أمجد ناصر )إلى بسام) الريح قوية في الخارج. ولكنك لن تعرف ذلك. لن يهمك بالأحرى. فأنت بعيد، أصلاً، والريح هناك غير الريح هنا، فلن ترى، والحال، تمايل رؤوس أشجار السرو والتنوب التي أراها من نافذة مضببة. ليس غريباً أن تعصف الريح وتشتد هذه الأيام. إنه فصل الشتاء. الشتاء هنا عاصف
الخبر الذي جاء برحيل القامة الروائية العربية الطيب صالح ، خبر تتحدد مأساته وكارثيته بالكثير من المعاني ، أولها أن نفقد في هذا العام الكثير من النخب العربية ورواد النهضة والتنوير ، من رحيل المفكر والباحث المناضل محمود أمين العالم الذي أغنى وأثرى المكتبة والفكر العربي بأبحاثه ومؤلفاته ، إلى رحيل عبد العظيم أنيس الذي وسع من دائرة الجهد والبحث في الفكر العربي ، واليوم نفقد شجرة الرواية العربية ، الطيب صالح ، وتعبير شجرة أجده من الصفات التي تلبس الطيب الذي أينع وأثمر في سياق المشروع التنموي التنويري الحلم ، المشروع الحلم لأنه لم يتحقق ، والطيب صالح واحد ممن كرسوا جهدهم وعملهم لهذه النهضة التي سترفع من سوية الأنسان كقيمة عليا تنشد الحرية والعدالة والهواء النظيف بمعنى الحياة التي تنموا لتنتج وتبدع وتعمر وتبني لتشكل الحضارة وتشيد ثقافة الحياة ، أخفق المشروع وأصبحت كل القيم التي انتمى إليها الطيب قضايا خاسرة ،
رغم تعدّد وسائل الإعلام وتعدّد أدواتها وطرائقها وتقنياتها فإنّ وسيلة أو أداةً ما تطغى في فتراتٍ معينة وتزدهرُ، وهذا لايعودُ فقط إلى مدى نشاط وتكرّس المؤسسة التي تنتجها وإنّما أيضاً إلى ظروف المتلقي. وسط ضجيجِ الكلمات وصراخها العقيم انصرفَ الكثيرون عن متابعة السياسة، وتوقفوا عن الإيمان بأشياء كثيرة. كان لابدّ لغزّة الجريحة النازفة أن تجدَ لساناً يوصلُ صوتَ أنينها إلى العالم. هكذا برزت الصورة بقوّة كأداة تواصلٍ مباشرة وجليّة وحاسمة. التقطها المصوّرُ بسرعةٍ وأرسلها إلى شاشات التلفزة والصحفِ والانترنت.. بضعة صورٍ من الواقع اليوميّ للإرهاب الصهيونيّ والنزف الفلسطينيّ لادورَ لتقنيةِ المصوّر في انتقائها أو معالجتها تجاوزت ماأنتجه المعجمُ الإنسانيّ وماتخطّه الأقلامُ المدرّبة. لحظاتٌ فقط أمام شاشة التلفاز أو بريدنا الإلكتروني كانت كافية لنبكي طويلاً.. لنعترفَ بضعفنا وعجزنا كمتفرجين سلبيين. صورة واحدة لطفلةٍ مخترقة بالرصاص أو مبتورة الأطراف جرّدت
في مقالي السابق، الذي بكيتُ فيه جمالَ مصرَ القديمَ حتى الستينيات الماضية، الذي اِستُبدِلَ به الآن قُبحٌ على كافة الأصعدة، البصرية والسمعية والفنية والسلوكية والفكرية والبيئية والسياسية، عاتبني بعضُ الأصدقاء لقولي إن الراقصةَ في أفلامنا القديمة كان راقيةً سلوكًا ولفظًا، قبل أن تدهمَ مصرَ تلك السوقيةُ التي نخرتِ الشارعَ المصريّ، الذي كان بالأمس أحد أجمل شوارع العالم. قالوا في تعليقاتهم إن الرقصَ ابتذالٌ وعهرٌ! وتساءلوا كيف لكاتبةٍ مثلي، جعلتِ المرأةَ والارتقاءَ بها قضيتَها الأولى، أن تقول إن الرقصَ فنٌّ راقٍ؟! والحقُّ أن لا شيءَ رفيعٌ في ذاته أو مبتذلٌ. الرقيُّ والابتذالُ يحصلان من كيفية تناول هذا الشيء، وأسلوبية صناعته. كلُّ فنٍّ حقيقيّ هو بالضرورة راقٍ، وكلُّ زائفٍ هو ركيكٌ ومبتذلٌ،
جوليانا.. المكان المستقطع من الجغرافية.. قطعة من حكايا المهاجرين.. ليس أولئك المهاجرون المرميون على حافة (باربوس) الباريسية، كما ليس مبدان زمالك القاهرة وقد تحول الى ثكنة لأجساد ممزقة ترفع طلباتها مكتوبة لمنظمة الهجرة الدولية مطالبة بمأوى خارج حدود دارفور وقد اقتلعوا من مزارعهم..
مهاجرو جوليانا:
- أطباء.. محامون.. رجال أعمال و : راقصة شرقية تعلن من شيكاغو بيانها الاول.. بيان جسد يلقي بلغاته فوق ليل مدينة تتناثر الى (17) مليون ساكن
:عرب، مكسيكيون، لاتين، وأفارقة منحدرون من قارة انتقلوا الى قارة والاغلال بأيديهم، فأنجبوا فوق أرض الوعد:
صباحاً يخدش صمت المكان صوت أنثوي صارخ.. أنت لا تعرف المغنية، لكن الصوت إضافة حقيقية للعفاريت الطالعة من رأسك.. "اسمع بس اسمع" تقول الأغنية، وأنت تتأفف وتقول في نفسك: ولماذا لا تسمع هذه التي تغني!!
