كنت حريصة على ألاّ تفوتني أي حلقة من ذلك البرنامج ...كنت أتابعه بحب و أندمج مع المشاهد العاطفية، و لطالما ذرفت الدموع سخية تعاطفاً مع ما كنت أراه، و لكن و في كل مرة كان ابني يقبض عليّ متلبسة بذرف دموعي أمام شاشة التلفاز ينهال عليّ بشبه توبيخات و تهكمات مبطنة: ماما ... يا أمي ..يا يما.. هذا هراء ... ميديا.. يا ماما.. ميديا .. يكفي ...
رفع عيني عن شاشة الهاتف، أرمي به جانباً، أشعل سيجارة، أنفث دخانها ببطء وأتلذذ بها رغم السعال الذي ينتابني بين الحين والآخر، أنهض من مكاني، أتجه نحو نافذتي اليتيمة بغرفتي، الشارع أمامي هادئ ويغرق في الظلام وبين الفينة والفينة تمر سيارة مسرعة كسرعة البرق تشق الظلام بأضوائها الساطعة.
رحت أفكر مع نفسي..
"من وليد ل.؟"
كان ذلك الاسم الذي كنت أستخدمه في البطاقة المزورة. كان الرجل يقف وراء الكنتوار في الأمن العام على الحدود السورية-اللبنانية، يحمل بطاقتي بيده ويتأمل الوجه. خفق قلبي بعنف، واستشعرت كآبة لسماعي رنة الصوت. لم يكن سؤالا بريئا. والبطاقة كانت رديئة التزوير.
مفهوم الكارثة لديه مختلفٌ عن مثيله لدينا، فما تعتبره مجرد حادثة، ربما يكون عنده كارثة، وأكثر من مرة حصل أن أذكر أمامه شيئاً عن حادث سيارة فينتفض مصححاً تعبيري عن الحدث طالباً مني وصفه بالكارثة، مسترسلاً بطرح أسئلة عن وجود سيدات بين المصابين، واسم المشفى الذي يتولى علاجهن، واختصاصات الأطباء الذين يباشرون مهمة إنقاذهن وإسعافهن.
غاب تسع سنين، حدث خلالها الكثير الكثير، ثم فجأة عاد أبوطشت. وعند كل خطب، أو نائبة، أو شدة، كنت أتوقع ظهوره، ناصحاً، مواسياً، مؤازراً، لكنه لم يفعل. رجع، وبذات طريقته المعهودة، الغرائبية، طلب مني مباشرة مهامي معه دون أن يبرر أو يفسر اختفاءه السابق، وأنا، ربما بفعل الحنين له، أو للماضي الذي جمعني به، وافقت من فوري على أداء وظيفتي. ـ جيد أنك أصبحت لاجئاً في ألمانيا، هذا سوف يفيد مشروعي الجديد كثيراً.
في المحصلة، بقي في سورية أشخاصٌ معارضون، وهؤلاء إما غير مرتبطين بأحزاب، أو أنهم كانوا في أحزاب معارِضة واختلفوا مع قياداتها بالرأي فانسحبوا منها، أو منتسبون إلى أحد أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، ولكنهم يعارضون نظام الأسد، وأحياناً ينتقدون سياسة أحزابهم لمهادنتها النظام.
كان عليّ أن أبتدع أفكاراً تقنع الرئيس، تكون مجدية وعملية وقابلة للتطبيق، وإلا لا مفر من تحمل عبء وزارة لا أرغب بإرهاق نفسي به.
ـ سيدي يمكنكم تحقيق الغاية بوسائل أكثر فعالية من مجرد استخدام صعوبة اللغة العربية لحث الألمان على المغادرة.
مرةً أخرى تنقذني صفحة جدي حسان محمود على الفيسبوك، و ينثال مطرها فوق صحراء ارتباكي وحيرتي.
.
يا باسم
قل لي .. أرجوك ...
هل دمشقُ بخير؟
أم أنّ الأناشيدَ والشفاه صارت تسيلُ بين الأحذية !!؟
... قل لي يا صديقي ... أخبرني
فأنا أحتضرُ هنا كنهايةِ العزفِ عند ابتداءِ الحفل ..!
أحاول بشكل جدي أن أتعلق بقضيّة أهتف أو أندد من أجلها، أي حدث، أي قضية، أي مناسبة: ضرورة حماية الحياة الفطرية، تدوير النفايات مثلاً، المنتخبات العربية المتأهلة لكأس العالم 2018، تكليف (عمر الرزاز) بتشكيل حكومة جديدة في الأردن، التفجيرات الأخيرة في بغداد، أحاول لكن دماغي مثل ورقة بيضاء والخواء الذي يحيط بروحي يمنعني من رؤية المشهد، فأكتفي بالصمت والكتابة، الكتابة عن الخيبة والمحبة والكآبة، أكتفي بسماع الأغنيات أغنية تلو أغنية "وأمسح دموعي بمنديلك".
انقضت أسابيع ثلاثة منذ آخر رسالةً أرسلتها لكِ، وأنا فيها –الأسابيع الثلاثة- قطعة خشبية تلعب لعبة الجنون والنشوة على أمواج محيط غاضبة، نعم غاضبة، أليست أضعف الأشياء وحدها القادرة على تركيع الشرور الكبرى إن هي أدركت مواطن القوة فيها؟! وألم تودي بالنمرود البعضوضة؟، ألا يحق للأمواج الغاضبة أن تجن حمقاً، وأن تزفر غيضاً، وجبروتها الأحمق ينقلب خاسئاً وهو حسير أمام قطعة خشبية ضعيفة!