اليوم التالي في سورية، إذا لم يحدث انهيار غير محسوب، لن يكون على شاكلة انتهاء الأنظمة الأخرى. النموذج الذي قد تميل إليه الإدارة الأميركية خليط مما حدث في تونس واليمن: رحيل وتنحٍّ لرأس النظام بالتزامن مع تقاسم النفوذ في مؤسساته. من وجهة نظر الإدارة، هذا ما يضمن عدم تكرار النموذج العراقي، ويضمن بقاء أجهزة أمنية قوية قادرة على مكافحة الإرهاب. وفق هذا التصوّر،
بالمعنى السياسي والاستراتيجي، يمكن الحديث من دون وجل عن مؤامرة موصوفة كانت وراء سقوط المدينتين. عراقياً، يكمن وراء الموقف قرار إيراني واضح الأهداف. فالعراق اليوم، وعلى رغم تغيير رئيس الوزراء نوري المالكي لصالح العبادي الذي يجري إلباسه ثوب الاستقلالية النسبية عن إيران، إلا أن الواقع على الأرض يشي يومياً بأن القيادات العسكرية والأمنية ذات ارتباط إيراني أكثر منها عراقي.
هذا المسعى كان شديد الأهمية في ربيع 2005، إذ حدثت لحظة نادرة في التاريخ اللبناني من «الإجماع» الوطني، فمع اندلاع «انتفاضة الاستقلال» كان واضحاً أن المجموعات اللبنانية كطوائف: دروزاً ومسيحيين ومسلمين سنّة، وفي مقدّمهم وأمامهم ـ فعلاً وقولاً ـ النخبة المدنية وجموع «المواطنين» الذين لا يعرّفون أنفسهم بهويتهم الطائفية، جميعهم التقوا على مطلب «الحرية والسيادة والاستقلال»
«داعش باق ويتمدد» أيضاً في سورية، فها هو النظام ينسحب برشاقة من مدينة تدمر. هزيمته أمام «داعش» كانت أنيقة ومريحة، بينما حملت هزائمه في إدلب طعم المعارك الحقيقية. وعلى غير عادتهم، تولى إعلاميو النظام في سورية وفي لبنان زف خبر استيلاء «داعش» على تدمر بسرعة احتفالية، بينما تأخروا في إعلان هزائمهم في إدلب،
وليس بعيداً موقف الغرب الديموقراطي المخاتل في تأييده اللفظي للشعب السوري، وسعيه للإبقاء على نظام الدكتاتور، خوفاً من وصول الإسلاميين إلى السلطة، في الوقت الذي نعرف الكثير عن الوشائج التي تربط أجهزة الاستخبارات الغربية بالجماعات الجهادية. الكلام عن حقوق الإنسان في أميركا والغرب، يقابله على الأرض الدعم العلني والخفي لكل ما هو معادٍ لحرية الشعوب وتحررها من أنظمة الاستبداد.
أصبحنا اليوم في حال أصعب. فاستيلاء «داعش» على كامل تدمر بعد انسحاب القوات النظامية منها، وإخلاء المدنيين ونقل مئات التماثيل والتحف الأثرية إلى دمشق، يعد بإثارة وتشويق مشهديين قد يفوقان ما صنعه التنظيم الإسلامي بالمعالم الأثرية في الموصل ومواقع أخرى. أصبحنا أمام مشهد سريالي. بات «داعش» يحتجز مواقع أثرية حظيت طوال عقود بصيانة ورعاية شبه طبية،
طلب مني الجلوس جانباً والانتظار. نعم، السوريون انتظروا كثيراً، أصلاً هم خلقوا لينتظروا. ينتظرون الطابور الطويل لشراء ربطة خبز ورتلاً من السيارات لملء خزّان السيارة بالوقود، وزحمة لا تطاق لدفع فاتورة الهاتف، وأياماً طويلة للحصول على موافقات أمنية لأمور حياتية تافهة، وبعد الثورة ينتظرون شهوراً للحصول على ساعتين متواصلتين من الكهرباء، وعلى الغاز والماء.
وهذا ما حصل مع بعض ما نشر من أبيات او قصائد لبول ايلويار. وقبل أشهر، صدر ديوان شعر حب لبول فاليري بعد سنوات من رحيله، كتبه لامرأة «سرية»، واحتفظ بالقصائد في دُرجه. وبعد سنوات من المباحثات، وإقناع أقرباء الشاعر الراحل، لا سيما ابنته، بالسماح بنشر هذا الكتاب... صدر وكان مجموعة من القصائد والرسائل الرائعة!
ومن المفارقات، أن حملة التحالف قد ساهمت في قرب انهيار القوات القومية في شمال سورية التي كانت على رغم نواقصها أكثر خصوم تنظيم «الدولة الإسلامية» تأثيراً، ونافست «جبهة النصرة» في قيادة التمرد. وفي حين أن المجموعات القومية تعد أفضل حالاً في الجنوب، فقد بدأت مواجهة تهديد من جانب الجهاديين هناك أيضاً.
صحيح أن الفتيات في المدن العربية (وحتى في طهران) رحن «يتلاعبن» على موجبات الحجاب و»الزي الشرعي»، ويتحايلن بالموضة والماكياج والأثواب، كي يبتكرن حضورهن الشخصي والفردي في الفضاء العام، فيبدون «محجبات صاخبات» (إذا صح التعبير)، إلا أننا هنا مع عرض «أنتيغون شاتيلا»، نعاين نساء الأرياف والضواحي الفقيرة ومناطق العشوائيات