في هذا السياق، يأخذ "قليق التأثير"، البارادايم النظري الذي افترضه هارولد بلوم لتفسير النصوص الأدبية، المعاني الإشكالية. فهو يعمل في نظام مثاقفة في وقت صارع فيه الكتاب العرب للتغلب على والتخلص من والتسامي فوق ورفض تأثير الموديلات الغربية. وفي نفس الوقت، هو يعاني من قلق غياب التاثير، فهو ليس متجذرا في جذور الماضي. لقد أصبح التناص، داخل الثقافة الإسلام عربية أو بين الشرق والغرب، استثمارا مقصودا، يجري كتاب النصوص حساباته بحذر قبل إعدامه. وبواسطة ترتيب الأشكال والموضوعات والتقنيات واستيرادها من التراث الكلاسيكي والإرث الاستعماري، يحاول الكتاب العرب تصحيح شمولية "الذات". فهم يحاولون علاج الانقسام المفروض على ذاتية العرب- وهي مقاطعة للتواصل بين الماضي والحاضر- ومن خلال تكامل كليهما الوطني والتقاليد المستوردة، وبتحقيق أصالة متشابكة مع المعاصرة، وهو، مبدأ المعاصرة والانتماء للعالم.
وقد تحول الجيل المبكر من كتاب الرواية على نحو مبرر ضد التقاليد الحكائية بكليتها- وهو ما يسميه غالي شكري مخاصمات الحكاية(٦١)- وهذا لا يتضمن فقط ما نسميه الأدب الفولكلوري ( الأدب الشعبي) ولكن أيضا أعمال الأجيال الأسبق(٦٢). وعوضا عن البحث عن " الأصالة" في " الماضي" فقد وقفوا مع المشروع القومي في تفكيك الاستعمار ووهبوا أدواتهم الفنية لتصوير واقع المقاومة والحياة في البلدان المعنية (٦٣ ). والنتيجة إعادة تشكيل الرواية كما قال شكري: " فلا تاريخنا ولا أدبنا يحمل صدى التاريخ الغربي أو ثقافة الغرب. وفي الواقع لقد ألهمتنا أشكال الأدب (الغربي)، مثل الرواية والمسرحية والقصة القصيرة والشعر. ولكن الفكرة ( الموروثة) والمشاعر والشخصيات واللغة والمواقف والأحداث القومية والمحلية ساهمت بقدر كبير في إعادة تركيب الرواية والمسرحية (٦٤).
ما هي طبيعة التحولات المعاصرة في الموضوع الأيروتيكي؟
يمكن تلمس الإجابة في تلك المقاربات والدراسات الثقافية التي بدأت منذ فترة تتناول الأيروتيكية كمنتج ثقافي متحول يخضع لشروط الزمان والمكان.
لقد أصبح أيروس صورة تنتجها البنية السياسية والثقافية لمجتمع ما. إنها صورة تخضع لقوانين الإنتاج والتسويق الثقافي، وهي في جوهرها متحولة، غير ثابتة ولا تمتلك أي طبيعة جوهرية. وهي فوق ذلك كله تعبيراً ثقافياً عن علاقات السلطة والقوة في مجتمع ثقافي معين.وتشكل الثقافة الأمريكية في هذا السياق النموذج الأكثرتداولاً وقراءة في الدراسات والقراءات النقدية التي تقوم بمهمة رسم أبعاد التحول في ثقافة الرغبة بارتباطها
كانت كلمات ما أُغرمتُ به
بالنهاية،
كانت كلمات ما حطّم قلبي
أضف لذلك، إن خصوصية هذه المصطلحات تبقى مستترة باستمرار بواسطة أصولها الإنجيلية السائدة والمشتركة. في الإصحاح الثالث من كتاب التثنية ينبه موسى شعب إسرائيل ويؤكد أن من لا يحرص أن يعمل بكلمات هذا الناموس يبدده الرب في جميع الشعوب من أقصى الارض إلى أقصاها، وتعبد هناك آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك من خشب وحجر"*. ولو ترجمنا ما سلف بقراءة تفكيكية سوف يتبين أن الشتات يرتبط إيتمولوجيا بالكلمة الإغريقية speiro التي تعني "انتشار البذور". والضمير dia يقابله (over). والانتشار بالقوة سوف يعني إذا أنه مفصول عن وطنه الأصلي أو الموعود. وعليه سوف يكون منقولا إلى حالة منفى تشتتي، وهذه عقوبة مخيفة ترتبط ضمنا بالتجوال والهجرة، وهذا بدوره سيبدل من السلوك الاجتماعي، والتصرفات الثقافية والأخلاقية إلى أن يترك أثره على الشخص المنفي.
