كنت أتساءل وأنا أتوغّل في عمق تلك المعاني، لماذا لم يعلمنا أهلونا ومدرّسونا وغيرهم ممن تولّوا مهمّة تربيتنا كيف نجيد مكابدتها وترجمتها سلوكاً وممارسة، فيما أمعنوا في تخويفنا من الشارع ومن مغبّة الخروج إليه حتى، فكيف بالانتماء؟! لماذا أصرّوا أن البيت المغلق النوافذ والأبواب أفضل، وأن القصر أهم وأعظم، وأننا في المدرسة نتعلم ما لا يمكن تعلّمه في الشارع...لماذا والشارع بكل هذا الصّخب الجميل تم تشويهه ونسف كل ما ينتمي إليه؟ حقاً إنه قد ينطوي على ما ليس بمحمود شأنه في ذلك شأن
ولا يقتصر التابو على كونه شخصاً أو جماداً أو نباتاً أو حيواناً، بل إن هناك تابو الكلمات. إذ يمكن لكلمة ما أن تتحول إلى تابو، فيحظر التلفظ بها، كما يحدث معنا في الحياة اليومية إلى الآن، حين نخشى التلفظ بكلمة (جني) أو (الجن)، فنقول: دستور، أو حتى حين يتطرق الحديث إلى مرض خطير كالسرطان، فنتهيب من التلفظ باسمه، ونستبدله بقولنا: الملعون، أو: اللي ما يتسمى...!. وإنما يحدث ذلك معنا لما نحس به إحساساً غامضاً، من قدرة بعض الأسماء على الحضور والتحقق. ودعونا هنا نتذكر.
الشاعر الحقيقي بطبيعته هو ثائر في المقام الأول ، يسعى من خلال نظرته الكلية للكون أن يغير ما يعكر صفو ونقاء هذا الكون من الظلم والاستبداد وتفريغ الإنسان من إنسانيته ، وهو لذلك يصطف دائماً مع الشعوب المطالبة بحريتها وكرامتها الممتهنة من قبل السياسي كحاكم والمجتمع كرقيب والمنظومة الدينية التي_ تتعسف في تفسير النصوص والأحكام وتحرفها عن وجهتها السامية _ وهي بنتاجها هذا تقف من حيث تدري أو لا تدري مع الحاكم المستبد الذي يستند إلى مسوغاتها الدينية الهشة المشوهة . لهذا كله ينبغي للشعر كمنتج معرفي بالدرجة الأولى
لكل ذلك كان ينتظر للأغنية ورنيم نصها الموقع الشعبي، أن ينتشر وينتشر، أن يتسع ويكبر، وأن يفيض تحدي ممارستها العفوي عن نطاق محيط الساحة إلى مدار الشوارع والبيوت، وإلى معارج الحارات والمدن.. ومن يدري ربما لتغنى من قبل الأطفال المهرولة في الأزقة للعب على طول البلاد وعرضها، هذا إذا لم نتحدث عن الأمهات المنحنيات فوق المهد للغناء أو أثناء شعيرة تلقيم الثدي.. إلى أن تنسرب في الذاكرة الجمعية.. لكل ذلك كان لابد من إبادة القاشوش المغني، والقضاء على احتمال ممارسته الجمالية الغروتسكية من وجهة نظر المتسلط والسلطوي..
