وتتمنى لو أنها رافقت ولدا مثل هذا حينما كانت أصغر بالعمر، بحيث لا تتلقى اللوم مع أنها قرب نور مكسور في الشارع. والهواء يعصف بهما، ويصلهما صوت خطوات في الشارع، ويعمدان لستر ما أمكنهما ستره. عموما ذلك المخبأ لم يستر شيئا. كان البيت كما تركناه، و تبدل بمقدار ما لاقيناه من برد خلال تلك الساعات المنصرمة، كان كل شيء نائما وضوء غرفة المعيشة غير واضح بما فيه الكفاية ليعيد كل شيء إلى الحياة. أشعلت النار وتخلصت من معطفها. كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة. قادتني إلى غرفتي وجهزتني للسرير. كانت ملاءاتي باردة لأنها نظيفة، وكنت لا أزال متوترا من النار.
ج- ربما يجب أن أكشف لك المزيد عن ظروف كتابي الأول. شيء عن وصولي إلى تيرانا وذلك اللقاء في دار النشر. هناك، قابلت محررا مسنا تقريبا، وقد نظر لي بمزيد من الفضول، بعد عدة همهمات- هممم، هممم- صدرت عنه تلقائيا. نظر لي مباشرة وسألني: هنا لديك قصيدة قصيرة عن باريس. كيف واتاك التفكير بها؟. هززت منكبي، كما لو أنني أقول: لا أعلم. والحقيقة، في مخطوطتي توجد قصيدة باريسية مختصرة. وعن رغبتي بزيارتها ذات يوم. هز المحرر رأسه وقال: اسمعني أيها الشاب. أنا لا أجبرك على حذفها من كتابك، ولكن يجب أن أسألك: هل بمقدورك كتابة قصيدة عن موسكو؟. على سبيل المثال عن فتاة من موسكو كنت تتبادل معها في أيام المدرسة رسائل الصداقة. هل لديك شيء من هذا القبيل؟. والواقع كانت لدي صديقة تدعى لودميلا وكنت أبادلها الرسائل: مثلا..
.
(6) : الشعر يُحل ذاتاً غريبة محل الذات الخاصة.
(7) : العبقري هو نفسه شاعري ـ هنا حيث يقوم العبقري بشيء ما ـ فإنه يفعل ذلك بطريقة شاعرية. الإنسان بشكل خاص، مفكر وشاعر.
(8) : البداية الأصلية هي شعرية الطبيعة. النهاية والانطلاقة الثانية ـ هي شعرية الفن.
(9) : قديما، كان كل تجلي روحانيا. الآن، لا نرى سوى تكرارا ميتا والذي لا نفهمه. دلالات هيروغليفية ناقصة. لانزال نعيش على فواكه أفضل الأزمنة.
أوقفوا السيارة أمام بيتهم. و حملوا أشياءهم من صندوق السيارة. و حاولت المرأة أن تنظر في عيني الرجل، و لكنه لم يكن مستعدا للنظر في وجه أحد الآن، كان ممزقا و مضغوطا. لفت المرأة الطفلة بذراعها. و انفجرت الطفلة بالعويل. بكت كأنها لم تبكي منذ كانت رضيعة، و أعولت بقوة دون أن تلتقط أنفاسها للحظة. و طمأنتها أمها، و حاولت أن تضحكها. و صعدوا إلى البيت ببطء، و أخيرا أجبرت المرأة ابنتها على الضحك، و أخبرتها أنها تفخر بأبيها و عموما لا يوجد غير عدد محدود من الأشخاص يستعملون هنا الكلمات النابية مثل"هراء" و "أخرق"، و ربما لم يجدوا من يعلمهم ألفاظا أفضل. و دخلوا إلى البيت، و كان الأب بمعطفه، و رتب الأشياء خارج الأكياس، و جهزت الأم الحمام للبنت.
على أنني ما لبثت أن ضقت ذرعا باختلاف الفلسفات وتعارضها، وتبين لي أن تاريخ الفلسفة قد ترك لنا من الفلسفات على قدر ما كان لنا من فلاسفة، وكل فلسفة تدّعي لنفسها امتلاك الحقيقة وتهدم ما بنته الفلسفات السابقة، وكل فيلسوف يعمل على تفنيد من سبقوه ليقع بعد ذلك ضحية للتفنيد بمن أتوا بعده.
وباختصار، فقد تركتني دراسة الفلسفة في حيرة لا تقل عن حيرتي قبل دراستها، وتلاشى حلمي في فلسفة إنسانية متّسقة تعمل عقول البشر على بنائها في تعاون وتناغم وتجاوز مبدع، بحيث يكمل كل جيل ما انتهى إليه الجيل السابق. وهو حلم مغرِق في الرومانسية على أية حال. خيبة الأمل هذه دفعتني في اتجاه دراسة تاريخ الأديان.
الابن الهارب
لا يعود أبدا
إلى بيته.
