقياً أصيلاً يعرّف نفسه بأنه مستقل، ويضيف أنه من الذين يؤيدون الحزب الوطني. وكان متفقاً في الرأي مع زميله من حزب الشعب بشأن أهمية الشرعية والحياة البرلمانية، لكنه لا يؤيده في ضرورة إعادة الذين نُحوا من الحكام، بل يرى ضرورة بدء العهد الجديد القادم بإنتخابات جديدة. وكان الجدل يحتدّ في بعض اللحظات وترتفع الأصوات، فتضطر صاحبة المكان أو أمها، المتنبهة دوماً، إلى التذكير بضرورة الحذر.
لم تكن آراء البعثي أو الشيوعي جديدة عليّ كلية، فقد ألفت أن أسمعها من زملائهما في المدرسة. أما الجديد فكان ما يقوله الآخران. وقد تابعت الجدل بإنتباه، وكنت أجدني متعاطفاً مع الطالب اللاذقاني. وجاء وقت خجلت فيه من بقائي مستمعاً، فأردت أن أدلي بشيء يجعلني شريكاً في المناقشة. فقلت شيئاً عن ضرورة تحرير فلسطين. لم أقل الكثير، لكن ما قلته كان كافياً لإنعاش الجدل من جديد.
على هذا النحو، انقضت بقية النهار. ثم أخذ الظلام يجلي النور عن الحجرة. واقتضت دواعي الحذر ألا نشعل المصباح الكهربائي. وكنّا غارقين في العتمة والمناقشة التي تشعبت موضوعاتها، حين اخترقت طرقات على الباب الصخب الذي يملأ الحجرة. كانت تلك ممرضة قدمت لتنبئنا بما إستجد. وكان أهم ما أنبأتنا به الممرضة أنه صار بإمكاننا أن ننصرف. ولقد نُظمت الأمور مع أصحاب المنازل المجاورة لمنطقة المشافي بحيث يتسلل الطلبة الذين نجوا من الاعتقال عبر هذه المنازل. ووفق الترتيبات المعدّة، أُنزل إلينا سلم خشبي من المنزل المجاور فصعدناه. ثم هبطنا سلماً آخر فصرنا بين أهل هذا المنزل. ولقد تصرف هؤلاء الناس بحذر، لكن بمودة. وأفهمنا أهل المنزل أن نظام منع التجول مفروض على المدينة، وقالوا بصراحة إنهم عاجزون عن استبقائنا عندهم لكنهم واثقون من أننا نستطيع، بشيء من الحذر، أن نصل بيوتنا، وأرشدونا إلى الطرق التي عرفوا أنها أكثر أماناً من غيرها. وتسللنا عبر الظلام الواحد تلو الآخر.
وصلت إلى المنزل دون أن أهتدي إلى سبب يسوّغ غيابي الطويل. وكان أهلي، على كل حال، قد عرفوا أن المدارس أضربت منذ الصباح وتوقعوا عودتي المبكرة إلى المنزل، فلما تأخرت وافتقدوا آثاري فقد ركبهم القلق والهواجس. وعندما جوبهت بأسئلة خالي نافذ، لم أجد أفضل من أن أجهر بالحقيقة، فعلت ذلك بأوجز عبارة: "كنت في الجامعة مع المضربين".
وكان أن دخلت مع الخال في جولة من ذلك الجدل الذي لا يبيح لأي منّا أن يفهم الآخر أو يراعي مزاجه. لم يعترض الخال، هذه المرة. على مساهمتي في النشاط العام، أو قل: إنه لم يركز حديثه على هذه النقطة، فالانخراط في مقارعة السلطة كان قد غدا مبعث تفاخر، وكان خالي نفسه، بالرغم من أنه موظف حكومة، لا يخفي سخطه على السلطة. أما ما ركّز الخال عليه فهو كوني أصغر من أن أنخرط في أمور مثل هذه وأقل شأناً من أن آمل بدور لي في إسقاط النظام. وإزاء فكرة مثل هذه، مثيرة لحساسيتي ومهينة لمشاعري، وجدتني أزعق في وجه خالي: "أنا حرّ، أعملُ ما أقتنع به ولا يقيدني رأيك فيّ".
وانتهى الأمر بليلة أخرى من ليالي التشرد. ولكن الحال اختلف في هذه الليلة عن حال مثيلاتها السابقات. كنّا في الشتاء وبرده، وكان نظام منع التجول لا يسمح بالمجازفة بالتطواف في أرجاء المدينة ولا يأذن بفتح الجوامع في وقت مبكر. فلم أجد مكاناً ألجأ إليه سوى المقبرة. لقد كانت ليلة لن أنسى قسوتها طيلة حياتي.
...........................................................................................
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
في المستقبل سنعلن عن أسماء جميع المواقع التي تنقل عنا دون ذكر المصدر
ألف
***
نعتذر من القراء بسبب خطأ في العنوان فالذي استقال هو عميد الجامعة وليس الشيشكلي وجب التنويه
08-أيار-2021
26-شباط-2012 | |
27-نيسان-2011 | |
11-آذار-2011 | |
01-شباط-2011 | |
11-كانون الأول-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |