حين كنتُ طفلاً، كان يجذبني حد الغوايةِ منظر ممثلٍ يقوم بدور صحفي أو أديب في التلفاز، وكنت أتلذذ كثيراً برؤيتهِ يحمل مصنفاً رمادياً فيه أوراقٌ يريد نشرها، ويقوم بتسليمها لرئيس التحرير الذي يطلب منه أن يخفف من لهجته النقدية أو ينقل إليه إعجاب القراء…
وحين أرى مشهداً فيه كاتبٌ وراء طاولته منهمكٌ بالكتابة، كنت أحلم أنني يوماً سأملك مثل هذه الطاولة، كما أملك نفس الأوراق البيضاء-كنت أتذكرها حين أرى الحمام ساعة العصر محلقاً فوق دار جدي ذات الطراز العربي القديم-…فالورق الأبيضُ يعني لي الحمام، الذي كان يستخدم كساعي بريد، أما قلم الحبر الذي كان يحمله الممثل ، فكنتُ أوفِّرُ (الخرجية)كي أشتري قلم حبر غالي الثمن مثله، كنت أعشق رائحته التي تشعرني-حتى الآنَ- بالدفء والأمان، وكنت أحلم بأن أصبح شاعراً، تُنشر دواوينه وينقل مخيلته إلى الورق، ويمر أمام المكتبات لكي يراها معلقة.
لا أعرف بردى جيداً، هو ليس مجرّد نهر، «كما النَّسمة منه ليست مجرَّد نسمة»، إنّه أخدود دفنت فيه أحلام ونظرات عيون، وفيه قذف عُزَّل حصى وبذخوا وقتاً للتأمل. لا أعرف النهر بتاتاً، فلست من الجيل الذي شهد عنفوان النهر العظيم. لم أعرفه إلا حزيناً وجافاً، لكنه يعرفني، فهو لا ينسى من مشى على ضفتيه يوماً. أؤكّد أنّه لا يَنسى، فهذا الماثل في الجغرافيا هو الوحيد الذي استطاع منذ فجر المدن وشمسها أن يشقَّ دمشق الأليفة. أفيكون عاجزاً عن أن يشقَّ قلوباً وأخيلة؟.
قديماً، خبرت النهر في مساءات صيفية بصحبة فتاة سمراء، «من أصولٍ بركانيَّة»، أحسست معها بالنهر أول مرة. ومن يومها لم أعد أستطيع أن أكون حيادياً تجاه كينونته الغافلة ووجوده الأزلي. كان فيه خيطاً رفيعاً من الماء هو مزيج بين ما تبقى من روح النهر وبين مياه الصرف الصحي، وقتها كان النهر سريعاً وجارفاً وجافاً في آنٍ معاً، ولم يكن ثمّة «سدٌّ يمنع
"مدد مدد/ وشدى حيلك يا بلد/ إن كان في أرضك مات شهيد/ فيه ألف غيره بيتولَد/ بُكره الوليد/ جاي من بعيد/ راكب خيول/ فجره الجديد/ يا بلدنا قومي واحضنيه/ ده معاه بشاير ألف عيد/ قومي انطقي/ وسيبك بقا/ من نومة جوا في شرنقة/ ده النصر محتاج للجَلَد/ ومدد مدد/ لو كان في قلبك شيء قوليه/ الحزن هيفيدك بإيه/ يا سكة مفروشة بأمل/ مشوارنا حُطّوا العزم فيه/ يا بلدنا سيبك م الدموع/ قومي اقلعي توب الخضوع/ ده الحق لسه بيتجلد/ ومدد مدد."