و كنوزي
هي غيمة في الأعالي
و القمر المتلألئ فوق الوادي
يرحل للشرق أو الغرب
مشرقا و حرا
فوق الطريق نفسه.
و لذلك لا أعلم هل
أنا على الطريق
أم أنني في البيت.
ولكن كأرملة التزمت شيلسي الصمت و الهدوء. و كانت تقشر الجلد الرقيق الذي يغلف الأظافر حتى تدمى. و أحيانا لا تنطق بكلمة طوال نصف يوم. و لكن كمطلقة كنت متبجحة، سكرانة في معظم الأوقات، و غالبا أتحرش بنظراتي بأقرب رجل مني. ولم أكن على وجه الخصوص منتصبة أو منجذبة لأي واحد منهم. كان يريحني أن أضع وجهي برقبة شخص مجهول دون التفكير بأي شيء باستثناء إمكانية أن يضع يديه على جسدي.
على الطائرة المتوجهة إلى روما طلبت عدة زجاجات بلاستيكية صغيرة من الفودكا. كان الكوكتيل يغويني دائما. إن لم أشرب النبيذ أفضل شرابا من نوع الجرعة الواحدة. و متى بدأت بالارتعاش و المرارة من المذاق أخبر نفسي أنه ليس من المفترض للدواء أن يكون بمذاق طيب. بل المفروض أن يكون مذاقه مرا.
قالت شيلسي و أنا أبلع زجاجتي الثالثة الصغيرة:" أشعر بالقلق عليك".
أُعطي السجناء أقنعة، وتقدَّم أحد الكهنة كي يقرأ عليهم الشعائر الأخيرة، ووقف الرجال بعدما أسدلت الأغطية على وجوههم، ورفع الجنود بنادقهم وصوّبوها نحوهم، وقبل أن يُعطى الأمر بتنفيذ الحكم، وصلت عربة مسرعة إلى الساحة، وترجل منها رجل يحمل مغلفا، والذي حوى حكمًا نهائيًا بتخفيف العقوبة، بقضاء أربع سنوات مِن الأشغال الشاقة في سجون سيبريا، يتبعها فترة خدمة في الجيش.
وكانت هذه اللحظة هي البداية الحقيقية لأسطورة دوستيفسكي الأديب الذي صنع تاريخًا أدبيًا مبهرًا، ويسجّل هذه اللحظات في الرسالة التي بعثها إلى أخيه يقول فيها: "حين أنظر إلى ألماضي، إلى السنوات التي أضعتها عبثا وخطأ، ينزف قلبي ألمًا، الحياة هبة.. كل دقيقة فيها يمكن أن تكون حياة أبدية مِن السعادة! فقط لو يعرف الأحياء هذا، الآن ستتغيّر حياتي، الآن سأبدأ من جديد".
يتسلل الهدوء إليّ شيئاً فشيئاً. الأسباب التي كانت تدفع نحو تدمير الذات، ربما بدأ تأثيرها يتلاشى. ويبدو أنه لدينا فرصة كبيرة في خضم هذا الهدوء، وهذا الجو العام المسالم، من أجل إجراء مراجعة نقدية على مستوى الحياة الشخصية والحفر فيها عميقاً فلسفياً أو أدبياً أو علمياً. لِمَ لا طالما أن الوجود هو أولاً وخصوصاً وجود شخصيّ؟. يمكنني القول إن جواً عاماً ذا صفات أمومية، ربما يسود هنا في معنى ما. لا أتحدث طبعاً، عن مثالية وملائكية وقداسة ونبوة وطهارة وما شابه، إذ البشر هم البشر في كل مكان، والمجتمعات البشرية هي المجتمعات البشرية، والشعوب هي الشعوب، إنما ما يمكنه أن يُحدث فرقاً هو وجود الناس في دولةٍ هي دولة حق وقانون. ماذا يعني أن الجو العام هنا، وبصرف النظر عن التفصيل أو الجزء،
يتألف الكتاب من مقدمة وسبعة فصول وخاتمة ومسرد بالمصادر والمراجع التي اعتمد عليها في هذه الدراسة التي اتسمت بطابعها الأكاديمي، وتوزعت على جزئين متكاملين، أولهما جزء نظري والآخر تطبيقي، يتناول في الجزء الأول نشأة الصوفية التي يتوقف عندها مليا لتوضيح وجهة نظره من خلال التركيز على إبراز مكنونات هذه التجربة وتفردها، في الوقت الذي يؤكد فيه أن فهم هذه التجربة لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن دراسة جميع جوانب الحياة، والتعمق في فهم تفرد التجربة الصوفية وابتعادها عما كان سائدا على صعيد السلوك الإسلامي، لاسيما من حيث الزهد العملي. بالمقابل لا يسعى الباحث إلى التوقف عند المفهوم اللغوي للمصطلح الصوفي واشتقاقاته، أو الأصول التي تعود إليها تلك التجربة، لأن المهم بالنسبة إليه هو الوقوف على تفرد الشعرية الصوفية النابعة من التجربة الصوفية المتفردة.