دون كلل أو ملل أو يأس.. يقف كل صباح تحت شرفة قصرها الخيالي.. أو.. تحت نافذة مخدعها التي تفوح منها رائحة الرفاهة الملوَّنة، ويصرخ بأعلى صوته: "أنتِ مدينة لي بالكثير.. الكثير، وأنا لا أطالب بديوني كلِّها، ما أرجوه منك هو أن تقفي على شرفتك كلَّ صباح، أو تطلّي من نافذتك، فتطيِّري نحوي قبلةً في الهواء، أو تشرقي عليَّ بابتسامة صغيرة تمنحني بعض القدرة على متابعة يومي، ابتسامة صغيرة فقط، أيتها الحياة أو.. قبلة في الهواء"
أعلم أن دمي الذي أحبه ، دمي الذي لفرحي ونشاطي وعشقي ،
دمي الذي امتد بطول أيام لي ورافق كل تفاصيل النضج والتهور، كل المشاوير والمخاطر والقصائد والطموحات والكوابيس.. وذاق معي غصة الهزيمة ووخزة الوحدة وسـُمّر معي بشكة الرعب ، دمي الذي ضخ في عروقي كل الدفء والعنفوان ولازمني حتى الاعتصار ..حتى لهفة الإنتظار ووجع الغياب ..
دمي الذي علمني الرقص والسباحة في دماء من ضم الروح إليه في عناق وكل طريق ليكرر بجدية كم ضاق الجموح به حيز نحول حشي ، دمي الذي يشبه نزفي ونزقي ،الذي وحده يشهد لي أني أنا هي بعينها بملء السر والوجع والشموخ .. يعلن عليّ الآن التمرد علانية ، ورغبته الملحة والمكثفة والتى باتت تلاحقني مطلع الوريد ..طموحاته فاقت حدود الشريان .. دمي ينشد الانفجارمني ،يسعى للامتداد عني ..
أتعرف حقاً يا سيرجي من ألقى بقنبلة ذرية فوق هيروشيما في الحرب العالمية الثانية ، انه " بول تيبيتس "، أتعرف ماذا يعني أن يخرج طيار إلى أرض المطار مرتدياً خوذة ونظارة ، كان هذا قبل نشوء الأمم المتحدة ، كانت الحروب تغزو العالم يا سيرجي ، خرج الطيار وتزود بحاجياته ، حتى أنه اشترى أعوادا لتنظيف الأسنان بعد الوجبات الحافلة ، أتعرف يا سيرجي أنه صعد إلى الطائرة التي تحمل القنبلة ، متجها إلى مدينة يقطنها حوالي مليون ونصف شخص لا تعنيهم هذه الحروب ، ثم قام بإلقاء القنبلة فوق رؤوسهم ،
ها أستَودِعُكِ شَجَراً وغُيُوماً، أستودعكِ بُيُوتاً وادِعَةْ، تَلوِيحَةً في الممرِّاتِ القَديمةْ، وأراكِ في الأَبَدْ، في الأوقَاتِ الممحُوَّةْ، وأراكِ دُرُوباً تَنحَنِي للجَنُوبْ، وأرَاكُ غُصُوناً في شَتلَةِ العُمرْ، وأراكِ جُسُوراً في خَاصرَةِ الغِياب، وأنتِ المدينةُ غَالِيةْ، تملأينَ الوقتَ قَمْحَاً وحَكَايَا، وتدسِّينَ في القلبِ سَلامْ..
ثمَّ ها تنهضينَ كالفجرْ، تنزلينَ مَطَرَاً نَاعِماً، وتظلِّكُ العناصِرُ كلُّها، ترفُّ حَولَكِ الحَمَائمْ، ولا تزالينَ النديَّةْ، ولايزالَ الطَّريقُ غيابَاً إليكِ، ويجيئكُ النَّاسُ في القحطْ، ويأخذكِ الليلَ إلى أنجمٍ ساهيةْ..
