وعلى الأرض السورية، التي شكّلتنا، وما فتئت تفعل ذلك، ما كان ليقوم للثورة قوام لو لم تكن الحرية قوامها ومبدأها، فهي داخلية، مباطِنة للثورة ومحايثة لها، مثلما هي استعداد دائم، ثابت، متوافق مع ذاته، ويُعلي من امتياز الإنسان. الحرية هنا ليست مشتقّة من نزوع يطلقه تصوُّر، وليست موضوعاً خارجيّاً تشرئبّ إليه الثورة؛ بل هي ذلك الجوهر الذي منه تستمدُّ الثورة وجودها وقيمتها، من حيث هي، أي الحرية، الدَّافع الدّفين لتعلّق السوريّ بذاته الثائرة، ومن حيث هي منبع شجاعته،
أما بشأن رحلتي الفعليّة، فإنها لا تقلّ غرائبيّة عن رحلة بطل تلك الرواية، موضوع بَحثنا، بحثا عن الكنز المَدفون في أحد كهوف جزيرة " مونت كريستو ". دونما أن أسلو، مع ذلك، الاختلافَ البَيّن بينَ رحلتيْنا: إذ أبحرَ بطلُ الرواية، " مونتس "، بقارب بحريّ مع ثلة من مهرّبين، التقى بهم عَرَضاً، وصولاً للكنز الذي كان بانتظاره ثمّة. فيما أنّ " بطل " هذه الحكاية اعتمدَ على رجليْه كوسيلة نقل، وكذلك على رفقة عصبَة أصدقاء، في الطريق نحوَ الهدف المَنشود، الخائب على كلّ حال
كي يجبر قارئه أن يمشي معه في خراب طاغ، يعلو الكون ويسوده، فالرجل عادة ما يرتد الينا مثل القادم من حروب خاسرة، قادم مع مخيلة جرحتها الحقيقة، ذاهب الى منفى الأعماق والدواخل. هذا الشاعر يكتب منذ سنوات، دون أن يعبأ بما يحدث أو بمن، لا يكترث بما يحدث، يكتب أحيانا بما لا يسعفه، وكأن النور الضئيل الباقي لا يكفي لأن يتم معنى واحداً، تسكبه الفجيعة في كأس الكون الذي فاض وهو على حافة المشهد يرقب بألم .. هذا الرجل قادم من الفجيعة، وهو مثل نبيها مبشرا بها
جدّي لأبي، هوَ من تعيّن عليه رعايَة " دودة " الوَله بالكتب عند حفيده، العتيد. وبالرغم من حقيقة، أنّ وفاة هذا الجدّ قد جدَّتْ قبل مَولد أمّي نفسها، إلا أنّ المكتبة التي تركها خلفه هيَ بيتُ القصيد هنا. أنّ ما كانَ يأخذ بلبّي، بين ركام مجلدات الجدّ الحائلة اللون، كانت تلك السلسلة من روايات تاريخ الإسلام لمؤلّفها الأديب الشهير، جرجي زيدان، مؤسس دار الهلال. لاحقا، إبان شبابي، كم كنتُ أختالُ فخراً قدّام الأصحاب، حينما كانوا يُدهشون من وجودها في مكتبتي؛ هذه الطبعة النادرة، الأولى،
إن انطواء الثورة على الضحك والنكتة، يحثّ المرء على التفكّر بصفات مثل التصلّب والتعصُّب المشحون بأديولوجيا الحزب الواحد، والعنت والعبوس والتجهّم، وغيرها من الصفات الجدّية التي تأصّلت في نظام الصمود والممانعة السوري؛ مُفضيَة إلى كره المرح والفرح والحياة. ما قد يدفع تالياً إلى عقد مقارَنة بين هذا النظام وبين نظام الكنيسة في القرون الوسطى. نظام الكنيسة الذي انصبّ كل تفكيره بالعذاب الأبدي وحياة ما بعد القبر وإقصاء كل ما من شأنه الفرح والحيوية.