هل تذكرون هذه الأغنية الفاتنة؟ كتبها الشاعر إبراهيم رضوان، ولحّنها وغناها المطربُ والمناضلُ المثقفُ محمد نوح عام 1968، بعد هزيمة يونيو الأسود. ولأن القائمين على الهزيمة شاءوا لها أن تُسمى "نكسةً"، لا "هزيمة"، فكان لابد من نسْج سياق اجتماعيّ وفكريّ، بل وفنيّ، يتّسقُ وهذه المشيئة السياسية! كان لابد من تفريغ الشعب من كلّ حسّ بالهزيمة،
ثمة خيط رفيع يمتد عبر الزمن، يربط بين حمّام عالم الفيزياء القديم أرخميدس، وتفاحة نيوتن (الحقيقة)، وتفاحة تسيف جوبس الافتراضية، وحتى مطرقة الخليل بن أحمد التي كانت قبل ذلك. وتفاحة نيوتن تحيل على درس الفيزياء، الذي كان يمر طويلا ثقيلا، والمعلم يطنب في شرح قوانين نيوتن الخاصة بالميكانيكا والجاذبية. كنا نتكلم عن ذلك العالم (إسحاق نيوتن)، وعن أشهر تفاحة في التاريخ، التي ارتبطت به، بعد تفاحة آدم التي أنزلته الأرض، وتفاحة تسيف جوبس الافتراضية التي أصبحت شعارا لشركة «آبل» لأجهزة الكومبيوتر، تلك التفاحة التي سقطت على رأس إسحاق (لم تقل لنا كتب التاريخ في أي موضع من الرأس سقطت عليه، وهل كان حجمها كبيرا حيث تسبب له بعض الدوار)، ونبهته إلى قانون الجاذبية الذي كان مختبئا في جهة من رأسه، وأحدث ثورة في تاريخ العلم مازالت تداعياتها متواصلة إلى اليوم. كنا نقول بشيء من البراءة، وبكثير من خبث الطفولة: «ماذا لو أن إسحاق نيوتن هذا، وعوض أن «يتفلسف علينا»، أكل التفاحة
لا ينامُ العشاقُ إلا حين يهرسُ التعبُ أجفانَهم وتسقط كل مقاومتهم في فخ النعاس.
نومُهم خفيفٌ كالغزلان.. وحين تدغدغُ فراشة ُ الشوق ِ قلوبَهم ينتفضون كأن النوم خطيئة في الغياب.
ماذا يحدث حين تستيقظ امرأة ٌ عاشقة ٌ في الصباح و بها جوعُ ألف ِ لبؤة وألفِ نمرةٍ وألفِ قطةٍ فارسيّة؟
هل يكفي أن تغطي وجهها وترضعَ الغطاءَ كطفل لم يشفَ من عقدة الفطام؟
هل يكفي أن تضم الوسادة إلى صدرها، وتبكي بحرقة كل النساء المقبورات في الحياة؟إنها اليقظة الأكثر ألماً حين تتساقط الروح دمعة.. دمعة .. حسرة .. حسرة..غصة.. غصة..... كل صباح يشرق هو طعنة في وجوديتها وأحلامها وشكٌّ بإنسانيتها.
فوجئت النملة هنية بأصدقاءَ كثرٍ توافدوا لوداعها في المطار فجرَ يومٍ شتائيّ بارد. "ماأجملَ الأشخاصَ الذين نفارقهم!" همست لنفسها وقد خُيّلَ إليها أنّها لمحت طيفَ دموعٍ أيضاً في عيون موظفي المطار الدمثين، ثمّ انتبهت إلى أنّ ماأرهفَ أحاسيسهم حضورُ عروسٍ حسناء. طافت نظراتهم بعنقها الطويل الناعم وسجدت عند شرفة صدرها المرمريّ، وقد لفه الأبيضُ كباقة من زهر اللوز. رَقوا للسحب المتكبرة في عينيها. و زفوها قرباناً لإله العالم القصيّ.
جلست هنيّة في الطائرة الصغيرة إلى جانب هذه العروس فحيّتها بلباقة. اندفعت ألمى قائلة :
" أتعلمين؟ لقد اقترحَ عريسي أن أسافرَ بلباس رياضة وحذاء مريحَين".
- أظنُّه سيجدُ الأبيضَ البهيّ مفاجأة جميلة.
