يذهب الصبي إلى بيته مع ابن مادلين التي يحبها، يجلسان على العتبة، الحمار الواقف منذ الضحى في الشمس ينتظر راعيه، ابن الفحّام يرمي منتصبه بحجارة تداويه، يبتعدان عن ذلك السفيه، يفترقان، تسأله مادلين عند العتبة:
_ هذا اسمك هنا بمجلة الموعد بباب التعارف؟!
_ أسمي.
_ تستلم رسائل من بنات؟
_ واحدة اسمها كريمة انقطعت.
_ لازم غازلتها.
و لكن الضباب، مثل عدو،
يتدحرج فوق البحر
و يخفي الغيمة الوردية،
ها هو الظلام
يأتي في أعقاب الضباب الرمادي،
يا له من صمت أسود
يغلف الروح و يحتويها،
كان الصمت غريبا. ولاحظ على وجه التحديد ، بالمقارنة مع آخر منطقة مر بها، أنه لا يوجد قطط ولا كلاب في أي مكان حوله. لا توجد ولو قطة واحدة تجلس على قمة جدار لا معنى له أو تدخل وتخرج من فجوات حيث توجد بالعادة نوافذ الأقبية. ولم يسجل أثرا لكلب واحد. لا فرادى و لا جماعات و التي حولت كييف إلى جحيم لفترة من الوقت. و كذلك لم يجد العصافير. كانت كل المدينة هادئة - كلا كان يرين عليها الصمت.
شاهد سينو أخبار التاسعة مساء و هو يأكل بنهم. و رأى مخططا فيه سهم يشير للأعلى و يوضح خبرا عن طريقة نمو الاقتصاد بأرقام مضاعفة مجددا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة. كان سينو يعرف هذه المعجزات الحكومية؛ شكل آخر من أشكال الواقع على الورق. و ركز تقرير آخر على تطور احتياطي الوقود. هذه الأكاذيب لم تعد تهم سينو. عيد ميلاد إيناسني يهمه أكثر. إيناسني بوجهه الجديد، دائما بقصة شعر قصيرة و رياضية، إنه رجل يميل للعبث و المرح و لا يوجد في العالم شخص يتفوق عليه بهذه الميول. لو اجتمعت كل قوى الشر لن تستطيع أن تمنع سينو دي فيتو من حضور الاحتفال
أنا الرجل السيء
كان عليّ أن أموت صغيرًا
قبل أن أعرف الأشجار الارهابية و مافيا السلام
وفاة بائع المرطبات على سكة القطار
و الغجرية التي أهدتني تعويذة و قبلة
و كثيرًا من الأكاذيب
أنا الرجل السيء
بالرغم من صمت إيفان، قرر عدد من الرجال أن يحذوا حذوه. كانت هناك عدة طرق للاقتراب من المهبط. اقترب أحدهم على ركبتيه، و ذراعاه يرتعشان. و رسم إشارة الصليب ثلاث مرات قبل أن يتمسك بالسلم الممدود. و قال آخر:" على أي ذنب تعاقبني يا ربي؟. إلى الجميم بكل شيء". و غاص في الحفرة ، بدأ بقدميه مثل جندي المظلات. و هناك ثالث وقف ينظر و هو يعب الفودكا، حتى ضاع رشده. ثم تدحرج نحو الحفرة كأنه برميل.
غادرت السرير، و لكن جلست قرب النار في طرف الغرفة، أنظر للفراش و النافذة. في الخارج اندلعت مشاجرة حادة، و ارتفعت الأصوات من الشارع. و شعرت بالبرد، و بدأت أرتجف، حتى دمعت عيناي. في فجوة الموقد توجد ثلاث قطع من الفحم المشتعل، كان الدخان ينبعث منها بكثافة. و تحتي وضعت وسادة أو " معطفا" مطويا، شيئا من هذا القبيل. و بدأت الغرفة تبدو أكبر حجما. نعم، يا لها من غرفة واسعة. كان قرب السرير صندوق خشبي مطلي بالبني و منخفض بمقدار قدم بالمقارنة مع ارتفاعي. و بطانية عسكرية حمراء ممدودة أمام قدم السرير.
كان قد قرر في آخر لقاء بينهما أن يكاشفها بأنه ما عاد قادرا على الاستمرار بالاتفاق المعلن بينهما، و بناء على طلبه، بأنهما سيكونان صديقين فقط، قال لها:
- أحتاج إليك، أحتاج في هذه الفترة من حياتي إلى امرأة أتحدث إليها، أحاورها، أنقل إليها همومي و إحباطاتي. أحتاج إلى صديقة تكون إلى جانبي و معي.
كان قد قرر أنه لن يحب مرة أخرى بعد فشل آخر تجربة حب له. ذلك الفشل الذي يعانى منه كثيرا. و لكنه يوما بعد يوم صار يكتشف أنه يهتم بها، و حين ضبط نفسه متلبسا بالتفكير بها عدة مرات، لأوقات طويلة من يومه، قرر أن يفاتحها بذلك.
لا أعلم إذا ما كان بإمكاني أن أبقى على صداقة معها. لقد فكّرت وفكَّرت بذلك. هي لن تعرف أبداً كم مرّة فعلت. لقد منحتها فرصة أخيرة. اتصلت بها بعد عام، لكني لم أحبّ الطريقة التي جرت بها المحادثة. المشكلة هي أنها ليست متنوِّرة كثيراً. أو عليَّ القول، إنها ليست متنوِّرة بالقدر الكافي بالنسبة لي. يناهز عمرها الأربعين عاماً، وليست متنوِّرة أكثر، كما بإمكاني أن أرى، ما كانت عليه عندما عرفتها أول مرة منذ عشرين عاماً مضت، عندما تحدَّثْنا، بشكل أساسي، عن الرجال. لم أُلقِ بالاً على درجة قلّة تنوُّرها في حينه، ربما بسبب أني لم أكن متنوُّرة أنا نفسي
لو عاد الموتى لإلقاء نظرة أخيرة في أرجاء
البيت الذي كانوا يمتلكونه في حياتهم، بعناد
يتخطونك صامتين، و يتركونك وحيدا
و غبيا في الصالة، دع تلك اللحظة تمر و تنقضي
ثم قدم لهم مقعدا، أو رافقهم لكل
الحجرات التي كانوا يعرفونها، مع أنها ليست مكتملة.
كم يبدون من خارج المكان، ها هي تيجانهم المصنوعة من الورق و المحارم،
و ثياب الأحد الموضبة للمرح أو للمشي و هم يغرقون بالأحلام.