وباختصار، هم الآن يتظاهرون كي لا يعودوا ضحايا. ضحايا فقر وعوز، ضحايا قانون لا يمنح الجنسية لأمهاتهم، ضحايا مدارس تركها بعضهم ليتشرّد في طرقات "الوطن"، ضحايا تمييز بشع مورِس عليهم في كل حين، تمييز يقلّل من شأنهم ويهين كرامتهم عبر اختلاق تمايزات مريرة تزرع الكره بينهم وبين أقرانهم "الأفضل" منهم، تمايزات صنعها الاستبداد ليكرّم من لا يستحق ويُعلي من شأن الوضاعة مغيِّباً العدالة. يتظاهرون لأنهم هم من كانت مسلسلات الأطفال الممنهجة تحبطهم أكثر فأكثر لتشعرهم دوماً
أن مظاهرات المدن والشوارع، القرى والأرياف السورية لا تعلن عن يأسها الكامل من أي حل قد يبدر عن تلك السلطة "المأزومة" وحسب، بل أنها ترفض أي "حوار" معها. مع أن دماء أبناء هذه المدن وتلك القرى لم تكف يوماً عن السيلان، وقد لا تكف في المنظور القريب. لماذا ترفض الجماهير كل "حوار" مع السلطة؟ ذلك لأنها قد تخطت عتبة الداخل/الخارج. وعلى مستويين : تنزل الناس في الساحات والميادين، في الطرق وأمام أنظار العالم، أي في الخارج؛ خارج بيوتها ولكن أيضاً خارج السلطة، فيما تتخفى شبيحة وقناصة السلطة خلف العواميد القرميدية، وخلف الأشجار، أو تتخفى في المدرعات المسننةِ بالموت والرعب وهي تداهم البيوت ليلاً. ذلك هو داخل السلطة. أمّا المستوى الثاني، فيتمثل برفض المعارضة السورية الداخلية لأي تدخل خارجي
لقد حاولنا، فيما سبق، تبيان اختلافنا مع ميشيل كيلو في تسميته للوضع الراهن في سوريا "بالأزمة"، وذلك عبر الحاحنا وإصرارنا على أنها "أزمة" النظام وفساد أجهزة الدولة التي يتحكم في مقاليدها، وليس أزمة "المجتمع" وقواه الحية، من الشباب وجماهير "المواطنين العاديين"، دعونا ننظر، باختصار، كيف يعالج كيلو تلك الأزمة" : "ومع أن طريقة الفهم الرسيمة هذه تشكل جزءاً تكوينياً من الأزمة وعقبة رئيسية تحول دون التصدي لها والتوجه الجدي إلى التخلص من أسبابها..." بتعبير آخر، ل،
المتظاهرون المطالبون بالحرية أغلبهم من دون سن الخامسة والعشرين، أي أن سنهم كان أقل من خمسة عشرة سنة عندما مات الأسد الأب عام 2000. ولهذا فهم لا يعرفون إلا الإبن، وهو لا يخيفهم بقدر ما نجح الأب في إخافة آبائهم وأجدادهم. وحتى هؤلاء يعلنون موت الأب-الملك حتى بعد موته حين يهتفون "يلعن روحك يا حافظ". التغيير ليس سهلاً، والخوف من المستقبل الغامض ليس سهلاً أيضاً، وقتل إرث الخوف والكبت أصعب مما تخيلناه سواءاً كنا معارضين مصرحين بمعارضتنا أو معارضين صامتين أو مترجين "فرصة أخرى للنظام". لكن حان الوقت لكي "يموت الأب"، إنه جاثم .
وأقول كلمتي الأخيرة لأصدقائي ورفاقي فليسمحوا لي بالاعتذار لهم بحق الضحكات التي ضحكناها سويا والدموع التي ذرفناها أعتذر منهم لحضوري هذه الندوة ولكلامي الذي سبب إحراجا كبيرا لهم وإنما عذري بأنني لم أكن أتوقع أن يرد عليّ رجل ( سياسي جدا ) بهذا القدر من السياسة فالسياسة بالنسبة لهؤلاء لا أخلاق لها ولا وجدان وأتوجه إلى كل قواعد الحزب النظيفة والى كل من يعز عليهم تاريخ يمتد إلى أكثر من ست وثمانين عاما تشردت خلالها مئات العائلات وذاق آلاف مرّ الدموع ، وتجرعوا سمّ العذابات وحوربوا بلقمة عيش أطفالهم .
ان من يقول إنه ليس مع هتلر وليس ضدّه هو مع هتلر بالتأكيد. هناك أيضاً من لا يخفي انزعاجه من الربيع العربي بعدما اطمأن إلى أن العرب انقرضوا. فمن أين خرجت هذه الجموع كلّها؟ كيف استيقظت ونفضت عنها الأكفان؟ من أين جاء هذا البوعزيزي الذي أضرم النار في نفسه احتجاجاً على العهر الرسمي القائم، فخلخل المصالح والتوازنات، وأطاح نظريات الثوريين الافتراضيين بأكملها؟ الذين ينادون بالحرية والتغيير منذ نصف قرن يحارون اليوم في ما يجري. فما بالها الثورة تخمد هنا لتشتعل هناك؟ كانوا يريدونها ثورة على الورق. كان نداء التغيير، بالنسبة إليهم،