يموتُ الكاتبُ فورًا بعد الكتابة! هكذا تذهبُ المدرسةُ البُنْيَويّة في النقد. فالنَّصُّ، بعيدًا عن كاتبه، يصيرُ كائنًا مستقلاًّ. يدافعُ عن نفسه فيحيا، أو يُخفقُ في الدفاع عن نفسه، فيموت. أما الكاتبُ، فليس له الدفاعُ عن نصّه بعد خروجه إلى النور. لم يعد النصُّ له؛ بل أصبح مُلْكًا للقارئ وللتاريخ. لو كان نصًّا جيدًّا، يُكتَب له الخلود، وإن كان فقيرًا، يموتُ تلقاءَ ذاته، تمامًا، حسب نظرية "الاصطفاء الطبيعيّ" للأحياء. ليس للكاتب أن يقول: "كان قصدي كذا وكذا!" فللنصُّ لسانٌ، يقول، إن كان لديه ما يقوله، أو ليصمتَ إلى الأبد. هذا هو البُعدُ الفلسفيّ للنظرية. لكن لها بُعْدًا عمليًّا أهم. فالكاتب مستحيلٌ، عمليًّا، أن يرافقَ النَّصَّ طوالَ الوقتِ ليدافعَ عنه. فللكلماتِ أجنحةٌ كما قال أفلاطون. النصُّ يعبرُ الجغرافيا بعيدًا عن موطن كاتبه، ثم يعبر الزمنَ فيعيش بعد موت كاتبه. فكيف يمكن أن يعملَ الكاتبُ محاميًا لكلماته؟!
ـ من اهـــم المواضيع التدريسية المقررة للهندسة الوصفية في مرحـلة الدراسة الجامعــية لكلية الهندسة المدنية والمعمارية في العراق ، هي نظرية الرؤى (VisionTheroy)
، وتختلف هذه النظرية عن نظرية الأبعـــاد اختلافا جذريا(الطول ، العرض ، الارتفاع ، الزمن) وما تلاه من اشتقاقات للزمن في حركــتهاللولبــية والحلزونية من القعر حيث يمثل الماضي الى القمة حيث يمثل الزمن المستقبل
فالنظرة الاولى هي النظرة الطبيعية لرؤى عين الأنسان وتسمى:(Human eye)
والنظرة الثانية هي نظـرة لعين دودة الارض من الاسفل وتسمى:(Worm eye)
والنظرة الثالثة هي نظرة لعين الطــير من الاعلى وتسمى:(Bird eye)
/أضعت أحلامي كلّها و احتفظت بحقي في الحياة..
لم أكن أريد أن تنصب لي التماثيل.. كنت أريد جرعة أوكسجين،
أوكسجين فقط .. لم أعدد أردّد
"كلما تهاوى إله جديد
أحسست أنه ثمة منصب آلهة يقترب مني"
بل سلّمت بصعود الآلهة الجديدة كل يوم
بداية من أين لك كل هذه الذاكرة؟ ولاحقا من أين لك كل هذا الوجع؟ وبعدين من أين لك كل هذه الشجاعة؟ وفيما يتصل، من أين لك كل هذه الرواية؟
من جهتي ربما سأعترف، فما قرأته يلزمني بالاعتراف، أولا أمام نفسي، وفي الطريق، بصوت أكثر ارتفاعا، وسيتجه اليك، على الاقل بفعل مافعلت روايتك.
منذ فترة ليست ببعيدة، كنت في مكتبة عمومية، فصادفت كتابا للصافي سعيد، (نسيت عنوانه هذه اللحظة وهذا تقليد موروث بالنسبة لي)، لا.. أتذكر من العنوان : الجنرال، البئر، الصومعة، أخذت الكتاب، بنفس الاستهتار المعتاد، ولكنني لم أقرأه بالاستهتار المعتاد، كل ما بوسعي قوله، أنه كتاب، يمسك بالتاريخ الاسلامي بجثثه وتفاصيله، بخطوط الفلسفة الملعونة، وخيوط الحكم المظفر، وكان