كان يفكّر في نبوءة آينشتاين (لا أعلم ما الذي سيحدث في الحرب العالمية الثالثة، ولكن ما أعلمه جيداً أنه في الحرب العالمية الرابعة ستتقاتل الناس بالعصي)، حين قال لي: يراودني شعور بأن الثورة السورية قد تشعل حرباً عالمية ثالثة. فقلت: ليكن، لا رجوع عن هذه الثورة، وليحترق العالم بنيرانها المبارَكة، فلنيران هذه الثورة وظيفتان: الحرق، والإنارة، وإذا كان من شأن الحرق ترميد الماضي، فالإنارة من شأنها الإشراق
قد فشل المجلس في عدة نواح رئيسية. فقد كان عليه أن يتواصل مع كافة مكونات الثورة السورية، فقصر اهتمامه على بعض مكوناتها؛ وكان عليه أن يمد الجسور مع الفئة الصامتة أو المترددة من السوريين ليشجعها على الانضمام إلى الانتفاضة، ولكنه آثر ألا يكرس إلا القليل من جهده في هذا السياق؛ وكان عليه أن يبذل جهدا في الداخل السوري أكبر من جهده الدبلوماسي الخارجي، ولكنه آثر أن يصب معظم وقته وجهده في لقاءات وحوارات مع الدبلوماسيات الأجنبية وبذل جزءا صغيرا من وقته مع قواعده في الداخل؛
رحيلُ أسمهان المُبكر، على رأيي المتواضع، هوَ من قدّر له أن يَجعلها أسطورة. فهيَ إذ مرّت على كوكبنا خلال اثنين وثلاثين سنة لا غير، إلا أنّ سبعاً منها حَسْب قد حَفِلَ بزخم عبقريتها الرائعة، وخاتمته في آن. في هذه الحالة، ألا يمكننا مقارنة أسمهان بعبقريّ آخر، هوَ الشاعر آرثر رامبو؛ الذي عاش بدَوره عمراً قصيراً، شُغِلَ خلاله بالكلمة لثلاث أو أربع سنين فقط: ولو تأملنا صورة شاعرنا شابّا، لوجدنا فيها ملامحَ من حسن انثويّ. كذلك الأمر، بالنسبة لصورة أسمهان الشابّة الناضجة،
يعتقد الفيلسوف الألماني (هايدغر) أن الإنسان يمكن أن يحيا وجوده على صورتين مختلفتين، فهو إمّا أن يحيا وجوداً مُبْتذلاً، تافهاً، لا قلق فيه، وإمّا أن يحيا وجوداً أصيلاً مُفعماً بالقلق. وجود يستطيع فيه أن يؤكّد ذاته وأن يصبح نفسه. وقد لا نجانب الصواب عند القول إن السوري الذي قرر الثورة على الوجود المبتذل، التافه، يحيا منذ أواسط آذار 2011م، وجوداً أصيلاً مفعماً بالقلق، يثبت فيه قدرته على إسقاط نظرية القمصان السود، وبؤس الدبابة والمدفع والرشاش أمام الإرادة الإنسانية الحرة، أي إرادة الحياة
من بين الجرائم، التي تناهز بحسَب الفيلم الثلاثين ـ كذا ـ لا نشهد سوى تفاصيل قتل تلك الراقصة. بينما ثمة مشهد آخر، تكون ضحيته امرأة متسوّقة هذه المرة، حيث تمّ عرضه باختصار شديد: هذا، لعمري، هوَ اسلوب الفنان الحِرَفي، المتميّز. إذ أنّ هدفَ هذا الفيلم، كما غيره من أعمال أبو سيف، ليسَ الإثارة الرخيصة؛ بل الفن الخالص، المُسَلِط الضوءَ على الواقع بكلّ صدق، وفي آن، بكل شاعرية. لعلّ مشهد نهاية الفيلم، لا يقلّ في تعبيره، وعبرَته، عن ذاك المَشهد السالف العَرض لمقتل الراقصة. إننا هنا، ثانية ً، في منزل الجريمة.