وها أستدلَّ عليكِ بالسَّنوات، بحافَّةِ الرُّوح، بالبلادِ المريرة، وأقولُ لعلَّكِ الحياةْ، لعلَّ الحياةَ هَكَذَا، وأشتاقُ دروباً أبديَّة، أشتاقُ طُفُولةَ النَّهارَاتْ، وأظنُّك خُبزَ الحياةِ القليلْ..
وأما أنا
فذلك السجين
الذي مات متأثراً بصمته
كم كان سجيناً!!
كم كان شجاعاً بما يكفي
ليصمت
* * *
ذلك المقاتل
الذي نسي وردته على العتبة
حين هرب إلى الحرب
ثم
عاد
شجرة يابسة
لا أخفيكم سرا ً أن صديقي المتمرد الذي أنجبته شوارع بغداد وأزقة الصعلكة، كان في فترة من الفترات تلميذا نجيبا ً للشيوعية والفكر الماركسي، وكان متأدلجا ً بامتياز، لكنه تمرد على الشيوعية وتبنى أفكارا ً ومدارس أخرى كالعبثية والعدمية والوجودية ...الخ، ومن ثم تمرد عليها أيضا ً وتمرد على نفسه وعلى جميع المثقفين، حتى لم يعد يرى من الثقافة إلا الجمال فقط، ولم تعد له هوايات محببة غير التعرف على النساء الجميلات، وخوض المغامرات غير محسوبة الجوانب معهن.
حدثني هذا الصديق ذات يوم قائلا ونحن نمشي في شارع طويل يعج بالمارة وضجيج العابرين:..الم تر يا صديقي أن الزواج في زماننا هذا أصبح تجارة ودعارة
أبدأُ
بضجيج الفضوليِّين في عظامي.
بالمدن التي لا تحتضن عُشَّاقَها في الحرب والسِّلم.
بالريح المتكوِّرة خلفَ الباب؛ خوفًا على حياتها.
بالمطر العطشان، مقتولا بالشَّهوة، ولا يطرق الأبواب.
أبدأ
بالبرتقال المُقشَّر
بحوض الأسماك الصغيرة، مندلقًا على سطحٍ أملس
بصورة رجل يضحك
بـ "هزيمة القوى العظمى"
ثم دعوه لقضاء سهرة فنية حلبية ليُسمعوه روائع الفن الحلبي، أسوة بالطرب المصري الذي قدمه لهم وكان على رأس الحضور يوم ذاك الشيخ علي الدرويش والشيخ عمر البطش. واستمع محمد عبد الوهاب مطولاً إلى وصلات من الموشحات وانتشى طرباً. ويبدو أنه أراد بعد أن خضع لامتحان فناني حلب الصعب، أن يمتحنهم بدوره ليدلل على مدى تعمقه في الموسيقا، فسألهم في نهاية السهرة التي امتدت حتى الصباح أن يسمعوه موشحات من نغمة السيكاه الأصلية التي لا تخالطها نغمة الهزام.
ي مثل هذا اليوم 22-04-1999 ولدت ابنتي سماء، يقولون عن بقائها حيةً بعد ولادتها "معجزة". كانت قد أتمت في رحم أمها أسبوعها الـ 26 فحسب، أي أنها "سبيعية" .
في المشفى، في دمشق، حيث كنت أسكن، قال الطبيب قبل ولادتها "الجنين ميت، سوف نخرجه" لكن هذا الجنين بعد خروجه بكى...فصرت أباً.
كان وزنها عند الولادة 1100 غرام، وضعوها في حاضنة، تطلبت منا بيع مصاغ زوجتي، كله. ثم قال لي صديقي:
كمّمتُ أفواهَ الفراشاتِ عن الرحيقِ
كي لا ترتشفَ ربيعكِ
وطاردتُ الحقولَ العمياءَ بمرآتي