ينفرد الباحث شابيرو في الإشارة إلى حدثين قلبا الأوضاع رأساً على عقب في العام 1599، وكانت لهما دلالتهما المباشرة على إيقاع التوجهات المسرحية والأوضاع المالية وحالة القلق العميق التي خيمت على شكسبير في تلك السنة بالتحديد. أولهما، الفشل الذريع الذي لحق بالبلاط الملكي نتيجة للتقهقر الذي طرأ على الحملة العسكرية البريطانية لاخضاع ايرلندا. كانت الملكة اليزابيت تعلق أكبر الآمال على هذه العملية نظراً إلى حاجة بريطانيا القصوى لترتيب أوضاعها الداخلية قبل الانصراف إلى توطيد دعائم الامبراطورية في العالم. يرى الباحث أن هذه المفاجأة غير السارة أوقعت شكسبير في دوامة من الحيرة وعدم الاستقرار المالي والذهني والنفسي، بسبب تأثيرها الكبير على انتظام علاقاته المسرحية والاجتماعية بالبلاط الملكي، من جهة، وخشيته من تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد وتداعياتها الخطيرة على مسرحه والاستثمارات المالية التي وظفها فيه.
لكن الأرض صامدة.
و حراس الأبراج يلتهمون الشطائر.
في اليوم الثالث
فحص الجنود آذان
السقاة في البار، و المحاسبين، و الجنود الذين لا تريد أن تعرفهم.
انتزعوا زوجة باشا من سريرها مثل باب حافلة.
وفي اليوم السادس، ألحقنا اللعنة بالأرض فقط.
وهرعت روحي بقدمين حافيتين لتستمع إلى فاسينكا.
لم يعد عندي كلمات أشتكي بها،
واضح أن العالمَ محضُ محاكاةٍ، بمعنىً آخر، كلّ ما هو مرئيٌّ محاكاةٌ لآخر، أو هو الشيء ذاته بشكل مخادع.
منذ أن بدأت الجُمل "تدور" في العقول وِقفاً على استنباطها، ينتهي الجهد بتماثله الكليّ، بمعونةٍ من فعلِ الربطِ تربطُ الجُملةُ شيئاً بآخر؛ وتتّصل الأشياء كلها مرئيةً لو اكتشف المرء بلمحة واحدة وإجمالاً تقفّيه آثار خيط آريادني(*) الذي يقود الفكرة في متاهتها.
لكن فعل ربط التعابير ليس أقلّ توتّراً من وِصال الأجسام. وحين أصرخ "أنا الشمس"، ينتج انتصاب كليّ، ففعل يكون ليس غير عربة لسُعار شهوانيّ.
يعي كلّ امرئ أن الحياة محاكاة ولهذا يعوزها التأويل.
ولهذا فالرصاص محاكاة للذهب.
الهواء محاكاة للماء.
العقل محاكاة لخطّ الاستواء.
الجِماع محاكاة للجريمة.
وقد نقدّم الذهب، الماء، خطّ الاستواء، أو الجِماع، كمبدأ الأشياء.
وإن كان مبدأ الأشياء لا يماثل أرضية الكوكب الذي يبدو أنه القاعدة،
اموس رياض الشعري كبير كبر قلبه وروحه الوسيعة التي راحت تتجوّل في كل التفاصيل والمشاهد والملموسات السورية، ذلك أن شعر رياض هو شعر ملموسيات، شعر حواس ودفء إنساني، فهو يأسى حتى لمرآى النمل في سيرته اليومية، أحياناً يتناسى حاله أو ينسى نفسه كي ينأى بها لدرجة الإهمال، من أجل التحدث عن سوريا وناسها، سوريا ومصائبها ومحنها، عن سوريا وجمالها ووداعتها وجمال طبيعتها. فشعر رياض في هذه الأعمال الخمسة هو شعر جامع للأضداد وقادر على حمل المأساة في يد والملهاة في يد أخرى، إنه شعر تفصيلي يتداخل في المُعقَّد، يومي قادر على الذهاب في التجريدي، واقعي يوحي بالفنطازيا والسوريالية، يوتوبي وله قدرة على السكن في حارة دمشقية عتيقة، كما كان سكنه في غرفة رطبة ومهملة في منطقة الديوانية في دمشق، قرب العدوي. كانت تلك الغرفة خشبية إلى حد ما، لا تتوفر فيها وسائل الراحة والمنافع الصحية، باردة شتاء،
يغوص القارئ وهو يقلب صفحات الرواية بقصص شتى لنساء وأطفال ساقهم النظام السوري إلى السجون دون أي مراعاة أو شفقة ودون أي ذنب أو تهمة.
تسرد لنا هبة بتفصيل بارع دقيق معاناة المعتقلات، دموعهن، مرضهن وجوعهن، تحكي إضرابهن عن الطعام لأيام طويلة ولعدة مرات للضغط على السجانين لتلبية طلباتهن، لعبُ السجانين بمشاعرهن والكذب عليهن مئات المرات بصدور قرار الإفراج، عاطفتهن الجياشة عندما يرين طفلاً أو حتى قطة، منعهن من رؤية أقربائهن لسنين وسنين، لا يملك القارئ إلا أن يبكي وهو يرى ردة فعلها عندما تعلم بخبر مقتل أهلها جميعاً في أحداث حماه وهي تقول أن الله أحبهم فاصطفاهم للشهادة، فلماذا علي أن أحزن!