لا أحد يعرف حتى هذه اللحظة لمن يكون الصوت، بإمكانك أن تتمهل قليلاً، وأنت تمشي بقدميك على أرضية الصالون، فدبيب قدميك يكدّر صفاء صوت هذه المغنية الخارج من بيت الجيران،
يمكنك أن تسأل ببعض المثاقفة والمزاج الهادئ عن هذه القدرة العجيبة على استبدال صوت فيروز بهذه المغنية المجهولة .. لستَ من أنصار باخ وشوبان وشوبنهاور وموتزارت، إنهم عباقرة، ولكن سعدون جابر أهم بالنسبة لك وذياب مشهور لا يقلّ قيمة عن هذا الأخير -
اللحظة التي تنبه الكاتب فيها لظله على الحائط، أثناء تسكعه في مدينته، هي لحظة نادرة في حياته الجديدة، وممارسة التسكع مقترنة بالأدباء الذين يحتاجون إلى نبش مدنهم بين الفينة والأخرى، كممارسة إجرائية، حتى لا تنسى المدن أبناءها المرتحلين. ثمة شعور غامض يؤرق خيال الأديب، كأن يتوجب عليه أن يرد جميلاً ما للمكان الذي كبر أو ترعرع
عن رحلةِ أدائِه العُمرةَ، كتب الشاعرُ بهاء جاهين مقالا في الأهرام قائلا في نهايته: "نحن شعبٌ جميلٌ متحضّر. مازالتْ فينا عذوبتُنا الكامنة. إنه الفقرُ وغيبةُ سيطرة الدولة(القانون لا الأمن) هو ما أدي بنا إلي التزلّف والبهلوانية وفلسفة الهراء التي أبدعت الموسيقي المنحطّة والرقصَ المتهتك والكلماتِ التي تجتهدُ أن تصلَ إلي مَثَلٍ أعلي من السوقية. ليس المصريون من السوقة. فلماذا نُصِرُّ علي أن يرانا الناسُ رعاعًا مُنْحلّين؟ عندما كان عبد الوهاب وأم كلثوم والسنباطي وزكريا أحمد وبيرم يحيون ويبدعون بيننا (أغفلَ الابنُ، حياءً، ذِكْرَ الأبِ العظيم صلاح جاهين، أحد أهمّ رموزنا), كان المصريُّ عملاقا في عيون العرب. فكيف غدوا يروننا، في زمنِ أقزامِ الفنِّ، أقزاما؟!"
ذكرّني مقال جاهين برحلتي قبل سنوات للمغرب. أخبرني استقبالُ الفندق أن بعض أدباء المغاربة الشباب جاءوا لتحيتي. وبمجرد أن نزلتُ ابتدرني شاعرٌ: "إزيك يا أُختي؟" (مع مَطِّ حرف الياء في كلمة "أختي"،
أنا و أنت أكثر من إنسان , فيمكن لنا أن نعرف أنفسنا بتعريفات عدة تشكل معا "حقيقة هويتنا" , مثلا أنني سني , أنك شيعي أو مسيحي , هذا يجعلنا بالتأكيد مختلفين , أصدقاء أحيانا و أعداء في أحيان أخرى , حسب تفسير من يملك الحق في تفسير "هويتنا" هذه , أي وفقا لآخر فتاوي رجال الدين الشيعة أو السنة أو المسيحيين , في الحقيقة قام حتى اليوم عدد محدود جدا جدا من البشر , مقارنة بمن عاشوا و سيعيشون على هذه الأرض , بتحديد حقيقة هذه الهوية من جهة و بتحديد مضمونها و نتائجها , و بتحديد التصورات محدودة العدد الموجودة اليوم عن الحقيقة المطلقة , فعلى سبيل المثال ما يعنيه أنني سني أنني أقبل و أعتقد بالتصور الذي وضعه رجال الدين السنة عن العالم , عني , عنك , عن الآخرين , و أن أرى أنه تصور حقيقي , يعبر عن الواقع , و أنه علي أن أتصرف كما يقولون لي , هكذا على الأقل سيتصرف المؤمن المخلص , سواء أ كان سنيا أو شيعيا أو مسيحيا أو حتى علمانيا يهتدي بحكمة و توجيهات سادته الفكريين الذين يحلون
ودّعتُ البياضَ الذي يمتدُّ فوقَ المحيط .. آلافَ السحبِ التي تعبقُ عيونُها بالدمع ،و طرتُ بقلبٍ نديٍّ إلى دمشقي .عبرَ ساعاتٍ طويلةٍ من الرحلة الشاقة بين المطاراتِ و صوتِ المضيفةِ يطلبُ بين حين و آخر ربط الأحزمة كان الخوفُ ألاّ أصلَ دمشقَ يندلعُ داخلي كنارٍ مزمجرة ، و على ألسنةِ القلقِ راحتِ الذكرياتُ تنهضُ وئيدة . تفتحت مساماتُ القلبِ و سرى اشتهاءٌ لكلِّ تفاصيلِ الوطن.. حاراتِه النائمةِ في سكينة.. أماكنِ التقاءِ الأحبّة و الأصدقاء.. عذوبةِ المطر يهمي و يوشوشُ الأرصفة في حياء .قبلَ يومٍ من مغادرتي للولايات المتحدة تهتفُ لي صديقتي العائدة توّاً من إجازتها في دمشقَ بعد غيابٍ عنها سنواتٍ طويلة : "هيّئي نفسك للصدمة ! التلوثُ .. شيءٌ مرعب !". أدّعي أنّي لم أنقطع عن قراءةِ